المثقف و السلطة.. ضرورة الدور و فخّ الأداة ظلت علاقة المثقف بالسياسة، ملتبسة ومتباينة على مر الأزمان والعصور، خاصة في الواقع العربي، حيث تأخذ جدلية المثقف والسياسية أبعادا متصاعدة ومتصادمة في أغلب وأكثر الأحوال. كما ظلت الأسئلة في هذا الشأن تتناسل في كل مرة وبلهجات ونبرات مختلفة في مستوياتها وخلفياتها. من بين الأسئلة التي ظلت تُطرح حول ثنائية الثقافة والسياسة وعلاقة المثقف بالسياسة: هل المثقف ملزم بأخذ مواقف سياسية؟، وهل له أدوات السياسة التي تمكنه من إبداء الرأي أو أخذ مواقف في قضايا راهنية ومحورية؟، وهل على المثقف أن يكون معنيًا بالسياسة أو منتميا لها، وأيضا ما الحدود بين السياسة والإبداع؟، وهل أن الخوض في السياسة ودخولها يُبعد المثقف عن مجاله الحيوي والمحوري (الفكر والكتابة والإبداع)؟. هذه أسئلة يقاربها بعض الكُتاب والنُقاد الجزائريين والعرب، بإجابات ووجهات نظر مختلفة ومتباينة وكلٌ حسب رؤيته وحساسيته. إستطلاع/ نوّارة لحرش الحبيب السايح/ روائي جزائري المثقف الجزائري في قلب السياسة وهو يعلو السياسي منصةً ولا إبداع خارج السياسة المثقف الجزائري، بهذه الصفة التي تعني "التورط" الإرادي في حياة المجتمع العامة، هو في قلب السياسة: تاريخ الجزائر، منذ الاحتلال إلى الآن، يقول عنه هذا. لذا، فهو مَحل جذب غالبا لهذه النزعة السياسية أو تلك. إنه في مَحط عين السياسي التي تنظر إليه دوما بارتياب. في الأحوال كلها (برغم خساراته على رهانات مشروعات مجتمعية تبناها فترجمها في خطابه الفكري أو الأدبي أو الفني أو الإعلامي بفعل الانقلاب عليها أو فشلها أو انحرافها، كما هو الشأن في تجربة ما بعد استقلال الجزائر) تبقى للمثقف هذه الخصوصية التي تميزه من غيره من الكفاءات الأخرى ذات الفعل المتخصص جدا، فهو أقدر الأفراد على التأثير في الرأي العام لامتلاكه الأدوات التي تجعل خطابه يصل وسائط الاتصال التي تعيد نشره على نطاق أوسع، ومن ثمة حصول الإثارة التي يحدثها رفْضاً أو تبنّياً إنه يسهم في حركية لدى الأفراد كما عند الجماعات، إنه، هنا، أقوى من السياسي. كما هو أقدر من غيره على "اختراق" قرارات النظام بنقده إياها، بأسئلته، حول جدوى ما تقترحه. المثقف، بهذه الصفة، يعلو السياسي منصةً، إنه يستطيع أن يرى بشكل بانورامي وبدرجة دوران حول النفس كاملة. التجربة الجزائرية من زاوية علاقة المثقف بالسياسي (حرب التحرير، ما بعد الاستقلال، إلى الآن) تؤكد أمرا واحدا: سعي السياسي، بسبق إصرار متواصل، إلى إقصاء المثقف من المساهمة في تصور الخيارات (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...) وفي وسائل إنجازها وفي آليات تقويمها، بل وإلى التصرف أمام مقترحاته (في شكل كتابة أو فن) كتصرف الطرشان. إننا لم نقرأ يوما ولا سمعنا أن دوائر الحكومة طلبت، بشكل رسمي، إلى المثقفين الجامعيين منهم خاصة رأيهم في أي مشروع ذي أهمية عمرانية أو فلاحية أو صناعية أو فنية. ولا تلك الدوائر، خلال مجابهتها لمشكلات تتطلب تدخل الكفاءة العلمية والخبرة التقنية، وضعت ثقتها في مخابر البحث الجامعية. بل، إنها تلتجئ إلى مكاتب الدراسات الأجنبية أو المحلية، وهي أصلا فروع للأولى، لاستجلاب حلول غالبا ما تكون في تناقض مع طبيعة الإنسان الجزائري لإغفالها خصوصيته الاجتماعية والنفسية. فالبرلمان، مثلا الذي، من خلال لجانه المتخصصة، يتصور الغايات الإستراتيجية لكل قطاع لم يتوافر يوما، منذ تأسيسه، على مثقفين يشكلون نواة صلبة لتلك اللجان. ولا هذا البرلمان، في "دراسته" مشاريع قوانين الحكومة، استند يوما على الجامعة في القضايا الاقتصادية والمالية والأمنية المتخصصة جدا، ولا على رأي المثقفين في مسائل التربية والتعليم والثقافة والفن والتاريخ. إنها حتمية أن يكون المثقف معنيا بالسياسة. إن هو لخطأ في التقدير تصور نفسه خارجها فهو يفقد صفته، إنه يفسح لأنواع شتى من الوصوليات والانتهازيات والفولكلوريات والشطحات والدروشات والرداءات أن تحاصر النزاهة وتكبل الكفاءة وتطارد العقل. أليست تلك حالَنا الآن، لتصور المثقف نفسه خارج السياسة؟ ألم يكن للخطأ في التقدير تخلى عن مجاله الحيوي للسياسي أن يقرر بدله في ما يعود إليه هو المثقف؟. لا إبداع خارج السياسة، أبدا! وإذاً، لا حدود صارمة فاصلة بينهما. إن كانت السياسة، في تقديري، هي أسلوب إدارة شئون الدولة فإن الإبداع الأدبي والفني هو أحد محركاتها الأساسية، لارتباطه بالوجدان الجمعي الجزائري. غير أن الظاهر، بحسب تجربتنا، هو أن السياسة سعت دوما إلى "تكييف" الإبداع وتوجيهه إلى ما يخدم النظام أكثر من تنميته نحو تعبيرية أوسع عن طبيعة مجتمعنا ذات التنوع الثقافي الهائل، بما يبرز خصوصيتنا. فالمثقف، بهذا المعنى، لا خيار له تجاه السياسي غير استقلاليته إن أراد أن يكون في قلب سياسة مجتمعه كما يتصورها، كما يسعى إلى تجسيدها بإسهاماته. عبد الله العشي/ كاتب وناقد وأكاديمي جزائري المثقف لا يمتلك كل أدوات السياسة المنظمة لكنه يمتلك قلمه الحر وفكره الأصيل ينبغي أن نفرق بين الفعل السياسي المنظم داخل مؤسسات محددة، والفعل السياسي الحر الذي لا يرتبط إلا بنسق فكري خاص منفصل عن الأفراد والمؤسسات. ومن ثم نفرق بين المثقف السياسي والسياسي المثقف. فالفعل السياسي المنظم يقتضي الارتباط بمنظومة تفرض على منتسبيها رؤية موحدة مسبقة، أما الفعل السياسي الحر فهو وعي مستقل عن أي ارتباط، إنه يتعالى نظريا على مواثيق الأفراد والأحزاب والمؤسسات السياسية. من هنا، فإن المثقف ينتمي، أو يستحسن أن ينتمي، إلى الفعل السياسي الحر، ويمارس دوره السياسي، في نظري، من خلال رؤيته السياسية الخاصة، وليس، بالضرورة، من خلال انخراطه في حزب سياسي. وخاصة إذا تعلق الأمر بالأحزاب السياسية في بلداننا التي لم تعرف، إلى الآن، طريقها إلى الديمقراطية. قد يُضيِّق الحزب، بوصفه تنظيما بنيويا إيديولوجيا، مساحة الحرية المطلوبة لدى المثقف المبدع، ويعطل طموحه المثالي، ويحد من رحابة أحلامه، ويعيق حركة فكره وخياله، وهما كنزه ورأسماله. لأن الحزب مؤسسة جماعية لها خطابها الجاهز وسلطتها الملزمة المسبقة. قد يجبر الحزب المبدع أن يغير مواقفه المبدئية أم يجبره على الثبات على فكرة تتحول إلى دوجم، وهذا ما لا يتناسب مع قناعات المثقف المثالية. فالأفضل للمبدع أن يَكُون هو نفسه حزبا موازيا، له رؤيته وله خطابه، وله نشاطه السياسي، لا يأتمر إلا بأمر نفسه، ولا يخضع إلا لسلطته هو. المثقفون الذين انخرطوا كليا في الأحزاب والمؤسسات فقدوا كثيرا من قناعاتهم وتحولوا إلى ناطقين باسم أفكار لا تنسجم مع قناعاتهم، مما اضطر بعضهم إلى الانسحاب من أحزابهم وممارسة الفعل السياسي الحر، لكن عدم انخراط المثقف في الحقل السياسي سوف يقلص دوره ويحد فعاليته ويبعده عن حماية المعاني الكبرى التي يكتب من أجلها. من هنا كان لا بد للمثقف من العمل خارج التنظيمات المغلقة. والمثقف، بالتأكيد، لا يمتلك كل أدوات السياسة المنظمة، لكنه يمتلك قلمه الحر وفكره الأصيل ورأيه الصلب، وتلك، في رأيي، أهم الوسائل وأقدرها على الفعل وأكثرها فعالية وأجداها وأدومها. ويمتلك، إلى جانب ذلك، وأهم من ذلك، وسيلته الأساسية، أعني منظومته الرمزية ومخياله المبدع، وذاكرته الخصبة، وبصيرته المستشرفة، التي بواسطتها ينجز خطابه الحقيقي. ويمارس المثقف المبدع نشاطه السياسي من خلال خطابين مختلفين: إما خطاب مباشر وإما خطاب غير مباشر، وهذا الأخير هو ما يعتمد عليه ويطمئن إلى أهميته، وأقصد به الخطاب الأدبي: الشعري والسردي، فالخطاب الأدبي يمتلك قدرة على حمل المواقف السياسية ولكن بصورة تضعها في سياقاتها المختلفة وتقدمها في أشكال حسية، تضع الواقع وكأنه حي أمامنا بكل مكوناته، فيأتي خطابه كأنما هو تعبير عن الكلي، أي السياسي في علاقته بالاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي والثقافي. وفي علاقته بالذاتي والموضوعي، وفي علاقته بالحقيقي والوهمي، وبهذا يأتي خطابه شاملا ومبررا بتحليلات متعددة. إن تقاطع السياسي والثقافي أمر عادي، فمنذ أن كانت السياسية وهي موضوع شعري وروائي وقصصي ومسرحي، العبرة في طاقة المبدع وقدرته على تحويل تلك الموضوعات السياسية إلى أعمال ثقافية عامة أو أعمال أدبية، ونقلها من دائرة الخطاب المباشر المجرد إلى الخطاب الجمالي المجسد. لكن الأسئلة الأكثر إلحاحا: هل يسمح للمثقف الحر أن يمارس دوره السياسي؟ وإلى أي مدى؟ وما مقدار التضحية التي سيقدمها أو التنازل الذي سيدفعه؟ وما العوائق أمام الممارسة السياسية للمثقف؟ ما زلنا نتذكر عبر التاريخ إلى اليوم أشكال العنت التي لقيها المثقف وما يزال يلقاها. حمدي أحمد/ كاتب وناقد أكاديمي عمل المثقف هو عمل سياسي بامتياز والسياسة أيضاً إبداع لا شك أن المثقف هو جزء أساسي وفاعل في المجتمع بغض النظر عن مدى مشاركته في قيادة هذا المجتمع، ويأتي ذلك من كون منتجه الثقافي يساهم في تنوير الرأي العام والتأثير فيه وتعديله، لأن الثقافة هي زبدة الوعي الاجتماعي، ومؤشر على مدى التقدم الذي بلغه المجتمع، لكل ذلك فإنه يمكنني القول أن عمل المثقف هو عمل سياسي بامتياز، ولذلك فإنه من العبث في عصرنا هذا الذي أصبح فيه الاتصال علما واضح المنهج والمفاهيم، أن نتحدث عن التزام المثقف بأخذ مواقف سياسية، وهو يقوم بفعل اتصالي ذي طابع إبداعي هدفه التأثير في الذوق والرأي العام لأخذ مواقف في هذا الاتجاه أو ذاك وهذا هو عين الموقف السياسي، وبصفته من نُخب المجتمع فإنه يتمتع بقدرة بالغة على التعبير والتوصيل وتلك هي أهم الأدوات التي يطمح إليها السياسي، بيد أن السياسي معنيٌ بشكل مباشر إلى تحويل التصورات والأفكار إلى ممارسة وواقع معيش، يظل المثقفين مختلفين في ذلك فبعضهم يندمج في الممارسة السياسية بينما يحجم البعض الآخر عن ذلك، وهنا تختلف الرؤى، لكن بكل تأكيد أن المثقف الحقيقي هو الذي يكون في طليعة مجتمعه، من أجل التقدم والازدهار والحفر في ذاكرة الزمن، ولذلك فلكل الأحداث الكبرى في التاريخ نجد وراءها عباقرة من المبدعين، ثم هي في حد ذاتها تصنع مبدعيها الذين يتحسسون نبضها ويرصدون تطلعاتها، إن السياسة أيضاً إبداع في تجلياتها الصادقة، ومن ثم تنعدم الحدود في هذا الظرف، ورداءة السياسة تنجر عنها رداءات أخرى تماماً مثل رداءة التفكير تنجر عنها كوارث تصيب المجتمع، هناك ملاحظة يمكن التنبيه إليها وهي أن عملية الإنتاج الإبداعي ينبغي ألا تتورط في عاديات الفعل السياسي التي تؤدي ابتذال المنتج الإبداعي، وبكل تأكيد فإن مفهوم البرج العاجي في الإبداع قد زال في عصرنا مثلما رحلت الرومانتيكية وتخيلاتها. محمد تحريشي/ كاتب وناقد وعميد كلية الآداب للغات بجامعة بشار لا سياسة من دون ثقافة ولا ثقافة من دون سياسة منذ القدم عرفت هذه العلاقة بين الثقافة والسياسة، وهي علاقة متلازمة وجدلية وضرورية، وهي علاقة قائمة على تبادل المنفعة والمصالح، فلا سياسة من دون ثقافة، ولا ثقافة من دون سياسة، حتى لو آمنا بالفن للفن، ومن أبجديات القول في أي مجتمع الحديث عن السياسة الثقافية، والثقافة السياسية، ويقودنا هذا المنحى من التفكير إلى الإشارة إلى الاستثمار السياسي للثقافة لتمرير مجموعة من الخطابات السياسية، وفي المقابل هناك الاستثمار الثقافي للسياسة للحصول على مجموعة من المكاسب المادية والمعنوية، ومن ثم تتبادل السياسة والثقافة المنفعة، ويجتهد رجال السياسة كما رجال الثقافة في سبيل التوظيف الأمثل لقنوات البث الموصولة بينهما، على الرغم من أن في بعض الفترات قد تظهر بعض القطيعة المؤقتة بظهور بعض الانكسارات بسبب خيبة أمل طرف من طرف آخر. إن هذا الحديث يجرنا للوقوف عند المثقف: أولا، كونه ممارسا للثقافة عبر ما ينتجه من ممارسات أدبية من شعر ونثر ومسرح، أو عبر الفن من رسم ونحت وفن تشكيلي على العموم، وهو بذلك يعبر عن رؤيته للعالم وشعوره المرهف تجاه الواقع مرا كان أو سعيدا، ومن ثم يكون ما ينتجه مرآة عاكسة للواقع. ثانيا، كونه منتجا للثقافة عبر ممارسات للفكر الفلسفي والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم يكون على المثقف وفق هذا التوجه تقديم معرفة منظمة وعقلانية للواقع الإنساني لما يتوفر عليه من أدوات إجرائية للتحليل والمعالجة للوصول إلى مواطن الخلل التي تعتري الإنسان في مسيرته في تنظيم حياته داخل المجتمع، ومحاولة تقديم حلول لتلك الانكسارات. إن السياسة لما كانت فن سوس الناس وإدارة مصالحهم وجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم، ومن ثم فهي تتعامل مع الواقع كما تفعل الثقافة، ومن ثم فالسياسي يتعامل مع المعطيات نفسها التي يتعامل معها المثقف، ويرى بعض الباحثين أن الفعل السياسي يغلب عليه اليومي والآني في حين أن الفعل الثقافي يجرد اليومي من معطيات الواقع ويستخرج الكلي من الجزئي. إن هذه العلاقة أنتجت جهازا مفاهيميا من مثل الالتزام السياسي للمثقف، المثقف العضوي مع غرامشي، المثقف المدجن، والمثقف الحالم، والمثقف المشروع، المثقف الانتهازي، المثقف النموذج، ومن ثم فالثقافة هي مجموعة من الأفكار النيرة، وهي في الوقت ذاته ممارسة يومية لنشاط فكري، ومن جهة أخرى هي إنتاج مادي ولا مادي، وهي كذلك كل أثر لما تقدم ذكره في الواقع والمجتمع وأثر في النفس، وهي في كل ذلك مسيرة في التاريخ الإنساني. عامر مخلوف/ كاتب وناقد جزائري المثقف ضمير وموْقف وليس شرطاً أن يتحزَّب أو يعتلي كرسياً لعل القرن العشرين أن يكون أبرز فترة تمَّ التركيز فيها على مكانة المثقف ودوره في المجتمع. إذ كان لانقسام العالم إلى معسكرين وللفلسفة الوجودية أثر واضح في بلورة مفهوم الالتزام ولو أنه اتخذ منحى منطقياً خاطئاً في التمييز بين الملتزم وغير الملتزم بهدف الفصل بين الحرية والتقييد وكيْ يكون الالتزام بمعنى القيْد ألصق بالتوجُّه الاشتراكي. ثم اجتهد المنظرون في تحديد علاقة المثقف بالسلطة ومن ثمَّ بالسياسي والإيديولوجي، فكانت مقولة "غرامشي" عن المثقف التقليدي والمثقف العضوي، من أقوى الأدوات الحجاجية تجاه من يتنكَّرون لعلاقة المثقف بالسياسي أو تجاه أولئك الذين يدَّعون الموضوعية والحياد. بينما تؤكد كل الأشكال الثقافية أنها لا تخلو من دلالة أو مضمون. والأدب والفن من أكثر أنواع النشاط الإنساني إخفاءً للخطاب السياسي/الإيديولوجي ما دعا الفيلسوف "سارتر" إلى أنْ يُخرِج الموسيقى والشعر من دائرة الالتزام، في حين وبشيء من التعمُّق يظهر أن الفن الناجح إنما هو الأقدر على إخفاء السياسة والإيديولوجيا. ولقد كان المتصوِّفون في التاريخ العربي الإسلامي من أكثر الحركات التزاماً بالسرية وأحرصها على لغة رمزية لا تفهمها إلا الصَّفْوة، ومع ذلك فإن السلطة السياسة لم يفتْها أن تفك شفراتها. إذْ جعلوا المعرفة درجتيْن: ظاهرية وهي معرفة العامة التي تتكئ عليها السلطة لتسوس الدهماء، وباطنية وهي معرفة النخبة ليَخْلصوا إلى أن الظاهر باطل، وأن الباطن حق وبرفضهم المعرفية الظاهرية يرفضون السلطة القائمة، ما عرَّضهم لحَرْف كلامهم والتنكيل بهم. يكفي أن نعود إلى تاريخنا الوطني. فقد عرفت الحركة الوطنية قبل حرب التحرير مثقفين انحازوا إلى مسار التحرُّر. والأدباء منهم لم يكونوا يمنحون أهمية للجانب الجمالي، بل حرصوا على أن يجعلوا من الأدب وسيلة للتوعية بحيث استحال الشعر-وهو أكثر الفنون تلميحاً- ضرباً من النَّظْم، واستنكف أكثرهم عن الغزل لأنه لا يليق بالمرء أن يلهو بشطحاته الذاتية في وقت يعاني فيه شعبُه من الغبن. وخلال حرب التحرير هجر الطلبة مقاعد الدراسة ليلتحقوا بالثورة، كما هجر رياضيون ومثقفون مواقعهم ليُؤسِّسوا فرقاً وطنية في الرياضة والمسرح. ناهيكم عن الفرنسيين الذين تضامنوا مع الثورة ومنهم، أدباء وفلاسفة تحمَّلوا العسف والمضايقات وَوُصفوا ب "بحَِمَلة الحقائب" تشويهاً لهم وتحقيراً. إن السياسة في جوهرها هي الحكمة وحسن التدبير. فما فائدة الإبداع إذا كان المبدع نعامة يدس رأسه في الرمل ليخرج مزهوّا بعدما تمر العاصفة؟ وهل بإمكانه أن يبدع –حقاً- إذا هو لم يحمل هموم الوطن في قلبه وعقله؟ لقد أدرك وزير الدعاية النازي "جوزيف جوبلز" خطر الفعل الثقافي يوم قال: "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسَّسْتُ مُسَدَّسي". وحين ألقى "كاتب ياسين" محاضرته المعروفة عن الأمير عبد القادر وهو في السادسة عشرة من عمره لم يمنعه ذلك من أن يستمر مبدعاً محترماً. وكذلك الأمر بالنسبة ل"الطاهر جعوط" يوم قال: "إذا تكلمتَ تموت وإذا سكتَّ تموت، فقلْ ومُتْ". إنه طريق الشهادة الذي اختاره من قبل: "أحمد زبانة ورضا حوحو ومولود فرعون" وغيرهم. إن المثقف الذي يتوهَّم الحياد فيما هو مصيري بالنسبة لوطنه وأمته، إمَّا أنه لا يدرك قيمة وجوده، أو أنه يترقَّب ما تؤول إليه الأمور ليغنم سلامته ورزقه. يمكن أن نجد-عبر التاريخ- سياسياً كبيراً من غير أن يكون مبدعاً، لكنْ يستحيل أن نجد مبدعاً عظيماً من غير أن يكون سياسياً أيْضاً. فالمثقف ضمير وموْقف وليس شرطاً أن يتحزَّب أو يعتلي كرسياً. وإذا ما تمَّ تهميشه أو استدراجه، فلأنه لم يُبدع أدواته الثقافية والتنظيمية التي تمكِّنه من التأثير والقدرة على التغيير. عزت القمحاوي/ روائي مصري النخبة ملزمة باتخاذ مواقف سياسية برأيي أن شكل المجتمع ودرجة نموه السياسي عنصر حاسم في تحديد أدوار المثقفين، فالمثقف في بلد متقدم سياسيًا قد يكون لديه ترف الاعتزال والتعامل كتقني في فرع ما من فروع الثقافة. وعلى العكس، هذا الترف غير موجود في دولة قيد النمو، والمثقف المشهور لديه مسئولية أكبر، لأن الشهرة تعطي هالة من الحماية تجعل العصف بصاحبها أصعب على السلطة المستبدة. ويجب على المثقف الأكثر شهرة أن يلعب الدور الأكبر لهذا السبب. أما عن امتلاك المثقف لأدوات سياسية تمكنه من الخوض في غمار السياسة، فإنني أرى أنه الأكثر امتلاكا لأدوات الحكم على السياسة، فالسياسة عمل عام مرتبط بفكرة المواطنة، ومن يتصدون للخدمة العامة من أعضاء البرلمان إلى الرئيس يأتون من خلفيات متعددة معظمها أبعد عن السياسة، فمنهم الممثل والضابط وأستاذ الفيزياء، والتاجر شبه الأمي. كل هؤلاء أقل اطلاعًا على التنظير السياسي والتاريخ من دارسي العلوم الإنسانية من المفكرين والمبدعين. وهنا أحب أن أفرق بين "المثقف" و"المبدع" حيث يشمل وصف المثقف قطاعات واسعة من النخبة المتعلمة، سواء كانت من منتجي الثقافة أو لا. وهذه النخبة بالضرورة ملزمة باتخاذ موقف سياسي وتقديم القدوة للقطاعات الأقل تعليمًا. ولكن للمبدع الذي ينتج خيالاً أكثر مما ينتج من الأفكار قد يكون لديه بعض الحق في الاعتزال، لأن إبداعه يقدم موقفه في كل الأحوال وإن عبر الالتفاف. ولتوضيح هذه الفكرة أضرب مثلاً بأكبر ساردين مصريين: يوسف إدريس ونجيب محفوظ. اشتبك يوسف إدريس مع كل القضايا الساخنة وكان قائد رأي عظيم، بينما اعتزل نجيب محفوظ وراوغ واتخذ مواقف سياسية أقل راديكالية من مواقف يوسف إدريس، أقل كثيرًا في الحقيقة. وكنت شخصيًا أحب إدريس أكثر، لكنني أنظر الآن إلى ما قدمه نجيب محفوظ وأعتبر أنه بعزلته، ولأقل بأنانيته استطاع أن يؤسس مكانة للسرد العربي بين الآداب العالمية، وانطوى إبداعه على مواقف مناهضة ومختلفة تماما من السلطة التي جاراها في مقالاته التي لا تقارن أبدًا بمقالات يوسف إدريس التي كانت مصر تنتظرها أسبوعيًا. هي إذًا خيارات واستعدادات نفسية، لكن يجب أن يكون الضمير سليمًا سواء اتخذ المبدع موقفًا ناشطًا أو خاملاً من الشأن الجاري، أن يعرف أن انحيازه يجب أن يكون للقيم الإنسانية المستقرة. محمد الأصفر/ كاتب وروائي ليبي دور المثقف ينحصر في الإبداع الذي سيكون أكثر تأثيرا منه في المجال السياسي السياسة هي السلطة، والسلطة هي المال، والمال هو كل شيء في هذا الوجود الراهن الأرعن، وقديما قالوا أن المال والأدب لا يلتقيان، وعليك أن تختر إحداهما. ومن هنا أجد دور المثقف ينحصر في الإبداع فقط الذي سيكون أكثر تأثيرا منه في المجال السياسي لو أجاده وجعله مؤثرا وقريبا من قلوب الناس. الجماهير لا تتغير إلا من خلال القلب، ومس القلوب يحتاج إلى مبدع همه الإبداع فقط. معظم المثقفين الذين دخلوا معترك السياسة فشلوا، باستثناء قلة جلبتهم للمناصب مواقف سابقة في مناهضة الديكتاتورية في الأساس وليس لكونهم مبدعين مثل رئيس تشيكوسلوفاكيا فاتسلاف هافيل. هناك الكثير من الكُتاب الكِبار دخلوا انتخابات رئاسية لكن لم يشفع لهم إبداعهم العالمي الكبير في الفوز وسقطوا سقوطا مريعا مثل ماريو فارغاس يوسا في البيرو. وحتى في العالم العربي الكثير من المبدعين تقلدوا حقائب وزارية، خاصة حقائب الثقافة والإعلام والتعليم، لكن للأسف بان وجههم القبيح وتعطشهم للضوء السهل المجاني وسقطوا سياسيا وأخلاقيا وتحولوا بعد الوزارة إلى أوراق جافة تبحث عن هواء مغبر ليعبث بها ويعيدها إلى حيث كانت سابقا في مجال الثقافة. من الممكن أن تخسر الدولة مليارات الدنانير كي تُغير وجهة نظر أو تُحدث اصطفافا لصالح قضية ما أو توجه الرأي العام أو تُعدل الذائقة بالرقي بها أو بخفضها وتفشل. لكن المبدع يمكنه أن يفعل ذلك دون أن يخسر درهما واحدا، فلحظة إلهام واحدة قد تُجلب له بيت شعر أو فكرة رواية أو مشروع جدارية أو لوحة تشكيلية فيتفاعل معها الشعب ويعتمدها أيقونة لها ويأتمر بأمرها ويتحرك نحو الضوء المنبعث منها ليحطم كل ترهات الحقد والكذب والهيمنة والسيطرة والاضطهاد، وهذا الإلهام لن يحدث للمبدع وهو جالس وسط مستنقع السلطة يقتات على الدم ويروّق بالدسائس والخديعة وبيع الذمم وإتباع مبدأ ميكافيلي الغاية تبرر الوسيلة حتى وإن كانت هذه الوسيلة ظالمة ولا أخلاقية. إن دخل المثقف دائرة السلطة ورقص في حضرتها عليه أن ينس كل مواقفه وتنظيراته وأن يرضخ لرأس السلطة ويتبعه حتى يبقى في المنصب. السلطة تلغي أفكار المثقف وتحوله إلى ترس في منظومة لا يمكنه أن يعمل منفردا حتى وإن كان يرى الصواب أمامه ظاهرا جليا. وفي النهاية أعتقد أن السياسة موهبة وعلم والمثقف المبدع عليه أن يحترم نفسه وقدراته وإمكانياته فلا يدخل إلى منطقة ليس موهوبا فيها ولم يدرسها مثلما يفعل الآخرون حينما لا ينخرطون في الأدب وهم غير موهوبين فيه. والبلاد لن تتقدم إلا بمنح العيش لخبازه. والسلطة في النهاية هي عمل إداري، وكثير من وزراء الثقافة مثلا نجحوا في أعمالهم وإدارة الحراك الثقافي وبناء البنية التحتية وهم ليسوا مبدعين موهوبين، لكنهم عملوا بطريقة منح الكفاءات مهاما تجيدها، وأرى أن المثقف الذي يسعى لسلطة غير سلطة النص سيفشل، إلا إن تنازل عن صفته كمبدع وقدم نفسه كسياسي محنك أو في طريقه للتحنيك بعد الاحتكاك أكثر بالمحنكين أصحابي اللحي والمرد على السواء. عبد الوهاب الملوح/ كاتب وناقد تونسي المثقف لا يملك الأدوات السياسية الكاملة لأنه ليس رجل سياسة ليس هناك مثقف لا مواقف سياسية له، بل لأنه مثقف لابد أن يكون له وجهة نظر مما يحدث في بلاده وفي العالم عموما، والتاريخ أثبت ذلك منذ سقراط وهومير إلى ريجيش دوبراي مستشار الرئيس الفرنسي ميتران، مرورا بالجاحظ الذي كان يكتب للخليفة ضد النصارى. فالمعنيين بالشأن الثقافي هم الأولى بمعالجة الوضع السياسي لبلدهم، إنه لسؤال معطوب ومغدور، القول أن المثقف بعيد عن السياسي، بل إن الثقافة في جوهرها فن إدارة الحياة. أليست السياسة وجه من وجوه هذي الإدارة، يعبر المثقف عن موقفه السياسي من خلال المجال الذي ينشط فيه، كذلك كان بريشت في نظرته للمسرح ومن بعده سعد الله ونوس، وكذلك كان كوستا غافراس في أفلامه، وكثير مثله، منهم يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وغيرهم، وكذلك كان ادوارد مينش الرسام الدنماركي، وغيرهم من المثقفين الفاعلين في النشاط الثقافي ولكن على طريقتهم الخاصة. وإن كان هناك مثقفون وفي الوقت الذي يعبر فيه بعض المثقفين عن أرائهم بشكل مباشر من خلال انتمائهم لأحزاب سياسية أو منظمات ذات صلة بالشأن السياسي، هناك من يستثمر مجاله الثقافي ويعبر عن وجهة نظره وكذلك فَعل فوكو ياما الياياني الموظف في الخارجية الأمريكية حين كتب عن نهاية التاريخ ونفس الشيء فعل في المقابل تشومسكي وادوارد سعيد وتيري ايغليتون وكانت مواقفهم ذات أهمية بالغة غير أن هناك من المثقفين لكثرة اهتمامهم بالإجرائي الطارىء اليومي فقدوا صلتهم بالإبداع وضعف إنتاجهم الفني بحكم مباشرتهم لقضايا يومية بطريقة منفعية سطحية عكس أولئك المبدعين الكِبار الذين عرفوا كيف يتعاملوا مع دورهم الريادي وهم كُثر وربما أبرزهم الممثل الفرنسي كوليش الذي دخل سباق الانتخابات واستطاع أن يرعب كِبار السياسيين المحترفين. إذًا من الخطأ القول بعدم تدخل المثقفين في ما هو سياسي، بل إنها عملية تحويل وجهة وقتل متعمد لدور المثقف. لكن وبرأيي، لا يملك المثقف الأدوات السياسية الكاملة لأنه ليس رجل سياسة وليس صاحب منصب في الحكم، هو يحلل، ينقد، يستشرف، يقارن بما يملكه من موهبة التفكير والقدرة على التحليل، وهناك شواهد على مثقفين كبار نُوِلوا مناصب في السلطة لكنهم بسرعة تخلوا عنها في سبيل إبداعهم، مثل الرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل وأندريه مالرو وغيرهم، السياسة تقتل الإبداع، بل إنها على النقيض تماما منه.