يعلم الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي أن ثنائية الخطاب الثقافي في أي مجتمع، تُخفي وراءها تباينٌ في المواقف واختلاف في الأدوار، بحيث تجعل من المستحيل الحديث عن نخبة مثقفة متجانسة قادرة على توحيد الرؤى والأفعال. خلف هذه الثنائية المتوازية تحتشد صفوف المثقفين من صناع الفكر وأهل الفن والمبدعين على طرفي نقيض، بحيث يحفل كل فريق بما لديهم من مورد ومَعين، ويحتفي كل طرف بما يجود من أثر وخطاب. وسنحاول في هذه الورقة تناول هذه المسألة من وجهة نظر مغايرة لما اعتاد عليه الأكاديميون وغيرهم، فدورنا كباحثين سوسيولوجيين، كما يقول بورديو، هو استنطاق المجتمع والاستماع إليه وليس الحديث باسمه، دون أن يعني ذلك أن يحرم أهل العلم من التعبير، وتترك الكلمة لغيرهم، كما هو سائد في بعض الشؤون الأخرى. اختلاف في المواقف وتوافق على التناقض عند حديثنا عن مواقف النخب المثقفة وحركتها في الحياة، نقف على عدة حقائق لا بد من تسجيلها، لعل أهمها أن توحّد المصادر والمنابع التي يغرِف منها قسم من النخب المثقفة، وينطلق منها لتأسيس مادّته وصناعته لا يعني بالضرورة تناغمٌ في الوِجهة والأهداف، فقد يكون ذلك سببا للتراشق من داخل الصروح الفكرية التي ارتضوها لأنفسهم، وقد يستخدم هؤلاء المعجبون بما لديهم مرجعياتهم المشتركة سلاحا لإلحاق أكبر الخسائر الأيديولوجية والمادية بالطرف المناوئ. وقد دلّت التجارب التاريخية على أن التصفيات الفكرية التي جرت بين النخب اليسارية والعلمانية وغيرهما هي القاسم المشترك بينها في نضالاتها الطويلة وسجالاتها التي لا تنتهي. وهذا بالطبع، من مقتضيات الحركية التي تطبع الفكر وتسم المجتمع، ولكن عندما يتم ذلك بعيدا عن متطلبات الفكر والثقافة، أو خارج المسار الاجتماعي السليم، يكون من نتائج ذلك حقن الثقافة بأجسام غريبة تنزع منها قوة التأثير والإقناع، وتجعلها لا تمتلك مقومات البقاء. ولكن ما يؤسف له في مثل بلداننا العربية، التي تجمعها مقومات وخصائص عديدة هو تحول التنافر إلى قاعدة ثابتة، بدل توسيع مساحات الاتفاق. فقد عمّقت التوجهات الأيديولوجية غريبة المنشأ هذا التنافر، وباعد اختلاف اللسان بين أبناء البلد الواحد، وأضافت الهجرات الموسمية نحو الشمال وأحيانا نحو السماء من التناقض الموجود، وكان من عواقب ذلك غياب واضح لأي خطة جادة أو سياسة رشيدة أ وخطوات هادفة تُحسن التصرف بما لدينا من موارد ثقافية غنية. ففوّت ذلك على مجتمعاتنا أكثر من فرصة للاستفادة من مواردها الثقافية، ومن إمكانات مثقفيها لترقية المجتمع وإثراء الهوية، وتأسيس منظومة ترتقي بالشخصية الفردية والوطنية، وتبني الضمائر، وتنمي الحس المدني، وتعمل على تنوير العقول، وتنجح في تحويل المواد الأولية الثقافية (تراث، سياحة، قصص، مخطوطات، شعر، موسيقى...) إلى موارد وطنية تُنافس الموارد الأخرى المادية كما هو الحال في البلدان المتقدمة. بل، نلاحظ استعمالا واهنا هزيلا لهذا المورد بحديثه وقديمه، وببيانه وعرفانه، وبروحه وجمالياته، قصد الإلهاء والتلاعب بالعقول والقلوب، استجابة لنزوات سياسوية عابرة وخدمة لجهات مُخاتلة. النخبة المثقفة ومستويات الانخراط الاجتماعي من منظور مغاير أصبح الحديث عن تباين مستويات انخراط النخب المثقفة أو غيرها في الحياة الاجتماعية الواقعية من الموضوعات السوسيولوجية التي ولجت إلى داخل لغة التداول العام، بعد أن كانت حكرا على أصحاب الصالونات الفكرية ومن اختصاص الكتاب الأكاديميين والثوريين. فحتى الرجل العادي، أصبح بفضل الممارسة اليومية للتفكير الاجتماعي، التي يوفرها له التلفزيون والأنترنت، يمارس هو بدوره التحليل والاستشراف، ويُحرك الأقلام ويستنهض الهمم. والأكثر من ذلك، فإن طوبوغرافيا المثقفين أصبحت أيضا ضمن التداول الاجتماعي العام، فبعد أن كانت تُلحق بالمنظرين والمفكرين الأوائل (مثل غرامشي) الذين برعوا في ابتكارها واعتمادها في الكتابة والتحليل والتوجيه والنضال، أصبحت هذه الحقول الفكرية مرتعا لرجل الشارع، الذي لا يتحرج في تجميع وتنميط حشود المثقفين، ووضعهم ضمن الصفوف والطوابير التي يعبّرون عنها. وقد تجد عندهم كرونولوجيا دقيقة عن اتجاهات وآراء بعض النخب المثقفة أو بعض المثقفين، فيرصدون مسار تطور أفكار أي مثقف، بل أنهم يعرفون أقنعته الفكرية التي استعملها أو استبدلها أكثر من مرة، فهي مسجلة لديهم ومدونة، فهم يتابعون التصريحات والكتابات، ويتداولون ذلك ضمن المواقع والمنتديات والمدونات والمقاهي. وهم يتوفرون على المقاييس التي ترصد مدى قرب المثقف من المجتمع وابتعاده عن أروقة السلطة، أو العكس، وقد يفهمون لغة المثقف حين يعزف على الوترين، وقد يقدموا في تعليقاتهم ومنتدياتهم التي تشع على اللوحات الإلكترونية درسا مستفيضا عن المقام الموسيقي الذي استجدى به المثقف أو اشتكى أو أطرب. أسباب ظهور أطراف جديدة داخل الفضاء الثقافي يمكن القول بأن تذبذب مواقف النخب المثقفة، وتنازلها الطوعي عن مكانتها كضمير يقظ وقلب نابض للأمة، ومعبّر مقبول عن روحها وآمالها وأمانيها، وتضييعها التدريجي لاستقلالها وسلطتها المعنوية، وتراجعها إلى أدنى مراتب النخب الاجتماعية، واحتمائها المُذل تارة بالمعادن ومرة بالقصدير، جعلها تفقد دورها القيادي في المجتمع، وتعجز عن تقديم أبسط الخدمات ''المعنوية'' لأبناء مجتمعها. وبسبب تراجع ونكوص هذه النخبة عن مراكزها برزت أطراف جديدة، جاءت من التخوم لتحتل ساحة الثقافة كطرف مستهلك واع وكمتفاعل جريء. فضلا عن احتلالها لموقع آخر كقوة حركية موجّهة. وهي تستخدم في وقتنا الراهن كل ما يقع تحت أيديها من أفكار ومُعدات، وتستولي على ما تجده من أسلحة فكرية تخلى عنها المثقف في ساحة المجتمع. ففي الوقت الذي لم يغادر فيه قسم من المثقفين عاداتهم في اقتناص مواسم الهجرة إلى الشمال لإشباع النزوات باسم حداثة واهمة أو في انتظار مواسم الهجرة إلى السماء لدفن البذور في التربة المقدسة، انتظارا للوارد البعيد أو تطلعا للعطاء الرغيد من دون جهد حقيقي على أرض الواقع، ففي هذا الوقت نجد هذه القوى المنبثقة من قاع المجتمع، ومن أرصفة المدن، ومن خلف المكاتب البالية، التي تمتلك قدرا لا بأس به من الأدوات الفكرية والوسائل الثقافية لا تتوانى في استعمال ما لديها من مواد فكرية. بل إن الفضاء الإلكتروني فتح لها المجال لتدلي بدلوها في الموسوعات المُشاعة، ولتدوّن وتصنع الأفكار والمفاهيم، وتسجل ماركتها، وتروّج لمنتجات طمرها أصحابها في مخازن الثقافة، وتركوها ساكنة جامدة، بدون نسمة تبث في كيانها الحركة والحياة. تثمين الموارد الثقافية بعيون تونسية من الموضوعات التي لم تنجح في لمّ شمل أصحاب الشأن الثقافي حول مائدة واحدة، هو استثمار المورد الثقافي وتثمينه، وهو الموضوع الذي استرعى انتباهي عند قراءتي لورقة متميزة قدمها أحد علماء الاجتماع التونسيين كمشروع دولة. فبسبب ضجيج الأطروحات الفكرية غابت بعض التفاصيل الهامة التي يمكن أن تشكل ورشات لتوحيد الجهود، وفرصة لرد دين المجتمع على الذين تفرغوا لمثل هذه المجالات ''غير المنتجة'' في المنظور القريب. ففي حين تغيب مثل هذه الجوانب لدى المنتجين للثقافة، والمسيرين لها، نجد منير سعيداني عالم الاجتماع التونسي يقوم بعمل جبار، كان لي شرف الإطلاع عليه، وتقديم تصورات متواضعة حوله. فهو يتضمن تحليلات واقتراحات وخطط عملية، ويتبنى مقاربة جديدة للمورد الثقافي برؤية شاملة ومتكاملة لا تغفل حتى أدق التفاصيل والمكونات والأبعاد، كما تطرق كافة الرهانات من الأبواب الصحيحة. وقد نجح الباحث في تحديد مكونات هذا المورد الثقافي في بلاده، وبين أهمية كل مكون من هذه المكونات والعناصر، التي قد يرى فيها مهاجرو الشمال مجرد مواد فقدت صلاحية وجودها واستمرارها في المجتمع. وقد فكك الثقافة إلى حُبيبات دقيقة كثيرا ما يغفل عنها المثقفون، ولا يتصورون بأنها تروي ظمأ الروح وتُغذي العقل، وتنمي الملكات، وتمتّع الذوق، وتنعش الحس. وقام بإحصاء دقيق لكافة المجالات والمكونات. ولم يترك الباحث عنصرا إلا ووضع له استراتيجية تسمح بتحويله إلى مادة استهلاكية محلية، يحتاج إليها تلاميذ المدارس ويطلبها الطلبة ويحتاج إليها كافة عوام الناس. فنحن أيضا يجب أن نستنطق عناصر ثقافتنا، وإمكانياتنا الفلكلورية وكافة مواردنا، ليس فقط لتعزيز التواصل مع رصيدنا التاريخي، وتحقيق الانسجام، لكن لتمكين أغلبية المواطنين من تملك الموارد الثقافية وتعاطيها والاستمتاع بها، ولتعزيز القدرة الذاتية على الاستفادة من الآخر، فندخل سوق التداول العالمي بذوات غير مهتزة، وبكيانات ثابتة قابلة للتثاقف والتفاعل الإيجابي. وبرأيي، فإن الانشغال بتثمين مواردنا الثقافية، وتوسيع دائرة تداولها، يعد أفضل ما يمكن أن ننشغل به لفتح المجال لعمل تثقيفي وبيداغوجي شامل، يمكن أن يسهم في بناء الإنسان العربي بوجه عام، والإنسان الجزائري بوجه خاص، الذي يمكنه أن يصنع المعجزات حتى لو نضبت كل الموارد الأخرى وشحّت.