الإبداع حالة تجلي خاصة.. وحالة تمرد تبحث عما هو إنساني في قلب البشر وفي مقدرات الروح الأكثر غورا.. تمرد لا يلبث أن يكرر على الدوام محاولاته - كما كان فارس دون كيشوت يصارع طواحين الهواء - من أجل تحسين الشرط الإنساني العام. العمل الحيوي للكشف عن هذا الوجود الذي يغمرنا وهذا الغياب الذي يصيبنا بالدوار مع الإيمان الملهم بمكانة الإنسان والفن وأهدافهما وبقوة البحث الأخلاقي التي تتحول أحيانا إلى نشوة روحية وخيال مبدع، يضاف إلى ذلك المشاركة بكل ما يحدث حولنا للناس ومن هنا يأتي التواضع العميق والطبيعي تماما. فالعالم المترامي لا يلفنا ويحيط بنا فقط، بل هو في أعماق ذواتنا وأرواحنا، هو الكتابة عن الحب المنتظر، عن الأسرار المحظورة وانتهاكات النسيان والحلم واللامبالاة، عن التوهج الجميل والألفة التي تلمنا.. عن العودة للشقاوة والطفولة المشتهاة في فسحة الروح، واستعير قول المخرج الألماني فيم فيندرز: "إن الجزء الكبير من سلوك الشخص نابع من مرحلة طفولته، الأحلام، الذكريات هي كنز. إن المبدعين المعروفين من السينمائيين والكتاب والرسامين والموسيقيين يلجأون إلى كنز الطفولة"... الكتابة عن الحلم بالتغيير رغم أقسى الهزائم والوقوف على الهاوية.. الكاتب يبدو مأخوذا بنص، يشكله، يبنيه من صلصال روحه ومتن ثقافته ومن ذكرياته الشخصية المنسية، تجسيداً لعصارة تجربته وفكره، يهز الروح ويرتحل بها إلى أقاصي الفضاءات المترعة بجمال بكر لا يعطي غالبا أسراره بسهولة، وهو هنا لا ينفصل عن تشكلات إبداعه التي تأخذ حالات وتعبيرات هو نفسه لم يكن يتوقعها، قد تتمرد شخصيات الرواية أثناء التشكل على كاتبها وتأخذ منحى آخر غير الذي رسم لها سلفا، وقد ينتج عن الفيلم السينمائي بعد المونتاج شيء آخر مختلف عما قد صوره عبر آلاف الأمتار السيلولودية. عبارة آلان روب غرييه: (إن الإبداع بحث يخلق نفسه.. بحث يفرز أسئلته الخاصة بنفسه.. الكاتب يبحث.. لكنه يجهل حقيقة ما يبحث عنه..) فيها شيء كثير من الصحة، وبما أن روب غرييه روائي اشتغل بالسينما مخرجا وكاتب سيناريو أسوق مثالا سينمائيا عن المخرج الوثائقي روبرت فلاهيرتي، كان فلاهيرتي مستكشف أراض مجهولة ينشد الوصول إلى رومانسية الإنسان البدائي وغرابة المشهد الطبيعي المدهش في الأصقاع البكر عندما أحرقت النيران أكثر من 2000 متر من النيغاتيف كان صورها في أماكن بشمال كندا، وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أصيب بحروق بالغة. كان كل ما تبقى عبارة عن نسخة موجبة من عمله. ومن المستحيل تلك الأيام عمل نسخة نيغاتيف من هذه النسخة، ليقرر بعدها أن يعود مرة أخرى إلى شمال كندا، ويحقق نوعا آخر من الأفلام، سيكون مركزا على شخص واحد من الاسكيمو وعائلته، ويكشف تفاصيل وطبائع حياته. حيث أقام علاقة وثيقة مع عائلة الصياد نانوك من الاسكيمو وقرر تصويرها، دون أن يدري طوّر فلاهيرتي على الأرض منهجاً سوف يستخدمه علماء الانتولوجيا والانتروبولوجيا في ما بعد من خلال علاقته الأولية بالزمن، عاش فلاهيرتي مع أبطال فيلمه فترة طويلة قبل أن يصورهم، كان يحدد معهم يومياً للمشاهد التي يريد تصويرها، ثم يظهّر المادة في مختبر صنعه في المكان نفسه، ويعرض الصور على الأبطال قبل أن يقرروا معا برنامج التصوير المقبل. ليخرج انطلاقا من قراره ذاك، نانوك الاسكيمي، ليعتبر أحد أهم الأفلام الوثائقية على مر العصور.