اعتقد محمد عثمان أن فرصة وصول الإسلام إلى السلطة قد تبدأ خطواتها الكبرى مع حقبة الشاذلي بن جديد الذي ظهر كرجل غير معادٍ للإسلاميين، بل أشد ما كان يؤرقه هو التخلص من اليساريين حلفاء هواري بومدين، الذي فتح أمامهم الأبواب للتغلغل في الإدارة ومؤسسات الدولة الحساسة، وكان محمد عثمان صاحب خبرة في لعبة السياسة وأروقتها وهو إلى جانب ذلك، رجل طموح، يمتلك ناصية اللغتين والثقافتين، الفرنسية والعربية، ومتحدث لبق، صاحب نكتة وخطيب فصيح يعرف من أين تؤكل الكتف، ولقد أدرك بحسه الغريزي كيف يعقد علاقات متشابكة مع ليبراليي مدينته الوافدين من تلمسان، فمعظمهم كان من أصحاب المهن الحرة، ومن التجار بالجملة ومن المقاولين، وأدرك كيف يجلب لجماعته أصحاب المال الذين كانوا يحملون في أعماقهم كراهية شديدة لهواري بومدين وللشيوعيين وللإشتراكية التي وقفت حجر عثرة أمام رغبتهم في جمع الثروة.. ولم يخف الشاذلي بن جديد رغبته في استمالة هذه القوى الإسلامية الصاعدة في لعبته الهادفة إلى إخراج اليساريين وحلفائهم من المشهد السياسي على مستوى المدن الداخلية وفي الحواضر الكبرى، وعندما تلقف عثمان محمد الرسالة إلى مثال بالنسبة للإسلاميين الذين كانوا مترددين وحذرين في الخروج إلى النور والإستحواذ على مساحات الفضاء العمومية، فاتجهوا إلى خلق جماعات إسلامية أخرى أصبح لديها معاقلها عبر المساجد الخاصة التي أضحت تحت سلطتها بمساعدة وتواطؤ السلطات المحلية، وهكذا تعددت شبكات هذه الجماعات المتنامية عبر مدن مثل سعيدة وسيدي بلعباس ووهران ومستغانم وعين تموشنت والشلف بالغرب الجزائري، لكن أيضا في الجنوب مثل ورقلة، وفي الشرق مثل قسنطينة وفي الوسط مثل قسنطينة والعاصمة نفسها في أحياء كبرى مثل العاشور وواد الرمان وبوفاريك.. وبالرغم أن هذه الحرية التي أصبحت تحظى بها المجموعات الإسلامية صارت مصدر انزعاج وتذمر عند مناضلي حزب جبهة التحرير ولدى المجموعات اليسارية لكن أيضا بالنسبة لمصالح الأمن التي كانت تراقبها عن كثب إلا أن المقربين من الشاذلي بن جديد كانوا يهونون من التخوفات التي كان يعبر عنها البعض من تعاظم نفوذ التيار الإسلامي داخل المجتمع والمؤسسات التربوية، بل حتى داخل الإدارة وعلى مستوى الشارع الذي بدأ يتحول لونه إلى لون أخضر، رمز المد الإسلامي، وبالفعل سرعان ما شعر الإسلاميون أنهم أصبحوا قوة يحسب لها ألف حساب فامتلأوا بالثقة والإحساس بالقوة، فانتقلوا إلى مرحلة أخرى، حاولوا في ظلها استعراض عضلاتهم لاختبار مدى قوتهم وتفوقهم وفي الوقت ذاته اختبار مدى صدقية وجدية الشاذلي في مجال الإنفتاح على قوى الإسلام السياسي، ففي ربيع 1981، أصبح للإسلاميين في سيدي بلعباس، ثلاثة قلاع، وهي مسجد الأرقم، ومسجد السلام، ومسجد عثمان بن عفان الذي كان يسيطر عليه محمد عثمان، وأعلن هذا الأخير نفسه أميرا على منطقة سيدي بلعباس، وبالتالي تحول إلى قوة موازية لأعلى رموز ممثلي السلطة المركزية، مثل محافظة الحزب الحاكم، ووالي الولاية.. وهذا ما جعله يدخل في أول صدام مع السلطة عندما زار الدكتور عباسي مدني سيدي بلعباس باعتباره داعية ومقرب من تيار الجماعة الإسلامية الموصوفة بجماعة الجزأرة، وأراد أن يلقي دروسا بالمركز الجامعي لسيدي بلعباس، وأيضا بالجامع الكبير بالمدينة، وهو جامع أبو بكر الصديق وذلك بالتنسيق مع مفتشية الشؤون الدينية التابعة لوزارة الشؤون الدينية التي كان على رأسها آنذاك مولود نايت بلقاسم، لكن عباسي مدني الذي جاء مرفوقا إلى جامع أبو بكر الصديق ببعض الوجوه الرسمية قوبل بنقد لاذع من طرف جماعة عثمان الذين حاولوا منع عباسي مدني من إلقاء دروسه، وكان ذلك بحجة أن الدكتور عباسي مدني لم يستشر أمير الجماعة بالمدينة محمد عثمان، وفي لحظة تراشق بالكلمات حاولت جماعة عثمان اختطاف عباسي مدني ونقله إلى معقلها بمسجد السلام، وهنا تدخلت قوات الأمن واقتيد عثمان محمد إلى محافظة الشرطة وترتب عن ذلك مشادات، وكانت الأولى من نوعها بين أنصار عثمان محمد وقوات الشرطة لتتحول هذه المشادات إلى مظاهرات واحتجاجات واعتقالات في صفوف الإسلاميين، وقدم حينها عثمان محمد إلى المحاكمة وهذا ما دفع بجماعة العاشور التي كان على رأسها مصطفى بويعلي، ويساعده علي بن حاج والمدعو عبد الهادي والهاشمي سحنوني إلى إصدار بيان ينادي بإطلاق السراح الفوري لجماعة سيدي بلعباس، وعلى رأسها محمد عثمان.. كما انتقلت جماعة بويعلي إلى مرحلة أكثر راديكالية عندما نوت على تحضير مسيرة كبرى في قلب العاصمة عشية الفاتح مايو من العام 1981 تقودها عدة فصائل من التيار الإسلامي الذي كان يعتقد أن ساعته قد حانت إلا أن مصطفى بويعلي لم يجد استجابة لدى جماعة نحناح التي خرجت من السجن بفضل الشاذلي بن جديد، وكانت هذه الجماعة ترى فيما قام به محمد عثمان ومصطفى بويعلي ومقربوه هو نوع من المغامرة التي قد تضر بمصالح الحركة الإسلامية، وفي الوقت ذاته تمنح الفرصة لخصوم الإسلاميين وخصوم الشاذلي من البومدينيين وحلفائهم من العلمانيين واليساريين للإجهاض على هذه الفرصة التاريخية التي خلق خليفة هواري بومدين مناخها ورتب تربتها.. حوادث مثل هذه دفعت ببعض القادة الأمنيين ليطرحوا على الشاذلي خطة للتعاطي معها وذلك من أجل تطويقها وإدراجها ضمن الإستراتيجية التي لا تضر بالانفتاح ومصالح القوى الجديدة الوافدة إلى الحكم.. اعتبر الشاذلي أن مثل هذه الحوادث لن تثنيه عن تشجيع عودة الجزائريين إلى إسلامهم، وذلك من خلال ترقية الثقافة الدينية بتشجيع تكوين الأئمة المسلحين بالعلم وفتح المعاهد الدينية التي قد تقف سدا أمام كل انحراف وغلو.. ومن هنا شدد الشاذلي بن جديد على مواصلة ندوات الفكر الإسلامي التي كان يُدعى إليها علماء وشيوخ ومفكرون ودعاة من كل أصقاع الدنيا، فانعقد الملتقى الرابع عشر من واحد إلى سبعة سبتمبر عام 1981 بالجزائر العاصمة والسادس عشر من 27 جويلية إلى 3 أوت بالجزائر العاصمة والسابع عشر بقسنطينة من 19 إلى 26 جويلية عام 1983 والثامن عشر بقسنطينة من 10 إلى 16 جويلية عام 1985، والتاسع عشر ببجاية من 08 إلى 16 جويلية عام 1985 والعشرين بسطيف من 02 إلى 19 سبتمبر عام 1986 والواحد والعشرين بمعسكر في 26 / 08 إلى 01 / 09 عام 1987 والثاني والعشرين بالجزائر العاصمة من 30 أوت إلى 05 سبتمبر عام 1988. وحاول الشاذلي بن جديد أن يخفف من تلك الهواجس التي عبرت عنها عصب أخرى داخل جهاز الحزب الحاكم وداخل المؤسسات الأمنية من جهة، ومن جهة ثانية حاول أن يكشف للإسلاميين عن حسن نيته تجاههم وعن جديته في دفعهم لأن يلعبوا أدوارا مهمة لكن إلى جانبه وليس بالتناقض مع سياسته فتقدم بعفو عن جماعة عثمان محمد وغيرهم من الجماعات الإسلامية الأخرى وكان ذلك اعتقادا منه لكسب ودهم ونصرتهم لتوجهاته السياسية التي كان يسعى لتثبيت أقدامها على مراحل، ولقد وجد الشاذلي بن جديد ترحيبا بهذه السياسة المنتهجة من قبله تجاه الإنفتاح الليبرالي، وتجاه الإسلاميين من قبل أصدقائه الجدد في الخليج وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية وإمارة دولة الكويت، لكن أيضا فيما بعد من طرف الإدارة الأمريكية عندما زار واشنطن عام 1985 بحيث تمكن من “تمرير مناوراته على الجميع، وحصل على فترة ولاية رئاسية ثانية"، وكانت الولاياتالمتحدة حينها تراهن على كسب الورقة المغاربية “مستفيدة من أجواء الانفتاح بين الشرق والغرب والتورط الفرنسي الكثيف في التشاد.."2 خاصة وأن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان كان هدفه الرئيسي يتمثل في تعزيز العلاقات مع الجزائر وعلى “مدّ الخيوط المتينة داخل المنطقة المحرمة الفرنسية تمهيدا لكسب الود الجزائري عبر جرّه إلى عقد صفقات والمعاهدات العسكرية وتثمير هذا الانفتاح للقبض على المنطقة المغاربية بأجمعها"3. ولقد حصل الشاذلي بن جديد من الأمريكان على غنيمة لم يكن ليحلم بها، تمثلت في عقد عسكري باهر خاصة إذا ما صدقنا تقارير الإستخبارات التي تفيد بأن الجزائر أصبحت سادس دولة مستوردة للسلاح في العالم عام 1985.. وبالرغم أن ذلك أثار انزعاج الفرنسيين إلا أن الشاذلي بن جديد سعى إلى إرضائهم من خلال إيفاد رجله القوي العربي الذي أصبح فيما بعد رجل ديوانه ليعرض على الفرنسيين “إتمام صفقة السلاح التي جمّدها الجانب الجزائري عام 1983". لقد وجدت إدارة ريغان عملية الاستقطاب التي باشرها الشاذلي بن جديد ذكية ومفيدة في تحويل الجزائر من الوجهة الإشتراكية إلى الوجهة الليبرالية، خاصة وأن ريغان كان غارقا حتى النخاع في الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفياتي الذي احتل أفغانستان، وأن خلق جبهة من الإسلاميين وإدراجها في إضعاف “إمبراطورية الشر" الممثلة في الإتحاد السوفياتي يخدم بامتياز المصالح والإستراتيجية الأمريكيتين.. وفي ظل هذه الأجواء تمكن جيل جديد من اكتشاف أدبيات السلفيين الوهابيين مثل كتابات الألباني والعثيمين وأدبيات عبد الله عزام السلفي الإخواني والزنداني الذي روج للنزعة العلموية في الخطاب القرآني وكان ذلك على حساب الكتابات النقدية لمفكرين علمانيين ويساريين، بحيث تم تشجيع حرق كتب حسين مروة مثل “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" وشنت حملة شعواء ضد هذا الكتاب الذي ألفه فيلسوف لبناني ينتمي إلى الحزب الشيوعي اللبناني في المساجد وعلى مدرجات المعاهد الجامعية وفي الثانويات، كما فتح المجال لارتداء الحجاب والذي تحول إلى مادة للسجالات الإيديولوجية والسياسية على أعمدة الصحف التي كانت مقربة من دائرة الشاذلي بن جديد ذات الجناح الفرانكفوني الليبرالي... إن عملية الطمأنة التي حاول أن يشيعها الشاذلي في نفوس المقربين منه، سرعان ما أصبحت تصطدم بحقائق الواقع، فالإسلاميون لم يكونوا مستعدين أن يلعبوا دور الخرفان الوديعة وهم يرون يوميا قوتهم تتعاظم ونفوذهم يتسع ويتغلغل في أوساط المجتمع، أدركوا أن ميزان القوة لابد أن يميل إلى جانبهم إذا ما راحوا يسرعون من خطواتهم التي يجب أن تبوأهم مكانة أكثر تأثيرا وهيمنة وإلا سيقطف آخرون تلك الثمار التي ظنونها قد أينعت.. ومن هنا فكرت الجماعة الإسلامية التي كانت تنشط في المنتصف الثاني من السبعينيات داخل الجامعة وفي سرية مطلقة دخول المعترك السياسي والإيديولوجي وذلك من خلال بسط يدها على الأحياء والمراكز الجامعية.. تأسست الجماعة الإسلامية، وأحيانا كان يطلق عليها المجلس الثوري على يد الدكتور محمد التيجاني بوجلفة وهو أستاذ الرياضيات في جامعة الجزائر، وكان من حوله القبائلي محمد السعيد الذي سينفذ فيه في العام 1996، أمير الجماعة الإسلامية المسلحة جمال زيتوني حكم الإعدام والدكتور عباسي مدني، وعدد من المقربين من الشيخ أحمد سحنون مثل أنور هدام الذي التحق بالجماعة فيما بعد رفقة أحمد الزاوي وعبد القادر حشاني وعلي بن حجر ومن وجوه الموجة الثالثة من الطلبة بشير مصيطفى الذي أصبح وزيرا في حكومة عبد العزيز بوتفليقة الأخيرة. وعرفت هذه الجماعة إعلاميا باسم تيار الجزأرة، وتنسب التسمية إلى الراحل محفوظ نحناح الذي كان يعتبر الجماعة قريبة من السلطة ولا علاقة لها بالتوجه الإسلامي الأصيل، وكانت هذه التسمية من باب القدح، والإستخفاف.. باعتبار أن هذه الجماعة لم تكن موالية لجماعة الإخوان العالمية، وكانت تراهن على إسلام محلي واستقلالها عن كل المراكز الكبرى التي كانت جماعة الإخوان تشكل نواتها الصلبة، وكانت جماعة الجزأرة قريبة كما تقول في أدبياتها من فكر الإصلاحي عبد الحميد بن باديس، والفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي الذي لم يكن يحظى بود الإخوان المسلمين والسلفيين على حد سواء، وتزامن اتساع رقعة جماعة الجزأرة مع انشقاقات عن التنظيم الأم، الإخوان المسلمين الذي أفرز عدة تنظيمات راديكالية مثل جماعة المسلمين أو الهجرة والتكفير، وجماعة الجهاد في المركز المصري وكانت نشريات هذه الجماعة تسعى لأن تكون امتدادا لمجلتي “القيم" و “التهذيب الإسلامي". وبالرغم أن جماعة الجزأرة كانت تحرص على النشاط السلمي والإبتعاد عن المتسرعين لإعلان الجهاد والدخول في صراع مكشوف ضد السلطة إلا أنها تراجعت عن حذرها ومنهجها السري عندما تم اغتيال طالب جامعي في ليلة 2 نوفمبر عام 1982 بالحي الجامعي بابن عكنون وذلك إثر الصراع على الأخذ بزمام الأمور للجنة الحي الجامعي ذكور، وكان الطالب الجامعي كمال أمزال، الطالب في معهد اللغات الأجنبية أحد النشطاء المناوئين لهيمنة الطلبة الإسلاميين على نشاطات الحي الجامعي الذين رفضوا تجديد الإنتخابات وراحوا يفرضون رؤيتهم الأحادية والمتصلبة على الطلبة.. اغتيل كمال أمزال عندما كان هذا الأخير يهم بإلصاق منشور داخل نادي الحي يدعو فيه الطلبة لجمعية عامة على يد إسلامي دخيل على الجامعة بضربة سيف، لكن في اليوم التالي وبعد التدخل المتأخر لقوات الأمن سارع الإسلاميون لنشر خبر مفاده أن أصحاب النزعة البربرية من العلمانيين والشيوعيين قاموا باغتيال أحد الإسلاميين، ولقد جاب الخبر المشوه كل أرجاء الوطن وكان ذلك ضمن حملة الدعاية التي أراد الإسلاميون من خلالها كسب عاطفة الرأي العام، وكان عباسي مدني وعناصر من جماعة الجزأرة ممن روجوا لمثل هذا الخبر في الجوامع والمساجد والمصليات ووجد نشطاء جماعة الجزأرة الفرصة مواتية لأن يستعرضوا قواتهم ويختبرون من جديد السلطة في التعامل معهم، فأقاموا تجمعا ضخما، حضره آلاف الإسلاميين من كل أنحاء الوطن بالجامعة المركزية، وقاموا بالتشاور مع وزارة الشؤون الدينية على تنظيم تجمعهم الضخم الذي لفت انتباه السلطات على مدى قوتهم المتنامية والمتسارعة وعلى مدى الخطر الحقيقي الذي أصبحوا يشكلونه على نظام الشاذلي بن جديد الذي ظن أنهم قاب قوسين ليكونوا في جيب السلطة. كان التجمع بتاريخ 12 نوفمبر 1982 بالجامعة المركزية، في يوم جمعة، ولقد تناول الكلمة الدكتور عباسي مدني الذي قدم البيان المتكون من 14 بندا، ليتلوه كلالشة سليم بصوته الجهوري، وتناول الكلمة أيضا مصطفى براهمية الذي أشار إلى حوادث ابن عكنون وكذلك محمد السعيد.. وجاء في البيان ما يلي: «في ضوء الأحداث الأخيرة التي تعرض لها شبابنا المؤمن من إرهاب واختطاف وسجن وتعذيب وتعرضت لها بيوت الله في الأحياء الجامعية ابن عكنون وتيزي وزو وغيرهما والتي لم تكن الأولى ولا الأخيرة من نوعها، وكذلك المساجد في كثير من المؤسسات التربوية كالثانويات والتكميليات أو المؤسسات العمالية في بعض المصانع والإدارات، هذه الأحداث لا شك أنها كانت بتدبير من الشيوعية العالمية والماسونية واليهودية والإمبرالية الأمريكية لمساعدة عملائهم دعاة الشيوعية والعنصرية والبعثية... الغرض منها توريط الدولة عن طريق استخدام أجهزتها في تنفيذ خطتهم ذات الصلة المباشرة بالمذابح الرهيبة التي تعرض لها المسلمون في لبنان وفلسطين وغيرها من دول العالم الإسلامي، إن تسخير الدولة في خدمة المستعمر لضرب ديننا الحنيف وتهديد وحدة وطننا والمس بكرامة أمتنا لاعتداء صريح على سيادتنا وشخصيتنا، لأن هدم المنشآت العمرانية لأهون من قتل الضمائر وهدم الشخصية والقضاء على حرب الاعتقاد وتثبيط عزيمة الأمة وإرادتها الخيرة التي تعتبر العامل الرئيسي لبناء حضارتنا وحمل رسالة الإسلام هداية ربانية في عالم طغت عليه النزعات المادية، إن الجزائر المسلمة إذا كانت قد حظيت بنسمات طيبة في ربوع البلاد في الحقبة الأخيرة جعل الأمة تتطلع إلى تصحيح أخطاء ما كانت الجزائر لتقع فيها لو سلكت فيها سبيل الرشاد على ضوء الكتاب والسنة"، ويضيف البيان الذي سمي ببيان النصيحة “نظرا لخطورة الموقف فإن التعاون المشترك بين العناصر الطيبة في الأمة أصبح أمرا لا بد منه وأي تهرب من المسؤولية من أي طرف يعد خيانة كبرى للإسلام والوطن، وجود هذا التعاون لا يتوفر في اعتقادنا إلا في ظل العودة الصادقة إلى الإسلام لنلح على الإسراع بالبت في القضايا التالية: 1 وجود عناصر في مختلف أجهزة الدولة معادية لديننا، متورطة في خدمة عدونا الأساسي، وعملية تنفيذ مخططاته الماكرة، الأمر الذي ساعد على إشاعة الفاحشة وضياع المهام والمسؤوليات على الدولة وغيرها.. 2 تعيين النساء والمشبوهين في سلك القضاء والشرطة وغياب حرية القضاء وعدم المساواة في الأحكام لهو هدم للعدالة التي لا أمن ولا استقرار بدونها.. 3 تعطيل حكم الله الذي كان نتيجة حتمية للغزو الإستعماري واحتلاله للبلاد الذي لم يعد له مبرر اليوم بعد عشرين سنة من الإستقلال فلا بد من إقامة العدل بين الناس بتطبيق شرع الله. 4 حرمان المواطن من حريته وتجريده من حقه في الأمن على نفسه ودينه وماله وعرضه وحرية التعبير عنها لهو اعتداء على أهم حقوقه ومبررات التزاماته بواجباته الشرعية والأخلاقية. 5 عدم توجيه تنميتنا الإقتصادية وجهة إسلامية رشيدة بإزالة كل المعاملات غير الشرعية، وتيسير السبل الشرعية، لاكتساب الرزق من زراعة وتجارة وصناعة وتسوية الناس في فرص الإستفادة من خيرات البلاد بدون تمييز.. 6 تفكيك الأسرة والعمل على انحلالها وإرهاقها بالمعيشة الضنكة كانت سياسة بدأتها فرنسا وبقيت تمارس حتى اليوم بالإضافة إلى محاولة وضعها على غير الشريعة الإسلامية تحت شعار نظام الأسرة.. 7 الإختلاط المفروض في المؤسسات التربوية والإدارية والعمالية انعكست نتائجه السيئة على المردود التربوي والثقافي والإقتصادي والإجتماعي حتى صار يعطي مؤشرا خطيرا على سرعة الإنحدار الخلقي والحضاري. 8 الرشوة والفساد الممارسان في المؤسسات التربوية من المدرسة إلى الجامعة والإدارة وغيرها مرض بيروقراطي لاأخلاقي خطير لا يسلم مجتمع إلا إذا تخلص منه. 9 تسوية مفهوم الثقافة وحصره في المهرجانات الماجنة اللاأخلاقية عرقل النظام التربوي وحال دون توصله إلى إبراز المواهب والنبوغ والكفاءات التي تفتقر إليها البلاد للتخلص من الوضعية الثقافية المفروضة علينا. 10 إبعاد التربية الإسلامية وتفريغ الثقافة من المضمون الإسلامي زاد في تعميق الهوة واستمراريتها.. 11 الحملة الإعلامية المسعورة للإعلام الأجنبي والوطني لاستعداء الدولة على الدعوة والصحوة التي تهدد مصالح الدوائر الإستعمارية في بلادنا.. 12 إطلاق سراح الذين اعتقلوا دفاعا عن أنفسهم ودينهم وكرامتهم.. 13 فتح كل المساجد التي أغلقت في الأحياء الجامعية والثانويات والتكميليات والمؤسسات العمالية. 14 عقاب كل من يتعدى على كرامة أمتنا وعقيدتها وشريعتها وأخلاقها وفق الحدود الشرعية الإسلامية". ولقد أمضى البيان التاريخي للإسلاميين كل من الشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد اللطيف سلطاني والدكتور عباسي مدني.. كان هذا الاستعراض المشهدي للقوة بمثابة الصدمة التي قضت مضجع الشاذلي بن جديد ومستشاريه.. لم يكن يتصور أن الإسلاميين في مثل هذا الوقت الوجيز يتجاوزون الخط الأحمر الذي كان يظن أنه قد رسمه لهم.. وفي جلسة مغلقة من القادة الأمنيين والمستشارين وصل الشاذلي بن جديد إلى قناعة مفادها أن يضرب بيد من حديد هذا التجاوز الذي قام به الإسلاميون، فتقرر إلقاء القبض أسبوعا بعد التجمع الضخم في الجامعة المركزية على النشطاء الإسلاميين ومن بينهم العناصر المنتمية إلى جماعة الدعوة والتوحيد التي كان يشرف عليها أمير سيدي بلعباس محمد عثمان، كما تم وضع عبد اللطيف سلطاني صاحب كتاب “سهام الإسلام" الذي دعا صراحة إلى الجهاد ضد النظام القائم واعتبر أن شهداء ثورة نوفمبر ليسوا بالضرورة شهداء في سبيل الله إن كانت نواياهم متعلقة فقط بتحرير البلاد من المستعمر وهكذا أعطيت الأوامر لسحب كتاب “سهام الإسلام" من المكتبات وشنت في جريدة المجاهد الحكومية حملة شعواء على الشيخ عبد اللطيف سلطاني دعمتها بيانات التنديد بالكتاب وصاحبه صدرت عن الإتحاد العام للعمال الجزائريين ومنظمة الإتحاد النسائي ومنظمة اتحاد الشبيبة الجزائرية.. وكذلك تم وضع الشيخ أحمد سحنون تحت الإقامة الجبرية، وزج بالدكتور عباسي مدني، وعلي بن حاج، وعبد الله جاب الله أمير الإخوان المحليين بالشرق في السجن، كما اعتقل العشرات من الطلبة الإسلاميين وحوكموا في قضية اغتيال الطالب كمال أمزال.. وأمام حملة الاعتقالات التي تعرض لها نشطاء تيار الجزأرة وعدد من نشطاء تيارات الإسلام السياسي، جددت المجموعات التي كانت ملتفة حول مصطفى بويعلي نقدها لتوجهات تيار الجزأرة ولمواقف العلماء الدينيين الذين رفضوا تزكية السبيل الذي كان يريد مصطفى بويعلي انتهاجه، وهو السبيل المسلح والدخول في حرب عصابات ضد النظام ورموزه، وتوصلت المجموعات الموالية لنهج مصطفى بويعلي الجهادي إلى أن الشاذلي بن جديد لا يختلف عن سابقه هواري بومدين، إنهما وجهان لعملة واحدة يتركز هدفهما على تصفية الجيوب الإسلامية وتصفية الهوية الإسلامية للجزائر وذلك بالاعتماد على رجال الدين أنفسهم الذين رضوا بالخضوع إلى الحكام.. ومن هنا كان الحل الوحيد والأوحد للتخلص من الانحطاط والانحراف يتمثل في تكرار عملية نوفمبر تاريخية أي اللجوء إلى السلاح.. وهذا ما جعل مصطفى بويعلي ينكب على تشكيل جهاز عسكري أشبه من حيث البناء والهيكلة بجيش التحرير وذلك بالإعتماد على تجربته الشخصية في حرب التحرير، فلقد كان مصطفى بويعلي من أوائل الذين التحقوا بحرب التحرير في المنطقة الرابعة ولقد ترقى أثناء حرب التحرير إلى رتبة رقيب، ليجد نفسه بعد أزمة صيف 1962 التي كانت وجها من وجوه الصراع على السلطة ينخرط في صفوف حزب القوى الإشتراكية (الأفافاس) الذي رفع السلاح في وجه حكومة أحمد بن بلة الذي كان يوصف من طرف رفاقه السابقين بالمستبد والديكتاتور، لكن سرعان ما عاد مصطفى بويعلي إلى صفوف حزب جبهة التحرير بعد الفشل الذي مني به آيت أحمد ومحند أوالحاج، عندما اختار طريق المعارضة المسلحة.. وبالرغم أن مصطفى بويعلي تراجع عن فكرة المعارضة المسلحة بمحاولته في التقدم كمرشح في انتخابات البرلمان في منتصف السبعينيات إلا أنه وجد نفسه مغضوبا عليه من حزب جبهة التحرير بحيث أقصي اسمه من اللوائح إلا أن الفكرة عادوته من جديد، لكن هذه المرة من خلال إحداث القطيعة مع حزب جبهة التحرير والإنتقال بشكل راديكالي إلى إيديولوجية أخرى.. وهي إيديولوجيا الإسلام المسلح..