يندرج فيلم "محطة الشمال" لمخرجته الفرنسية، كلير سيمون، ضمن رواية اجتماعية وثائقية للظاهرة الإنسانية، في نقطة الحراك التي تشكلها محطة الشمال بباريس، من بين أكبر محطات السكك الحديدية بالعالم. تقود شخصيتان رئيسيتان حراك هذا الفيلم الذي يتسلل بين أروقة وأنفاق المحطة الضخمة لانتشال أجزاء حياة العابرين فيها. الشخصية الأولى ماتيلد، مدرّسة في التاريخ (نيكول غارسيا) مصابة بمرض خطير، والثانية اسماعيل طالب جامعي (رضا كاتب) بصدد تحضير سبر آراء حول المحطة. شخصيات عديدة ستتقاطع وتتقاسم مرحلة العبور عبر هذا المكان المشخص الذي يلتهم هواجسهم وآمالهم المعلقة، في حياة مغلقة، في شبة مدينة وحياة موازية للعالم الخارجي، فهذه الشخصيات التي اهتمت بها المخرجة لا تخرج عن السكك الحديدية وحركات الذهاب والإياب. يعكف اسماعيل على إنجاز سبر للآراء لكسب حياته في انتظار إنجاز مذكرته في العلوم الاجتماعية والتي كرسها حول الحياة في هذه المحطة بالذات التي طالما أبهرته وغاص فيها لدرجة أنه يعرف كل زاوية من زواياها وكل شبر فيها. هناك سيلتقي ماتيلد التي ستكون دليله في لقاء عدة شخصيات تعيش وتتحرك داخل المحطة، لعلّ من أهم من وضعتهم المخرجة في هذه الكوميديا الانسانية، ساشا الذي فقد ابنته ذات الستة عشرة سنة، لكنه لم يفقد الأمل في العثور عليها في المحطة التي تستقطب جميع الناس، وراهن على كل الاحتمالات في وجودها في إحدى زواياها. هناك كذلك جوان، طالبة ماتيلد السابقة التي تابعت حوالي ثماني سنوات من الدراسة الجامعية قبل أن ينتهي بها المطاف كبائعة لصالح وكالة عقارية، ممزقة حياتها بين باريس، حيث تلتقي زبائنها ولندن حيث تقوم بزياراتها الاستطلاعية، وليل حيث عائلتها بانتظارها كل يوم. إنه الصراع من أجل الحياة بشتى أوجهه، في رواية متعددة الأصوات، مثل سمفونية معاصرة تدرس الإنسان في مختلف أحواله وجوانبه. ماتيلد تجسد الحلم بالماضي الذي كانت ملامح الحياة فيه واضحة، واتخاذ قرارت بينة، تلاحظ داخل المحطة التي ستغرق فيها ظهور مظاهر حياة مغايرة، هلامية، تركيبتها رواسب بشرية حطت الرحال وعلقت مصيرها بين الاستقرار والرغبة في الرحيل أو العودة نحو نقطة الانطلاق، بشر يحاولون التعايش في هذا الفضاء الكوسموبوليتاني في علاقة صراع وتناغم مستمرة. اسماعيل هو الحلم المؤجل، الذي يفقد هدفه في الحياة من حين لآخر ويتعسر له في هذه التيارات البشرية أن يبصر ملامح المستقبل أو مستقبله بالذات، هو ذلك الفرد الذي يتطلع نحو أفق متلاش خال من المرجعيات في وقت سادت فيها المرجعيات المستهلكة، نراه بين الحين والآخر يبحث عن البديل في حالة يأس فردية تارة ومحاولة الركوب مع الجماعة تارة أخرى لإعطاء معنى جديد أو بديل للنضال في الحياة ضد عامل واضح ويفرض نفسه على الأقل، السلطة. استحضرت السلطة داخل المحطة من خلال أعوان الأمن الذين يراقبون تحركات الناس حتى في لحظاتهم الحميمية، سلطة تتحكم في تحركات الأفراد، في حرية التنقل، في ترصد المهاجرين اللاشرعين وفي إرساء البيروقراطية كوسيلة لقهر الأفراد، والمثير للاهتمام أن المخرجة قدمت صورة مهترئة، مملة تعلن أمام حالات الغليان للأفراد والغضب الجماعي عن اقتراب مرحلة تلاشيها ونهاية النظام. ماتيلد التي وقعت في حب اسماعيل بعد أخذ ورد في العلاقة التي تربطهما ببعضهما البعض، ستموت في النهاية. اسماعيل الذي تردد طويلا قبل اقتناعه بحبه لماتيلد سيبحث عن مذكراتها الصوتية داخل المحطة التي أودعتها عند طالبتها السابقة جوان. هذه الأخيرة ستتلقى خبر وفاة ماتيلد مع اسماعيل وهي على رحلة العودة الى ليل بعد ليلة كارثية قضتها مشردة في المحطة. ومع موت الماضي لدى الأفراد تستمر رحلة على سكة المجهول. منحت المخرجة كلير سيمون في هذه الحبكة المتشابكة فرجة جميلة للمشاهد، نجحت من خلالها إعطاء بعد إنساني للشخصيات، مجردة من كل تصنّع وتقليد للشخصيات، بفضل الخيار الوثائقي الذي قدمته، حيث رغم كونها افتراضية تبدو هذه الشخصيات واقعية تقترب الى الحياة العادية والبسيطة أكثر منها الى الخيال، وبالتالي نجحت في ضبط ملامح سينيمائية لنوع يجمع بين الخيال والحقيقة يضع المشاهد في قلب الحدث والفرجة معا.