صنيعة رجال لحظة أقوياء أضاعوا نفوذهم أم قط سياسي بسبعة أرواح، ما حقيقة الرجل؟! في زمن متقارب غادر أحمد أويحيى قيادة الأرندي مع الرحيل المهين والقاسي لعبد العزيز بلخادم من على رأس الأفالان، وكلا الشخصين المتنافسين، كل على طريقته لخلافة مرشحة لبوتفليقة تركا من ورائهما فراغا كبيرا داخل حزبيهما بحيث تحولا إلى ضحيتين غامضتين لقوة خفية لم تعلن عن نفسها، لكن في أية حال ظلت هذه القوة الخفية مرتبطة بالدائرة الضيقة المتحلقة حول الرجل الصامت عبد العزيز بوتفليقة.. وأشيع في وقت ما، ولزمن طويل أن الرجلين كانا بمثابة العنوان الخفي للصراع الذي لم يفصح عن نفسه لإرادتين متنازعتين حول من يكن صاحب النفوذ الفعلي والكلمة الأخيرة في رسم نهاية حقبة أو استمرارها، وهاتان الإرادتان يمكن اختزالهما في قطبين أساسيين، نواة العسكر الصلبة التي أضفيت عليه بعض الأسطورة تتمثل في القيادة الأمنية لجهاز الدياراس وقطب الرئاسة الذي يمثله دون منازع شخص الرئيس بوتفليقة، وكثيرا ما أشار المراقبون أن عبد العزيز بلخادم رغم ماضيه السياسي كان في نهاية المطاف خلال حقبة الرئيس بوتفليقة الصنيعة السياسية لهذا الأخير بعد أن تم إبعاده منذ استقالة الشاذلي الاضطرارية للحكم من الدوائر الفاعلة وألحقت به بعد ذلك، قائد تيار "البار بأفلان"، فلقد أصبح بلخادم الممثل الشخصي للرئيس بوتفليقة وكاتم أسراره لبعض الوقت، وكان مبعوثه إلى الإسلاميين الراديكاليين يوم كان بوتفليقة على الإنجاز الكامل لصفقة المصالحة الوطنية ورجله المخلص في قيادة التمرد الذي وصف بالحركة التصحيحية داخل الأفالان ضد علي بن فليس الذي اختار أن يبارز بوتفليقة سياسيا في مباراة رئاسيات 2004، ومن يومها عممت وصفة الحركة التصحيحية وهي بدعة أفالانية رعاها بلخادم لتتحول إلى أسلوب اعتمدته السلطة في زعزعة الأحزاب غير الموالية من الداخل وبالمقابل وعلى الطرف النقيض حسب أويحيى خريج المدرسة الوطنية للإدارة والمتدرب في دهاليز الملفات العسيرة للدبلوماسية الجزائرية على النواة الصلبة للمؤسسة العسكرية بحيث وصل خصومه إلى تجريده من كل الذكاء والخبرة السياسيين واختزلوه كجندي مطيع ومنفذ للعسكر ولم يكن ذلك يثير حفيظة أحمد أويحيى إلا أنه كان يستبدل ذلك ليس عبدا للرجال، بل عبدا للدولة كونه يضحي بكل القناعات الشخصية والعائلية لخدمتها، فهي في نظره الأساس لوجوده كإطار ورجل سياسة من طراز رجال السياسة غير التقليديين الذين تمرسوا في إطار المشهد الحزبي للحركة الوطنية السابق لحرب التحرير الوطنية وكثيرا ما كان يردد أمام مقربيه أنه يستمد عقيدته السياسية من المرجعية البومدينية، فهو يصف مرحلة حكم هواري بومدين بمرحلة العزة الحقيقية على ضوء كل القرارات التاريخية والشجاعة التي اتخذها بومدين، سواء ما تعلق بالتأميمات أو التعامل مع القوى الغربية والأمريكية، أو بمسألة الشرق الأوسط، خاصة المسألة الفلسطينية والوقوف إلى جانب حركات التحرر في إفريقيا بشكل خاص، وفي آسيا وأمريكا اللاتينية.. وإلى جانب ذلك كله يعتقد أحمد أويحيى أنه النتاج الخام والأصيل للمدرسة الجزائرية، وكان دخوله إلى عالم السياسة من باب الإدارة التي تعني الولاء للدولة والانضباط وعدم وضع الشروط المسبقة في تقلد المناصب، لذا لم يشعر بالانتقاص عندما تم الاستغناء عن خدماته من على رأس الجهاز التنفيذي إلى وزير.. انتبه الرئيس ليامين زروال إلى قدرة أحمد أويحيى على إدارة الملفات العسيرة، فأولاه رفقة زملائه ممن كان يطلق عليهم أصحاب القرار في التسعينيات مهمة بالغة التعقيد، تتمثل في متابعة الحوار مع شيوخ جبهة الإنقاذ الذين كانوا وراء القضبان، خاصة الشيخين عباسي وعلي بن حاج، وكان يرافقه يومها الجنرال محمد بتشين عندما اندلعت بين أحمد أويحيى وعلي بن حاج مشادة خفف من حدتها الجنرال بتشين وحتى عندما لم تكن نتائج الحوار مثمرة بين السلطة وقيادة جبهة الإنقاذ لم ينقص ذلك من مكانته داخل سرايا الحكم بل تعاظمت ثقة أصحاب القرار في قدرته ما جعله يتقلد رئاسة الحكومة في زمن صعب ومعقد اتسمت به فترة حكم ليامين زروال خاصة بعد موجة الاغتيالات والاقتتال البشع والمجازر التي هزت الضمير العالمي ما فتح الباب على مصراعيه أمام عدة قوى دولية لضرورة التدخل الخارجي، لكن تمكن الحكم من تجاوز هذا التحدي في فترة أحمد أويحيى الذي نعت في تلك الفترة بالرجل الاستئصالي، أي المساند للحل الأمني الشامل، إلا أن من يعرف الرجل عن كثب، يقولون إن الرجل لم يكن ليعبر عن رأيه الشخصي، بل كان يعبر عن الإتجاه الغالب داخل الحكم، الدليل أن أحمد أويحيى، كان أحد المهندسين للشرعية الناشئة التي أدت إلى ميلاد الأرندي الذي أثيرت من حوله سجالات وشكوك كون أن هذا الحزب سيتحول إلى حزب ليامين زروال ورفيقه المقرب الجنرال محمد بتشين.. ويدلل أصحاب هذا الرأي أن أحمد أويحيى الاستئصالي تمكن من تحمل تبعات هذا الانضباط بسياسة الحكم عندما استجد وضع جديد ومالت السياسة الرسمية الجزائرية نحو المصالحة التي أضفى عليها القادم إلى رأس الحكم عبد العزيز بوتفليقة الشرعية السياسية.. ومنذ البداية تعرض أويحيى باعتباره كان على رأس الأرندي ومقرب من النواة الصلبة للنظام إلى نقد لاذع من قبل بوتفليقة لكن الرجل أثبت لبوتفليقة نفسه باعتباره الممثل الأول للدولة الجزائرية عن ذات الولاء الذي عبر عنه في حقبة زروال، وترجم ذلك إلى أفعال عندما وقعت الواقعة بين علي بن فليس وبوتفليقة في رئاسيات 2004.. وكان ذلك ما أثلج صدر بوتفليقة فمنحه كل ثقته في حقبة بناء الائتلاف الرئاسي.. وحسب مقربين من أويحيى أن الرجل يدرك جيدا تلك السمعة السيئة التي تلاحقه لدى الخصوم، لكن لدى قطاع عريض من الفئات الإجتماعية، لكن ذلك كما يقول، هو ثمن "الوفاء للدولة" الذي يجب أن يكون الولاء لها فوق كل محاولة كسب لود الجماهير على حساب المصلحة العامة التي تتطلب في أحيان كثيرة تضحيات يلازمها ضبط الأعصاب وكبح للرغبات وكبت للنفس.. ويضيف من اقتربوا منه أن نعته بالرجل صاحب المهمات القذرة قد أكسبه شخصية تحولت من شخصية منبوذة وغير شعبية ومكروهة إلى شخصية ينظر إليها باحترام وذلك برهان أحمد أويحيى على عنصر الزمن الذي راح يعطيه بعضا أو كثيرا من الحق بعد انقشاع الغمامة وظهور الأشياء على حقيقتها ويدلل هؤلاء عن تميز أسلوبه الذي اتصف بالصراحة أحيانا الصادمة وعلى قدرته العتيدة التي اكتسبها من تمرسه في المفاوضات الدبلوماسية في مجادلة خصومه وإرباكهم والتي منحته مكانة انتزعها بالعناد والمثابرة.. ويكون بذلك حسب هؤلاء المقربين تمكن من استحداث أسلوب خاص به في إدارة الشأن العام، وبالتالي فرض نفسه كرقم لا يمكن البقاء تجاهه بشكل لا مبال كرجل يمتلك أن يكون لاعبا خطيرا في ساحة رئاسيات 2014، لكن السؤال الذي يثيره هؤلاء هو نقطة الضعف التي يعاني منها أحمد أويحيى وهو في هذا يكاد يكون صورة لأولئك الذين انتقلوا من دائرة الإدارة والبيروقراطية والتكنوقراطية إلى السياسة، بحيث لم يتمكنوا من التخلص من عقدة الوظيفة على حساب الأداء السياسي الذي يتطلب جانب المجازفة وقوة المخيال الحر، وقد يرجع غياب المجازفة والانضباط الأعمى لدى أحمد أويحيى، إلى تشبعه بالعقيدة ذات الطابع البونابرتي المبجلة للدولة إلى درجة العبادة، وهذا ما دفع بالكثير من هذا النوع من السياسيين إلى أن يتحولوا إلى سلطويين ودكتاتوريين تجاه شعوبهم وهم يظنون ربما صادقين أنهم بذلك يخدمون شعوبهم وبلدانهم... ولقد أخذ ذلك على هواري بومدين نفسه الذي حرم الجزائر من إحراز تقدم على مستوى الحريات والوعي الديمقراطي، وظهرت نتائج ذلك بصورة واضحة بعد اختفائه من الساحة.. عبارة أصبحت مشهورة، وكان أول من ابتدعها مولود حمروش عندما قال إنه لن يترشح أمام بوتفليقة أو أي شخص آخر إذا ما كان هذا الشخص يحظى بتزكية المؤسسة العسكرية، وبرر حمروش حينها ذلك، أنه صاحب ولاء، وابن النظام، ثم أضحت هذه العبارة على لسان أكثر من إطار سبق وأن كان على رأس المسؤوليات الكبرى، فلقد قال بلخادم إنه لن يترشح إلى الرئاسيات إذا ما قرر بوتفليقة أن يترشح، وكان نفس الأمر بالنسبة لأحمد أويحيى في مناسبة أخرى.. ويذكر سيد أحمد غزالي إلى أحد مقربيه أنه سأل مجموعة من أصحاب القرار في العام 1999 إذا كانوا يساندون فعلا المترشح بوتفليقة، فإن كان الأمر كذلك، قال غزالي، "أنا لن أترشح ضد مرشحكم" لكن أصحاب القرار لم يقدموا له أي إجابة، لا بالسلب ولا بالإيجاب.. لكن فيما يبدو الآن أن الدائرة أصبحت ضيقة فهي تتجاوز من كانوا يسمون بأصحاب القرار لتكون على مستوى بوتفليقة نفسه، لذا فلا مقربوه المقربون، ولا دوائر أخرى لديها الجواب اليقين إذا ما قرر بوتفليقة أن يتقدم أو يمتنع إلى ولاية أخرى... وما كان يبدو ذلك إيجابيا أصبح الآن خاليا من كل معنى، لأن ذلك يجرد الفعل السياسي من كل مبادرة وكل صدقية وكل حرية.. وهذا ما اهتدى إليه علي بن فليس الذي حتى وإن مكث في بيته صامتا طيلة المدة التي ابتعد فيها عن الحكم إلا أنه اختار الصمت الإيجابي، وفحوى هذا الصمت الإيجابي أنه لم يتوقف عن إقامة الشبكات والتواصل مع الأنصار والعمل في الميدان على الإستقطاب اليومي، والحثيث حتى للقوى التي لم تكن مناصرة له، وهو بهذا شكل استقلاليته النسبية وامتلك قوة هي في انتظار الساعة صفر وبذلك تفوق كل منافسيه الذين كانوا يمتلكون أنصارا وسمعة واسعة داخل المجتمع.. فهل سيكون أويحيى، أويحيى آخر، بعد ما كان خروجه من الحلبة السياسية من باب غير مريح، ومؤلم بالنسبة إليه..؟! هناك رأيان، الرأي الأول يعتقد أن الرجل غير قادر على التحرر من ثقافته القديمة التي تجعل منه موظفا منضبطا أكثر منه رجل سياسة لديه موهبة في أخذ زمام المبادرة والقدرة على خوض المجازفة، ويدلل هؤلاء على رأيهم أن الرجل لم يكن قادرا على استرجاع منصبه من على رأس الحزب، بمجرد قيام حركة تمرد ضده وهو ممن يظلون ينتظرون الضوء الأخضر الذي قد لا يأتي لأن الظروف بدأت تتغير وأن ميزان القوة لم يعد نفسه باعتبار أن الحركة والتغيير هما من يتحكمان في ميزان القوة وليس الثبات والجمود، إلا أن أصحاب الرأي الثاني، يرون أن أويحيى الذي تمرس على طول النفس والعناد قادر على استثمار الفشل الذي مني به داخل حزبه، وهو يدرك جيدا أن الرئيس بوتفليقة المرتاب منه قد فقد قدرته على المناورة وبالتالي يسعى إلى استعارة ذات أسلوب بوتفليقة ليستخدمه في اللحظة المناسبة، كما أنه يدرك أن تلك الكراهية التي كانت موجهة ضده تمكن من تذويبها وأن اختفاءه المؤقت من على الواجهة قد خدمه وجعل منه وجها مقبولا وأنه يملك في اللحظات العصيبة حظا غير متوفر للمناضلين الآخرين، وبين هذا الرأي وذاك يظل أويحيى من بين الأوراق التي قد تلعب في عملية البحث عن لحظة توافق بين دائرة الرئيس والدوائر الأخرى غير المستعدة أن تكون كبش فداء في زمن مليئ بالشكوك والحذر المتبادل وفي ظل مشهد يتسم بالضمانات الهشة..