التحالف مع اليسار الإصلاحي قاد السلطة الوطنية إلى مواجهات مع قوى إنبثقت عشية صعود الشعبوية في الحوار المطول الذي صدر في شكل كتاب، وهو عمل مشترك ما بين المحاور بيار جان لوفول لوسياني والقيادي القديم في الحزب الشيوعي الجزائري، وليام سيورتيس، يكشف هذا الأخير عن وجود تيارين داخل الحزب الشيوعي الجزائري عشية الاستقلال من مسألة حل الحزب، والانخراط في العملية السياسية التي صاغها حزب جبهة التحرير تحت قيادة أحمد بن بلة، تيار معارض لحل الحزب الشيوعي، ولقد عبر هذا التيار عن نفسه من خلال شخصيتين قياديتين، وهما الصادق هجرس قائد الحزب الشيوعي، وأمينه العام بشير حاج، بحيث كان هذا التيار يرى أن ضرورة بقاء الحزب كقوة نقدية يشكل صمام أمان لمشروع الثورة الاشتراكية التي تبناها ميثاق طرابلس وميثاق الجزائر، وفي أحسن الأحوال كان هذا التيار لا يرى ضرورة الانتظام على خط المعارضة الجذرية للنظام الجديد وذلك انطلاقا من عاملين، العامل الأول أن الحزب الشيوعي لم يكن قويا بما فيه الكفاية وهذا برغم الدعاية التي كانت تبالغ في قوته العددية، فعدد المنخرطين فيه عام 1962 كان يتراوح ما بين 8000 و10000 مناضل، والعامل الثاني أن الشيوعيين المنضوين تحت هذا التيار كانوا يشترطون انضواءهم تحت جبهة التحرير، الحزب الحاكم الجديد أن تكون قيادة الجبهة، ثورية، واضحة في توجهاتها الاشتراكية وقاطعة الطريق أمام سيادة البورجوازية، لأن يكون ممثلوها على رأس جبهة التحرير، ولقد وجد هذا التيار آنذاك دعما من شخصيتين لامعتين من جبهة التحرير التاريخية، وهما آيت أحمد الذي ندد بحل الحزب الشيوعي الجزائري واعتبر ذلك خسارة لحليف استراتيجي في بناء الاشتراكية، ومحمد بوضياف الذي رأى في ذلك شكلا من أشكال نمو النزعة التسلطية المعادية للتعددية السياسية في الجزائر، لكن هذين الاعتراضين في نظر آخرين كانا ينصبان في الأساس كدفاع ذاتي باعتبار هاتين الشخصيتين بادرتا إلى إنشاء تشكيلتين سياسيتين جديدتين داخل المشهد السياسي الناشئ، وكان هذا التيار غير المعترض جديا على التوجهات الجديدة للسلطة الوطنية يسعى إلى إعادة صياغة التجربة الكوبية التي لم يكن على رأسها حزب شيوعي لكنها من خلال العملية السياسية المتجهة إلى بناء الاشتراكية وبناء جبهة واسعة معادية للإمبريالية، انتقلت في نهاية المطاف إلى النهج الاشتراكي ذي الطراز الماركسي، أما التيار الثاني وهو التيار الذي سيبلور فيما بعد نظرية الدعم النقدي للسلطة الحاكمة وتجلى ذلك بشكل جلي في حقبة هواري بومدين، فلقد فضل عدم خوض المواجهة غير المتكافئة مع النظام من منظور استراتيجي، وفضل أعضاؤهم أو الكثير منهم الانخراط في جبهة التحرير، والنشاط في أطر منظمات الحزب الحاكم الجماهيرية، مثل الاتحاد العام للعمال الجزائريين وذلك بسبب الظرف السياسي والحالة التاريخية اللذين كانا يمليان الانحياز إلى مطالب الجماهير العريضة، خاصة طبقة الفلاحين والفئات الاجتماعية الدنيا التي كانت بعفويتها منخرطة ضمن الحركة الاجتماعية ذات التوجهات التقدمية المعادية للإمبريالية والنيوكولونيالية، وجادل هذا التيار مدافعا عن أطروحته أن المرحلة المنبثقة عن عملية تصفية الاستعمار تتطلب مثل هذا التكتل حول البورجوازية الوطنية الثورية التي قطعت الطريق أمام البورجوازية الطفيلية والإقطاعيين الجدد من ملاك الأراضي الراغبين باستبدال الكولون القديم بالكولون المحلي، ولذا كانوا يعتبرون التموقع ضد النظام الجديد يشكل دعما للقوى الرجعية الممثلة لمشروع الثورة المضادة.. وراهن هذا التيار على قوتين أساسيتين في بناء الاشتراكية، وهما قوة الفلاحين الذين تطوعوا في الدفاع عن الأرض التي هجرها الكولون بحيث بادروا في تشكيل هيئات التسيير الذاتي من جهة، ومن جهة ثانية وقفوا حاجزا أمام الإقطاعيين الجدد لاستعادة الأراضي الفلاحية الكبرى مفضلين أن تكون هذه الأراضي بين أيدي الدولة، والثانية هي القوة العسكرية، أي الجيش الوطني الشعبي الذي تشكل من جيش الحدود وجيش الداخل باعتباره سليل جيش التحرير، ومشكّل في أغلبيته من أبناء الريف الجزائريين، وهو إلى جانب ذلك يختلف جذريا عن تلك الجيوش الاحترافية بحكم انخراطه في العملية السياسية والكفاح الاجتماعي من أجل توطيد أسس الدولة الوطنية.. ولقد اعتبر هذا التيار داخل الحزب الشيوعي أن الجيش بحكم قوته التنظيمية قادر على حماية الثورة من "الثوريين المضادين والمغامرين الذين لا هدف لهم سوى الاستحواذ على السلطة". ويرى وليام سيورتيس أن الجزائر الجديدة كانت تعاني من هشاشة عميقة، وكانت تجربة الحرب الأهلية في صيف 1962 التي ذهب ضحيتها حوالي 1000 جزائري بمثابة إشارة إنذار خطير على انهيار الدولة الناشئة خاصة وأن الإرث الكولونيالي كان لا يزال يلقي بظلاله على تلك السنوات المبكرة من الاستقلال.. ويعترف ضمنيا أن التوجه المعتدل للتيار التوافقي وغير الراديكالي داخل الحزب الشيوعي الجزائري لم يجانب الصواب ما دام التاريخ قد أعطاه الكثير من الحق، فالسلطة التي اختارت نظام الحزب الواحد تمكنت من إحراز عدة انتصارات كانت مهمة لسيرها المتسارع نحو تحقيق المزيد من الاستقلال في عملية اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي، بحيث استعادت القاعدة العسكرية البحرية بمرسى الكبير في 1967، أي خلال خمس سنوات بدل خمسة عشر سنة، كما نصت على ذلك اتفاقيات ايفيان وتم تأميم البترول عام 1971.. تمكن الشيوعيون بتياريهما من ايجاد موقع قدم داخل النظام وذلك من خلال تحالفهما مع نظام أحمد بن بلة الذي كان يشجعهما على الانخراط الكامل داخل جبهة التحرير انطلاقا من نظرته الشعبوية التي كان يتوسلها لأن يكون زعيما للعالم الثالث مثل جمال عبد الناصر، وسوهارتو وكاسترو، وماوتسي تونغ، حتى أنه كان يقلد هذا الأخير في هندامه.. ولقد استطاع الشيوعيون أن يجذبوا مثقفين وشراح مذهبين من داخل جبهة التحرير لصياغة الإيديولوجيا الرسمية للدولة الوطنية وذلك في مواجهة الليبيراليين الذين تمت عملية شيطنتهم إيديولوجيا، سياسيا وإعلاميا لكن كذلك ضد إيديولوجيا المحافظين من راديكاليي جمعية العلماء الذين جاهروا بانتقاداتهم لتوجهات السلطة الجديدة، بحيث أصبحوا أقرب إلى الأطروحة القضية للإخوان المسلمين.. فالشيخ البشير الإبراهيمي الرجل الأول في جمعية العلماء، العائد من القاهرة، سرعان ما أعرب عن اغتياظه من سرقة اليسار للثورة بتواطؤ مع حكام الجزائر الجدد وعبر عن معارضته للتوجه الاشتراكي لحكم بن بلة من خلال بيان تاريخي شهير صدر في 16 أفريل 1964 بحيث قال "كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنية مرتاح الضمير، إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام والحق، والنهوض باللغة، ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن، ولذلك قررت أن ألتزم الصمت، غير أني أشعر أمام خطورة الساعة، وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أنه يجب علي أن أقطع ذلك الصمت إن وطننا تدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها.. ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل ولكن المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء إلى الوحدة والسلام والرفاهية، وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تنبعث من صميم جذورنا العربية الإسلامية، لا من مذاهب أجنبية، لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنا إلا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم.. وقد آن أن يرجع لكلمة "الإخوة" التي ابتذل معناها الحق، وأن نعود إلى "الشورى" التي حرص عليها النبي (ص) وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعا مدينة "تسودها العدالة والحرية"، مدينة "تقوم على تقوى من الله ورضوانه. إن الشيخ البشير الإبراهيمي بكل ما كان يمثل من رمزية دينية وسياسية شكل أول تحد للسلطة الجديدة وحلفائها اليساريين وعارض توجهها شبه العلماني والحداثي بمشروع آخر يستمد شرعيته من التأويل السياسي للإسلام كمصدر للحكم ومرجعية أساسية لهوية وثقافة الجزائري، كانت أهم الاعتراضات على المستوى الرمزي تتمثل، في اللجوء إلى الشورى كنظام بدل الاشتراكية، والأخوة بدل الرفاقية والإيديولوجيا العربو إسلامية بدل الجزائرانية، ولم يكن هذا النداء /الاعتراض مجرد صرخة في واد، كما بدا لأول وهلة بل كان بداية لميلاد معارضة تعتمد الدين مرجعية لها في مواجهة الحلف الوطني الثوري اليساري في بناء الدولة وبسط الهيمنة على المجتمع، وهذا ما أدى بحكم أحمد بن بلة إلى وضع الشيخ البشير الإبراهيمي تحت الإقامة الجبرية بمباركة من القوى الملتفة حول الأطروحة اليسارية وعندما توفي الشيخ البشير الإبراهيمي بوقت قصير على صدور بيانه التاريخي، قام الكولونيل هواري بومدين وزير دفاع أحمد بن بلة بزيارة إلى بيت الشيخ الإبراهيمي معلنا بذلك من خلال تلك الزيارة الرمزية عن خلافه مع توجهات أحمد بن بلة، بحيث اعتبر الشيخ أحد أعلام الجزائر وأهم أصواتها التاريخية وترجم ذلك على الأرض عندما استقدم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي إلى أول حكومة أنشأها بعد الانقلاب على أحمد بن بلة.. لكن هل كان ذلك يعني اختلافه جذريا مع توجهات أحمد بن بلة اليسارية ذات الطابع الشعبوي؟! أثبتت التطورات القادمة أن هواري بومدين في ممارسته للحكم لم يحدث قطيعة مع اليسار بل لجأ إليه عندما راح يعضد من حكمه كعميل وحليف معا خاصة بعد العام 1967 وسيره الحثيث نحو انجاز مشروع ثوراته الثلاث، الزراعية، الصناعية والثقافية كقاعدة أساسية لبناء الاشتراكية.. وكانت جمعية القيم الإسلامية التي تأسست بتاريخ 9 فبراير 1963 هي المكمل الشرعي لتوجه الشيخ البشير الإبراهيمي كصوت مناقض لتوجهات الحكم الجديد نحو اليسار الشعبوي، ولقد صرح مؤسسها الدكتور الهاشمي تيجاني يومها أن تأسيس جمعية القيم لم يأت لملء الفراغ الذي تركته جمعية العلماء وإنما لتحقيق رغبة مؤسسيها في القيام بواجبهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي تنوير العوام بأركان دينهم وجلال أعمال سابقيهم وإيقاظ المثقفين من أبناء أمتنا.. ويمكن تلخيص أفكار جمعية القيم التي تمثلت كمعالم لخريطة طريق بديلة فيما يلي: 1 ضرورة استبدال ظهر الخميس ويوم الجمعة بظهر السبت ويوم الأحد 2 إلزام التعريب التدريجي الكامل لكافة مستويات التدريس بدءا من الإبتدائي إلى قسم التعليم الشامل للعلوم اللغوية والأدبية والتاريخية والفلسفية والإنسانية والطبيعية والتقنية 3 ضرورة بعث اللغة العربية موحدة للهجات المتولدة عنها 4 العودة إلى التمسك بالأخلاق القرآنية والسنة النبوية 5 إقامة الشريعة الإسلامية في الأحكام والحدود 6 مكافحة الاحتكار الاقتصادي والاستبداد السياسي الراميين إلى تحويل الوظائف والمناصب والمنح للأقارب والأصدقاء.. لقد كانت جمعية القيم سلاحا في الحقل الإيديولوجي والسياسي ليس فقط ضد توجهات السلطة اليسارية بل ضد يسارها داخل جبهة التحرير وضد العلمانيين الذين كانوا يشكلون النواة الصلبة لاستراتيجية اليسار بشكل عام وهيمنته داخل الأجهزة الإيديولوجية للسلطة الوطنية الناشئة بحيث أشار الدكتور الهاشمس تيجاني أن جماعة يسار الأفالان المتحلقة حول عضوي المكتب السياسي لجبهة التحرير محمد حربي وزهوان سعت إلى منع جزئين من مجلة "التهذيب الإسلامي" لسان حال الجمعية تحت عنوان "أعرف دينك" يقول الهاشمي تيجاني "العدد الثالث من التهذيب لم يحظ بسعة خاطر زهوان الذي احتجز المقالات للمراقبة، وانتظرنا طويلا إذنه بالطبع إلا أن أحد أعضائنا وهو الأخ رضا بن فقيه اتصل بأصدقائه في الجيش، فأذن لنا فورا بطبع ما شئنا بمطبعة الجيش الكائنة بباب الوادي بالعاصمة.. فصدر العدد الثالث في أقرب وقت وتبعته سبعة أعداد أخرى بمعدل عدد في كل شهر، مع تفضل المسؤول العسكري للمطبعة علينا بإمكان تسديد ثمن الطبع بعد أن يتم لنا بيع كافة النسخ، كما رحب أحسن ترحيب بكل ما نبعثه للتصحيح في أي يوم من أيام العمل...".