يحفلُ ديوان "محاريث الكناية" بالرؤيا، ويبتعد بشكل قاطع ونهائي عن المعنى الأحادي، بل يترك قارئه أمام مرايا التأويل يتصيّد فيها كائنات الدلالة ويتأوَّل الكلام وفق ما يوصله إليه فهمه وقدرته على التعاطي مع لغة الشعر التي تقوم، بحسب أدونيس، على "المجاز التوليدي (...) بقدرته على جعل اللسان يقول أكثر مما يقوله عادة، أي على جعله يتجاوز نفسه، يكشف عن الجوانب الأكثر خفاء في التجربة الإنسانية". هذا تماما ما يحاوله الأخضر بركة، وقد تعالت لغته عن مقامات التواصل التي يقع فيها كثير من الشعراء، وجعل من نصوصه أفقا للرؤى المختلفة، متخذا من اليومي والمشاهَدِ سبيلا لتحقيق رؤاه، وجسرا ملموسا تتحقق من خلاله العلاقة بالواقع والانفصال عنه في الآن ذاته. وهو إذ يعبّر عن بعض ما يعرفه الناس في حياتهم اليومية، فلكي يصل من خلاله إلى التجارب الإنسانية الخفية، محاولا أن يفهمها وأن يكشف أسرارها. يقول الشاعر في قصيدة "بيان المرايا": «يفرون من ذرة الضوء حين تفسِّرهم فوق سبّورة التجربهْ يخافون مما حوى البطن من تبن ما جمعوا كلما استنبحتهم خطى قيل بولوا سكوتا على نار ما طبخوا يردمون عظام السؤال بخرسانة الأجوبهْ" يقوم الشاعر في سائر مجموعته، كما ذكرنا سابقا، بترحيل دلالات الأشياء المعروفة في الواقع لتدل على معانٍ مغايرة. وهو إذ يساهم بهذا في تحقيق رؤاه الشعرية، يساهم في الانطلاق بالكلام صوب التجريد؛ فتصبح القصيدة وقد وضعتْ قدما في الواقع عن طريق الأشياء الماديّة التي تزخر بها (البطن، عظام، طبخوا، سبورة..)، ولكنّها في الآن ذاته تضع قدما في الغياب، في المجرّد البعيد، بفضل التراكيب الجديدة التي تجعل المادي يذوي ويختفي أمام المجرد. ولينظر القارئ إلى العبارتين التاليتين (عظام السؤال، سبورة التجربة)، وسيكتشف بأن الوصول إلى المجرد لن يكون إلا من خلال الملموس، أي من خلال الواقعي الذي يمد جسرا للقارئ لكي يفهم المقصود من وراء هذا التركيب الجديد، ولكي لا يتعبه التجريدي كثيرا، سيعينه السياق على الانتباه إلى أن أشياء الواقع المعروفة (عظام، سبورة) هي ذاتها التي ساهمت في التعبير عن الدلالة الجديدة والمجردة التي يريدها الشاعر، لأن إضافة السؤال إلى العظام في التركيب الشعري يدل على متانة هذا الأخير وقدرته على المقاومة، لأن العظم يقاوم وقد يمكث في الأرض ملايين السنين بدليل عظام آبائنا البشر من الغابرين التي لا تزال موجودة إلى اليوم. بينما تدل إضافة التجربة إلى كلمة سبورة على الهشاشة والعرضة للمحو. فالإنسان في حياته يكابد التجارب ويكتب ويزيل دون أن يصل إلى قرار واضح، أو إلى جواب نهائي، وهذا ما تعبر عنه العبارة "خرسانة الأجوبة"، التي توحي بهشاشة الإجابات وعدم ثباتها على حال. لقد استطاع الشاعر حقا أن يعبر عن فكرة فلسفية عميقة تنتصر للسؤال على حساب الأجوبة الخرقاء معتمدا على أشياء الواقع لتحقيق الرؤيا والتجريد في الآن نفسه. فكأنه أراد أن يثبت أهمية السؤال فأضافه إلى ما يناسب معاني الثبات والرسوخ، وأراد أن يسخر من هشاشة الأجوبة، وعدم ثباتها في حياة الإنسان، فأضافها إلى ما يناسب ذلك المعنى. ويكون بهذا قد جمع بشكل ملفت بين التجسيد والتجريد في آن واحد، أو اتخذ المجسد طريقا لتحقيق المجرد، ليجعل من هذا الأخير أقرب إلى قارئه ومتلقيه. مفارقة السخرية والأمثال الشعرية: من أهم ما أفضى إليه التجريب في هذه المجموعة الشعرية هو تحوّل الصوت الناطق في القصيدة إلى حكيم ينتج الأمثال والحكم، بل أصبحت القصيدة ذاتها تربة خصبة لأمثال وحكم مبتكرة تعبّر عن عمق تجربة الشاعر وهو يحاول أن يجعل من الشعر بداية مستمرة، تنهل من كل شيء، لتنتج خطابا فريدا، عارفا واستثنائيا. وإذ ينتج الأخضر بركة أمثاله، يكون قد وضع إضافة كبيرة إلى النص الشعري الجزائري، لأننا لم نلمح هذا الاشتغال عند غيره من الشعراء المعاصرين له اليوم. ولعلنا نرجع هذا إلى ولع الشاعر بالتفاصيل واتكائه على السرد ورغبته في التعبير عن المعنى البعيد والمختلف من خلال الأشياء القريبة والمألوفة. وربما أرجعنا ذلك أيضا إلى البعد التجريديّ في المجموعة الذي "يدور حول البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في خلاصات موجزة" تكاد تكون، عند الأخضر بركة، نوعا جديدا من المثل الشعري الذي يخدم الرؤيا العامة التي تعبر عنها النصوص، ويعرض نفسه، دون موردٍ واضح، ليكون له مضرب في كثير من المواقف الحياتية. لننظر إلى قول الشاعر: «إذا سمعوا الصيحة استعجلوا قطّهمْ يعبرون الحياة كما تعبر الدودة الفاكههْ" ينطلق الشاعر هنا من تناص واضح مع نصوص دينية قرآنية، وذلك من خلال العبارتين "سمعوا الصيحة"، و«استعجلوا قطهم"، وقد أراد من خلال هذه الحوارية بين نصه وبين نصوص القرآن الكريم، ربما، أن يعبّر عن سفه القوم وهم الذين "كلما قيل مأدبة هرولوا"، يقودهم الطمع والشراهة إلى حتفهم، ولكنه أراد أيضا أن يصمهم بالخطأ والزيغ، والتلاعب بالدين لنيل الدنيا، فهم الذين "يخيطون للغيب جبته بالمقاس الذي يلبسون" لينالوا مآربهم. ولا تخفى في هذا المقطع السخرية الحادة التي تصوّر بعض الناس وهم يتضاءلون لدرجة ينزلون فيها عن سلم الإنسانية تماما، فيعيشون للنهب والسرقة، ويعتاشون على بعضهم. ويتوّج الشاعر مفارقة السخرية هنا بعبارة هي أقرب إلى المثل الذي يضرب وإلى الحكمة التي تقال، اختصر بها حقيقة القوم، الذين يظلون، في نظره،"يعبرون الحياة كما تعبر الدودة الفاكهة" . تفتح هذه الصورة التمثيلية المعنى على مفارقة السخرية، التي تزداد حدّة حين نكتشف بأنّ الجزء الأول من التشبيه "يعبرون الحياة" ليس متكافئا مع الجزء الثاني منه "تعبر الدودة الفاكهة". لأن عبور الحياة بالنسبة للإنسان ليس شيئا بسيطا، وإنما هو تجربة مليئة بالنكد تارة وبالفرح أو السرور تارة أخرى، لكن عبور الدودة للفاكهة هو أصغر من حيث الحيز ومن حيث الزمن أيضا. والمقصد هنا هو تشبيه هؤلاء البشر، ضمنيا، في حياتهم بالدود الذي يعتاش على غيره، وينخره حتى يقضي عليه، ويفسده بحيث يفقد صلاحيته، ثم إذ لا يجد بعد ذلك مضيفا غيره يموت جوعا. والقوم هنا كالدود تماما في نظر الشاعر يعبرون الحياة ينخرون الآخرين، و«يحلبون رفاهية العيش من بقر راتع في مراعي السكوت"، وينتهزون الفرص لينهبوا أشياء الناس وأحلامهم وأمانيهم: «.. وها بدو وقد حطُّوا رحال الحافر الذهني في إستبرق الغفلات والإسمنت والزلّيج واشتطّوا لعابٌ كلما قيل انتخابٌ سال واستمنى حسابٌ لغد في بنك سمسار الفرصْ". مفارقة التناقض: الحركية والتوتّر تميّزت المجموعة بإحلال التناقض ملمحا أسلوبيا شمل أغلب نصوصها، فالشاعر ينتج معانيه هنا من المتناقضات، ويشكّل كلامه من الألفاظ وما يتعارض معها دلاليا، وهذه فلسفة ترى بأن معاني الأشياء لا تظهر إلا أمام مرايا ما يعارضها ويختلف عنها، وأن فهم العالم لا يتأتى إلا من خلال أكثر مظاهره تناقضا واختلافا، فالأشياء تعرف قيمتها بما يناقضها. لهذا جعل الشاعر من لغته تربة تحفل بالتعارض والتناقض، لأنه يود أن يكشف الزيف في الصدق المغشوش، وأن يفضح السياسة التي تدّعي النزاهة والمثالية وهي "تخبُّ الآن صوب الحزب كي تحسو الخرا...ج"، وأن يميط اللثام عن حقيقة الإنسان المختفي وراء أشباح اجتماعيته البائسة. وقد حقق الشاعر كلّ هذا بأقوى وسيلة وغاية يمتلكها في الوقت نفسه وهي اللغة. يقول الشاعر: «ما تبقى في خزانة مفردات العمر لا يكفي لكي تجد اللغهْ لغةً تمدّ العمر في عمق التعري من عباءات النصيحة.. علبة الإيمان فارغة سوى من خمرة الشك الذي يرمي بأحجار الطفولة في اتجاه زجاج أبراج اليقين". يقوم كل سطر من هذا المقطع على تناقض صارخ بين مفرداته، فالشاعر يصنع معناه من خلال الصراع القائم بين الأشياء المتعارضة، ويؤثث دلالة نصوصه من التناقض الذي يحكم الحياة. ويمكن توضيح ذلك فيما يلي: عمق التعري عباءات النصيحة علبة الإيمان خمرة الشك خمرة الشك أبراج اليقين أحجار زجاج يعرض المقطع أعلاه رؤيا شعرية تعالج ثنائية الشك واليقين، وتحاول أن توصّف كل طرف فيها بما يناسبه مما يعرفه الناس، فللإيمان علبة فارغة، ولليقين أبراج عالية تترفع عن الكائن البسيط، وللنصيحة عباءة، أو أيقونة ترتسم في ذهن الناس لتعطي السلطة المأذونة لكل صاحب عباءة حتى يتدخّل في حياة الناس كما يشاء. بينما الرؤيا نفسها تجعل للشك خمرة، يقف صاحبه في عمق التعري/عمق الوضوح أمام نفسه وأمام الآخرين. وتكمن المفارقة هنا حين يجعل الشاعر للشك حجارة طفولية بريئة ترشق "زجاج أبراج اليقين"، فيهوي، وهذا مسكوت عنه، إلى الأرض ويبقى العالم للشك والحيرة اللذين اعتنقهما كل نبي، كل عارف وكل شاعر. تمثل هذه الظاهرة ملمحا أسلوبيا في كافة نصوص المجموعة، وهي تساهم إلى حدٍ كبير في المحافظة على الشعرية المحاطة بتقنيات السرد التي اعتمدها الشاعر طريقا للقول الشعري. فمفارقة التناقض، وهي من آليات التفكير الشعري، ترتفع بالنص وتعصمه من السقوط في النثرية التي هي من آليات التفكير السردي الذي قد يؤدي الانجراف وراءه إلى سقوط بعض الشعراء في مستويات النثر، ومن ثم ابتعادهم عن مستويات الشعر وعن تجليات لغته العليا. خلاصة يمثل "محاريث الكناية" للأخضر بركة تربة للتجريب الشعري في القصيدة الجزائرية المعاصرة، ووجها لاشتغالات عديدة تحاول أن تكسر الجدر القديمة بين الأجناس الإبداعية، وأن تستثمر خصائص الأجناس الأدبية جميعا في كتابة شعرية جديدة تركز على التصوير الشعري وعلى اللغة الرمزية التي لا يقوم شعر بدونها، ولكنها في الآن نفسه، تقدم الشعر في عباءة السرد، وما يتصل بهذا النمط الأخير من حوار وحركية ينتجها الزمن السردي الذي يتصف بالتتابع والاستمرار، والزمن الشعريّ الذي يكثّف اللحظات الوجدانية والعقلية، ويحوّلها إلى قيم باقية ومستمرة في الكائن البشري. وكما حفل الديوان بالسرد، جعل من هذا الأخير مطية لبلوغ التجريد، وللتعبير عن الرؤيا القابلة للتأويل بدل المعنى الواحد اليتيم، وبهذا جعلنا الشاعر أمام نصوص خصبة قابلة للقراءة والتأويل، تؤمن بقرائها جميعا، بمختلف مستوياتهم، وتتيح لهم في قالب شعري خالص كثيرا من ملامح الأجناس الأخرى كنوع من التوابل التي تزيد الشعر بهاء وجمالية. محمد الأمين سعيدي* شعرية المفارقة: الرؤيا والتجريد