توفي السينمائي الفرنسي "آلان رينيه" ليل الأحد في باريس عن 91 سنة، وطبع آلان رينيه سينمائي الذاكرة والخيال الإنتقائي والخارج عن كل تصنيف، تاريخ السينما الفرنسية من خلال أعمال كبيرة جسدت باكوراتها فترة التجدد المعروفة ب "الموجة الجديدة". بعض النقاد يصف إسهامات رينيه السينمائية بأنها الأكثر أهمية من بين الإسهامات المعاصرة، حيث أنه تمكن بفضل جلاء الرؤية لديه أن يقدم لزماننا ببعض مبادئ علم الدلالات والرموز وعلم جمال السينما وتطويرا للغوياتها الخاصة. تجربته في هذا الحقل، ومصادره المتعددة والتي أدت به إلى اكتشاف طريقة عمل الذاكرة والأسلوب التي تترابط به الذكريات وإيمانه بأن الإنسان ليس إلا حصيلة لماضيه، يبدو الإصرار على الماضي وكأنه في الأغلب محو مقصود للإحساس بالحاضر الفعلي عند شخصياته، كما أن اعتماده على كتاب ذوي مسحة «أدبية» أمثال دوران وغرييه وديفيد ميرسيه، أضفى على أعماله شيئا من البرود ليس بالضرورة كالتعالي الفكري المفرط. ولد في حزيران (يونيو) 1922 في فان (موربيان)، برز شغفه بالأدب في سن مبكرة، في سن الثالثة عشرة صوّر فيلماً قصيراً بعنوان «فانتوماس»، أوقف دراسته الثانوية وتسجّل في معهد الدراسات السينمائية العليا في باريس في العام 1943. قدم رينيه عددا من الأفلام التسجيلية المهمة، أبرزها «ليل وضباب» 1956 و«فان جوخ» 1948 وفي أفلامه الروائية منذ فيلمه الأول «هيروشيما حبيبتي» 1959، السنة الأخيرة في «ماريانباد» ،1961 «مورييل» ،1963 «الحرب انتهت» 1977.. الخ. في «ليل وضباب»، يواجه الجمهور في معسكرات الإعتقال الرعب، وفي هذا الفيلم التسجيلي أصر رينيه على تجنب إثارة أي تعبير حي أو درامي للفزع، معتمدا في بناء الفيلم على تراكم الوقائع التي تبرز عن الصور، وتبع هذا بوجدان العاطفة والإعتماد على التأثير التراكمي الناتج عن العرض الموضوعي للفزع. فيلمه التالي «هيروشيما حبيبتي»، أعطاه مزيدا من الأهمية كسينمائي بارز، وهو أنشودة شاعرية حزينة ليهروشيما وعشوائية ودمار الحرب الذرية التي احتدمت، والفيلم يتابع 24 ساعة من حياة ممثلة فرنسية متزوجة كانت تعمل في هيروشيما فوقعت في حب شاب ياباني، هذه التجربة أحيت ذكرى تجربة سابقة لها إبان شبابها عندما أحبت جنديا ألمانيا أثناء الإحتلال النازي لفرنسا، حيث قتل ذلك الجندي أمام عينيها عند تحرير باريس من الألمان ومن ثم عوقبت بحلق شعرها، الأمر الذي دفعها إلى الإنزواء. ثم فيلمه «مورييل» الذي تطرق فيه للإحتلال، وهو من أجرأ الأفلام التي ناقشت المفاهيم الفرنسية تجاه الإستعمار وجرائم الحروب، بل هو من أوائل الأفلام التي دعت لضرورة التفكير من جديد ومناقشة الماضي من أجل وعي أكبر بالحاضر. عام 1965 قدم رينيه «إنتهت الحرب» عن رواية الكاتب الأسباني جورج سمبرون، ويحكي الفيلم مأساة سياسي تعب بعد 25 عاما من النضال السري من أجل إعادة الحكم الديمقراطي إلى إسبانيا، لذا فهو يحاول أن يعيش حربه الخاصة دون أن يعلم أنها انتهت وان الشباب هم الذين يقودون هذه الحرب الآن، ويحاول تبعا لذلك أن يتخلص من أعباء ماضيه بالإنغماس في تجاربه الخاصة وذكرياته العاطفية.تعاون رينيه مع الروائي والسينمائي آلان روب غرييه في فيلمه «السنة الماضية في ماريانباد» فأنجز عملا متماسكا للغاية، في حين أن كلا منهما قد تصور العمل بطريقة مختلفة، بل ومتعارضة تقريبا، وأثبت كلا المؤلفين ربما عبر هذا العمل، حقيقة تعاون أصيل، حيث أن العمل لم يكن منظورا إليه وحسب، بل منجزا، تبعا لسيرورات إبداعية تعانقت معا بنجاح متجدد ولكنه متفرد في كل مرة. ويرى جيل دولوز في كتابه «الصورة الزمن» أن الفارق بين رينيه وروب غرييه هي في مستوى الزمن، الفارق هو في طبيعة الصورة الزمن فهي تشكيلية في حالة، ومعمارية في الحالة الأخرى، فرينيه تصور فيلم «السنة الماضية في ماريانباد» على منوال سائر أفلامه، على شكل طبقات أو مناطق ماض، بينما رأى غرييه الزمن على شكل أطراف أو حاضر، فإذا ما أمكن تقاسم الفيلم بين المؤلفين المخرجين، لبدا لنا بأن الرجل أقرب إلى رينيه، والمرأة أقرب إلى روب غرييه، فالرجل في الواقع، يحاول أن يغلف المرأة بطبقات متصلة، حيث الحاضر فيها ليس سوى الأشد ضيقا، في حين أن المرأة، مرتابة حينا، متصلبة حينا، مقتنعة تقريبا حينا، تقفز من كتلة ماض إلى كتلة أخرى ولا تتوقف عن اجتياز هوة بين طرفي حاضر، بين حاضرين متزامنين، ومهما يكن من أمر، فإن المؤلفين لا يعودان داخل الميدان الواقعي والمتخيل، وإنما داخل الزمن، داخل ميدان أشد رهبة من الحقيقة والمزيف. من المؤكد، أن الواقعي والمتخيل يواصلان دورتهما، ولكن فقط على أنها القاعدة لشكل أعلى، لم يعد ذلك فقط «الصيرورة اللا متميزة» لصور متميزة، إنها خيارات يتعذر الحسم فيها بين دوائر الماضي، فروق مبهمة بين أطراف الحاضر، مع رينيه وروب غرييه، حدث تفاهم قوي بقدر ما هو قائم على تصورين متعارضين للزمن، كان أحدهما متصادماً مع الآخر، فالتعايش بين طبقات ماض كامن، والتزامن بين السنة حاضر تعطل تحوله، هما العلامتان المباشرتان للزمن بشخصه. ثم يقدم فيلمه «أحبك.. أحبك» عن الذاكرة والحب والموت، ويتوقف عن الإخراج لمدة ست سنوات، ليقدم بعدها فيلمه «ستافيسكي» عن الأزمة الإقتصادية الشهيرة في فرنسا إبان الثلاثينيات وأسبابها والتي لعب الدور الكبير في وقوعها الآفاق الشهير ستافيسكي والذي كان يمكن للحقائق التي معه أن تفضح الكثير من الأمور وتقلب كافة الموازين السياسية والإقتصادية والأخلاقية للمجتمع. بعدها أخرج رينيه فيلمه «العناية الإلهية» الذي يروي قصة الأيام الأخيرة من حياة روائي عجوز يصدر من خلال رؤاه الكابوسية التي يستمد منها مادة روايته الأخيرة، أحكامه على مجتمعه الأرستقراطي وأفراد عائلته بما فيهم إبنه. في عام 1981، يقدم رينيه فيلمه المميز «عمي الأمريكي»، في الفيلم ثلاث حيوات وثلاثة طموحات، ويقدم آلان رينيه في فيلمه «الحب حتى الموت» تأملا ميتافيزيقيا حول الحب والموت أو الحب في الموت أو إذا شئنا الموت في الحب، وصاغ الفيلم في شكل جمل سينمائية تتكسر، دائما، بلقطة ترمي بالمشاهد في سواد أخروي يوحي بالإنمحاء والموت. فيلم رينيه "ليس على الفم" إنتاج 2003 ميوزيكال سينمائي ممتع مستل من منصة وفضاء المسرح، صاغه في شكل جمل سينمائية تجمع الغناء بالموسيقا بالفضاء المسرحي، ليقدم عملا ممتعا من سينمائي متمرس، فاز فيلمه (قلوب) وهو كوميديا فيها أجواء حزينة وحالمة حول موضوع العزلة، جائزة الأسد الفضي عن فئة أفضل إخراج في مهرجان البندقية العام 2006، وقبل ذلك في العام 1995، حاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عن مجمل أعماله. وبعد غياب دام ثلاث سنوات، عاد العام 2009 إلى الإستديوهات لتصوير فيلم «ليزريب فول» وهو تأمل فيه الكثير من الخيال في الرغبة مع سابين أزيما وأندريه دوسولييه، وصور بعد ذلك «لم تروا شيئاً بعد» (2012) و «ايميه بوار إيه شانتيه» (2014) الذي عرض في مهرجان برلين الذي يبدأ عرضه في فرنسا في 26 (مارس) الجاري في فرنسا. تزوج في البداية من فلورانس مالرو، لكنه كان على علاقة مع سابين ازيما التي تزوجها في العام 1998، مال ألان رينيه في أفلامه إلى الأحداث التاريخية التي طبعت القرن العشرين، ومن خلالها عبر عن نوع من الإلتزام السياسي والأخلاقي بقضايا الحرية وهموم الإنسان، مع انحياز كبير للواقع في مناطقه الحميمة وللحلم في تجلياته الفنية. وبفضل عشقه للسينما التي كان يتنفسها، حصل على الكثير من التكريمات والجوائز والأوسمة.