في هذا الشهر نستعيد عشرينية رحيل علولة عملاق المسرح، ونستعيد الذكرى في ظروف تتكثف فيها دلالات الاستحضار، فعلولة ليس مجرد فنان مسرحي، إنه أحد من جسدوا عضوية المثقف، وفاعليته كحضور فاعل مجتمعيا.. وفي هذه السنة تمر ثلاثينية رحيل مفكر عملاق حفر واخترق الهوامش، المفكر الأيقونة ميشال فوكو.. وبالربط مع التمايزات بطبيعة الحال، نحاول قراءة المشهد والخروج من التشخيصات الواصفة النمطية لصياغة فهم يتبلور سلوكا. بعد أكثر من خمسين سنة من استرجاع الاستقلال، وصلنا إلى مفاقمة الانسداد وبقينا بتمظهرات مختلفة نتحرك انطلاقا بصراعات لم تحسم وظلت كجلسات مؤتمر طرابلس بدون اختتام. يسد الضجيج الذي هو كضجيج البراميل الفارغة بوصف مثل فرنسي، وينفلت المعنى فالمهم كما قال العقاد: "ليس أن تكون في النور وإنما أن يكون في النور ما تراه". في هذا السياق توقف عبدو سمار عند المواقف السياسية وعنون مقاله المنشور بالفرنسية في موقع "ألجيري فوكيس" ب "بوتفليقة سيء إذا، والآن ماذا تقترحون؟" وكتب: "الكل في الجزائر يرغب في التغيير، كبارا وصغارا، شبابا وكهولا، ولكن من يفكر فيه؟ من يمتلك جرأة تنفيذه وترسيخه في الواقع؟ من له جرأة الخروج إلى الشارع لإقناع الجزائريين بهذا التغيير المرغوب؟ لا يوجد أحد لأنه في الجزائر لا وجود إلا للشارع والسلطة" وأنه "لا توجد جسور بين المواطنين والسلطة، الجيش، الدولة، وهذه الجسور أو الواسطة تسمى بالنخبة، لكنها مستقيلة" وواصل واصفا بأن هذه النخبة ليس لها كرأس قاطرة إلا كلمة "لا": "لا لكل شيء، لا لكل ما يتحرك، لا للعهدة الرابعة، لا للسلطة، لا للجيش، لا للدياراس، لا للباقي". وواصل بأن الجزائريين الذين يعيشون بعيدا عن العاصمة ومنشآتها العمومية في حاجة إلى أكثر من"لا" لا تكفي لمنحهم الأمل وتفعيل ديناميكية المجتمع، "إننا في حاجة لأغنية أخرى غير لا، في حاجة لنعم حقيقية للتغيير وللتجنيد والاحتجاج المفيد، نعم للأفكار الجديدة والمفاهيم المجددة ولشجاعة القضاء على قواعد الحتمية المفلسة... وفي تلخيص للحالة يكتب في الختام: "لا يمكننا تغيير بلد بالبقاء في حانة نغرق الغضب في كأس ويسكي وفي الوقت ذاته نبعث ببلاغات نارية. لا يمكن تغيير بلد بالبقاء نصلي خمس مرات يوميا في مسجد وننتظر تحقيق الله الكبير لتمنياتنا. لا نغير البلد بقول لا لكل شيء". العبارات المذكورة تلخص لنا الوضع وتدفعنا مجددا إلى الحديث عن النخب وتموضعاتها. التيارات السياسية عندما تفتقد التأسيس الفلسفي والمخيال المبدع تصبح منتجة للسوسة التي تنخر.. والثقافي الذي يفتقد الحس التاريخي ويفتقد الصلة بالمجتمع يتحول إلى هباء ينتج الضجيج ويزخرف المشهد بما يشبه الأضواء التي لا تنير بل تحجب البصر وتطمس البصيرة. في كتابه الأخير: "الهشاشة، المفارقة، الفضيحة: في المأزق والمخرج" كتب علي حرب أن: "الوقائع صادمة بقدر ما هي فاضحة في هذا الخصوص. فبعد أكثر من قرنين من مجابهة الغرب، بوصفه الغازي والمستعمر والمحتل أو الذي لا ينفك عن ممارسة التدخل والتآمر والنهب، في ما يخص علاقته ببلداننا وثرواتنا وشؤوننا، فضلاً عن ثقافتنا وهويتنا، يتحول الأخ في الدين والشقيق في الوطن إلى عدو لدود، كما تشهد الحروب التي تدور بين الطوائف والأعراق والأحزاب، والتي تبدو معها حروب إسرائيل ضد العرب بمثابة نزهة". ضياع النخب وسيادة العصب: منذ أكثر من ثلاثين سنة عرفت البلاد نقاشا حول المسألة الثقافية في إحدى دورات اللجنة المركزية للحزب الواحد آنذاك، نقاشا احتضنته منابر الصحف وخصوصا أسبوعية "الجزائر الأحداث" وكان الحوار الذي أجراه محمد بلحي مع المرحوم عبد القادر جغلول منطلقا لنقاشات ترجمها وقدم لها المرحوم عمار بلحسن وضمها كتابا حمل عنوانا دالا: "مثقفون أم أنتلجنسيا؟"... وذلك السؤال هو الذي يتكرر بتفاقم تعكسه التصريحات المتداولة والمتصلة بما صارت تتهيكل به شبكة العلاقات في الوسط الثقافي، وما صارت تتهيكل به يحمل كل علامات البؤس... علامات تقول سيادة العصب وغياب النخب، والفرق بيّن بين الحضورين. إن الديناميكية الثقافية مرتبطة برأسملة التراكم وبحوارية تثمر العطاء... والعطاء الذي يختص به المثقف هو في الدور الذي يسهم به مجتمعيا، دور بنينة الوعي ودور إنصات مستمر بعقل منفتح ونقدي... قدرات إبداعية تحاصرها السدود ويواجهها الإقصاء المكرّس، وقاعدة اشتراط الولاء والزبائنية... وبعض كتابنا يتوهمون أن حضورهم مرتبط بتغييب غيرهم، نقرأ ذلك في تصريحات بعضهم خارجيا، تصريحات تنفي وجود آخرين في مقامهم وتتعاطى بنظرة متعالية مع الشباب المبدع وتسكنها الحساسية من كل متميّز، في حين أن الكبير يقاس بالقامات التي تحيط به.. والكبار بالتسويق الإعلامي يتبادلون صراعات المشيخات القبلية والزعامات الطائفية. قبائل تنبعث ومشيخات لا ترضى بغير المريدين... والمرض ينتقل ولا يختص بجيل بل الطامة عمت وكل طرف يتوهم أنه المحور. دعاة اختلاف ينفون عمليا الاختلاف بإقصاء الآخر ... وتجارب مهمة تتوارى بسبب هيمنة سلطة العصب.. والنتيجة كارثة تضاعف الخراب الثقافي، وبالتالي الخراب العام لأن الثقافي منطلق بقية المجالات. والإقصاء ليس من جيل ضد آخر، بل متداخل.. ومع الإقصاء تفشي التملق والنفاق في التعاطي الانتهازي مع أسماء معينة ليس من منطلقات إبداعية ومعرفية ولكن لأنها أسماء لسجلات تجارية، وتغييب لأسماء لها قيمتها وتوقيعها. بعض الأسماء المروّج لها إعلاميا تحمل عقدا وتسقط في استعراضاتها كل اسم جزائري ولو كان من قامة محمد ديب... بل أنها تعلن الحرب على البقية بكيفية حاملة لأعراض العلة.. في لبنان مثلا تم الاحتفاء بدخول معلوف للأكاديمية الفرنسية أما عندنا فالتغييب هيمن بل التهجم تم شنه ضد أسيا جبار... حالة جعلت أركون يحمل الغصة حتى رحيله كما ذكرت مؤخرا ابنته في حوار لها مع يومية الوطن. في ثمانينيات القرن الماضي لما صدرت رواية أحميدة عياشي "ذاكرة الجنون والانتحار" لم يلتفت لها سوى عمار يزلي في جريدة الجمهورية... وهو الحال الذي يتكرر اليوم رغم أهمية ما ينجزه مبدعون كعلاوة حاجي وهاجر قويدري والخير شوار ومحمد الأمين سعيدي وسارة حيدر ومصطفى بلفوضيل... وفي صحفنا المفرنسة تغييب لمن يكتبون بالعربية، في حين نجد في صحفنا المعربة دوما الحديث عن المبدعين بالفرنسية... منذ سنوات راسلني أستاذ جامعي برسالة للنشر في صحيفة محلية، تضمنت ما يفجع وما يختزل التعبير عن حالة التحلل، تضمنت ما تعرض له من حصار بسبب أنه لا ينتمي للجهة التي فيها الجامعة. ومنذ شهور سعيت من أجل تنظيم لقاء حول محمد سحابة وهو أحد شعرائنا المهمين بالفرنسية ومن المترجمين المتمكنين والمبدعين... لكن لا صدى لأن سحابة من سلالة المبدعين الذين لا يميلون للاستعراضات ولا ينخرطون في طقوس الانتماءات العصبوية. الإقصاء يتخذ أشكالا متعددة ويستحضر في ارتكازاته كل شيء إلا الإبداع والمعرفة، وتلك هي الكارثة. في تجارب سابقة برهن مبدعون على جودهم وعطائهم باحتضانهم للشباب المبدع وتشجيعهم بدون فرض الأبوية... نذكر جان سيناك، مصطفى كاتب ونذكر بن قطاف الذي غادرنا مؤخرا. إن المثقف هو المنصت والمتحاور، هو الذي مع إشراقة كل شمس، ينطلق مكتشفا، مسكونا الحقيقة، حقيقة تجعله يقول مع الإمام علي رضي الله عنه: "لا تحقرن صغيرا فإنه قد يكبر ولا قليلا فإنه قد يكثر". والنتيجة الهشاشة المتضاعفة التي جعلت الاختلالات تطبع الواقع في مختلف تفاصيله، ومن أهم الأسباب التواصل الغائب، تواصل النخب وفاعليتها مجتمعيا. وكما كتب سعيد ناشيد: «في الرئاسيات الفرنسية لعام 2002، وعقب مرور اليمين المتطرف بقيادة لوبين الأب لأوّل مرّة في التاريخ إلى الدور الثاني من الانتخابات، كان ذلك زلزالاً كبيراً استنفر مفكري فرنسا لأجل حماية إرث الحداثة والتنوير. وُقعت مئات العرائض وألقيت مئات المحاضرات وفتحت وسائل الإعلام أبوابها لمحاورة المثقفين الذين يكلمون الشعب بلغة الشعب. في تلك الأثناء اختار الفيلسوف الفرنسي مشيل أونفراي اختياراً أكثر فاعلية: استقال من الوظيفة العمومية وتفرغ لإنشاء جامعة شعبية للتنوير الشعبي. وقد لقي من الجميع تشجيعا وتحفيزا كبيرين. لكن لا ننسى أيضا أن من حسن حظ الرجل أنه يعيش في بلد لا يتحسس فيه رجل السلطة مسدسه حين يسمع عبارة: أنا أفكر". العرب 27/01/2014 . ما بادر به أونفراي في بلد تمتلك مؤسسات مترسخة وتقاليد يدفع للاعتبار، فمبادرته استمرار للدور الذي يتواصل من زمن عصر الأنوار، دور تنشيط ما يعبر عنه هابرماس بالفضاء العمومي، تنشيطا يضبط التوازن ويحمي السلم الاجتماعي. وعربيا نستحضر لقاءات نجيب محفوظ في مقهى الفيشاوي وغيرها مع المبدعين من مختلف الأجيال بكل محبة، وذلك هو الجوهر لأن الإنساني هو الأساس والمنطلق. فأين هو الموقف في ما تعرفه البلد؟ أين الدور في احتواء ما تشهده غرداية ومناطق أخرى؟... أسماء توصف بالكبيرة تستعرض عدد المنخرطين في صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي أو تواصل البكاء على تنكر البلاد لها وتربص الآخرين بها.. أما المواقف فعليها السلام... مؤخرا كتب الكاتب الصحفي توفيق رياحي مقالا بجريدة القدس العربي 25 فيفري توجه فيه بالدعوة إلى ممثلي النخبة للقيام بدورهم و«بوضع خلافاتهم السياسية والأيديولوجية على الرفِّ مؤقتا، وإعلان موقف يذكره لهم التاريخ". ووجه دعوته لأنه كما كتب: "لا أمل لي في السياسيين، حكاما ومعارضة، في الخدمة أو في التقاعد. لقد فقدتُ الإيمان بهم منذ زمن طويل". كان علولة الفنان المبدع، حاضرا إلى جانب العمال مع صديقه الرائع أمحمد جليد، وكان مرافقا للأطفال المصابين بالسرطان، وكان يتغذى من العمق المجتمعي ليغذيه بإبداعات لا زالت تلهم... كان فوكو يستثمر المعرفي لفك شيفرات المجتمع ولفك شيفرات وميكانيزمات السلطة، كان ينتج بالحفر منهجية السعي نحو حقيقة تظل متحولة، وفي تحولها المستمر المعنى، معنى الحياة، وفي مكابدة البحث عن الحقيقة المتحولة معنى الوجود كفاعل في المجتمع. وفي وقفات لاحقة سنحاول التفصيل أكثر.