رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    توقرت: 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة قسنطينة في رواية ليل الغريب لمراد بوكرزازة
نشر في النصر يوم 20 - 06 - 2011

صدرت للروائي الجزائري مراد بوكرزازة رواية جديدة موسومة ب ليل الغريب، منشورات جمعية البيت للثقافة والفنون ، سلسلة نصوص التشريق ، الجزائر 2010. ، وفي شكل أنيق مغر بالقراءة ، أودعها جانبا مهما من همومه الإبداعية والحياتية ، وهي امتداد لتجاربه السردية السابقة ، وبالخصوص رواية : شرفات الكلام ، التي نشرتها دار الفارابي طبعة أولى 2001 ، وصدرت أيضا في طبعة ثانية سنة 2002 عن منشورات البرزخ بالجزائر، كما أصدر أيضا مجموعة قصصية بعنوان: الربيع يخجل من العصافير ، منشورات ميديابلوس 2004 ، حيث صدرت مترجمة سنة2007 بالفرنسية بباريس عن دار Publibook. بقلم : محمد كعوان
وتعد رواية ليل الغريب إحدى التجارب السردية الجزائرية المعاصرة التي تولي اهتماما كبير بالعشرية السوداء التي مرت بها الجزائر ، حيث تصور حياة مذيع ، وكاتب جزائري في رحلته المأساوية نحو المنفى الاختياري ، وهو مكان الاختباء من تهديدات الجماعات الإرهابية حينذاك، حيث يعالج السارد موقف المثقف والفنان والصحافي والطبيب من الأزمة التي عصفت بكل القيم النبيلة والأخلاقية لمجتمع مسلم في ظاهره ، ممتهن للقتل وكل المحرمات في جانبه الخفي . وهو ما تحاول الرواية تبيانه بكل الأساليب والمواقف على امتداد صفحاتها .
اختار السارد اسم رشيد عياد للشخصية الأساسية في الرواية ، حيث يقرر مغادرة أرض الوطن –قسنطينة – تجاه باريس هروبا من تهديدات الجماعات الإرهابية ، يلتقي بمطار بوضياف وردة أستاذة الرسم بالمدينة ذاتها ، وقد جمعتهما ظروف أمنية واحدة ، يلحظ رشيد ذلك الحزن الشديد في عينيها وهو شبيه بحزنه ، يتعلق بها في لحظات اليأس التي انتابته وهو يغادر المدينة التي تحمل كل أحلامه وذكرياته ، في المنفى الجديد والاختياري – باريس – تهديه وردة بورتريه / صورة لجسر قسنطينة وطائرة تعبره ، وصورة رشيد الموغلة في الحزن بعد أن رسمتها أثناء الرحلة .
يبدأ رشيد رحلة البحث عن وردة التي دخلت حياته دون استئذان ، فقد كانت طلتها عليه موجعة واستثنائية ، أحدثت زلزالا بداخله ، وأثناء رحلة بحثه تلك كان يسترجع ذكريات قسنطينة وأهلها ، كان يوازن بين شوارع باريس وبذخلها ومظاهر الحضارة فيها وشوارع وأزقة قسنطينة المقفرة التي لا ترحم العشاق، ثم حين يختلي إلى نفسه يشده حنين عارم إليها فهي سيدة المدائن جميعها ، فكل شيء فيها يمثل الحياة بالنسبة له . بعد مدة يلتقي رشيد وردة لتتشابك الحكاية من جديد ، تجمعهما أشياء عديدة ؛ قسنطينة، التهديد بالقتل ، الفن ، المنفى ....
حيث يقرران العودة ، وتتطور علاقتهما لتنتهي بزواج سعيد يختصر كل الأحلام .. وفي ليلة من الليالي القسنطينية المرعبة استفاقا مفزوعين ، كانت الغرفة تعج برجال ملثمين ، أخيرا زرناك أيها الطاغوات قال الأول ، هذي الليلة الأخيرة تاعك قال الثاني ، أزربو .. هزوا لخماج هاذو .. قال رئيسهم ، وفي لحظة كانا مربوطين ومعصوبي العينين بقسوة وحزم ، ..ليتم نقلهما إلى منطقة جبلية بعيدة تدعى تغراست بالقرب من الطاهير ، يكتشف بعدها رشيد أن الملثم بالشارة الحمراء الذي كان يعطي الأوامر هو رضوان ، أخوه من أمه وأبيه ..
يحكي الراوي على لسان شخصية البطل رشيد قصص الذين كان برفقتهم بالمغارة ، ثم يحدث أن يغتصب الأمير أبو جمانة زوجته أمامه ، ليتركها بعد ذلك لزملائه ليتداولوا عليها تباعا .
ويستمر مكوثه بالجبل 21 يوما ، حيث يصادف في اليوم الأخير غياب كل عناصر السرية ، باستثناء فتحي ، الشاب الأشقر الذي كان يتفرس ملامحه في العديد من المرات ، وهو من مدينة قسنطينة ، من سيدي بوعنابة ،حيث يساعد رشيد في الفرار من قبضة الجماعة الإرهابية تجاه الشحنة .
يحكي فتحي لرشيد حكايته مع الفقر ، وكيف أصبح في هذا المكان ، وبأنه لا يستطيع العودة بسبب ما اقترفه من جرائم ... يصل رشيد الشحنة ، ينقل إلى مستشفى جيجل ، ثم مستشفى جبل الوحش ، وهو في حالة غيبوبة ، يتناول كل أدوية المجانين ،، وذان يوم يسأل سامية أخته عن شحوب وجه أمه لتخبرهه بأنهم عثروا على رأس رضوان ملقى على قارعة الطريق ، أخفى رشيد ألمه وحكاية اختطافه وزوجته من طرف أخيه ..
يعود رشيد إلى العمل بعد أن يخبر مدير الإذاعة كل من يعرفه بأنه كان في رحلة علاج بالخارج..لتنتنهي الرواية بالطريقة نفسها التي ابتدأت بها ، وهي الكتابة التي تأخذ كل عمره ، الكتابة الملآى بالأحزان والذكريات . ويمكن لقول بأن وردة التي جعلها الراوي محبوبة رشيد عياد ، هي قسنطينة التي كانت هي الأخرى تئن تحت وطأة الإرهاب ، حيث فقدت كل أشيائها الجميلة. ففي هذه الرواية نستحضر رواية نجمة لكاتب ياسين ، هذا الإسم (نجمة ) الذي حمله مخزونا رمزيا كثيفا ، فهي رمز المرأة الجزائرية ، وهي رمز الحرية المسلوبة ، وهي رمز الجزائر ، والشان نفسه نقوله عن وردة التي تختزل كل أحزان الجزائريات المغتصبات ، كل الأحلام التي وئدت على جدران الصخر العتيق .
قسنطينة / الفضاء
سنتناول في هذه الدراسة قسنطينة كفضاء في رواية ليل الغريب انطلاقا من الأهمية الكبرى التي يوليها الدارسون للفضاء المكاني ، فقد أضحى الفضاء مكونا أساسيا من مكونات االخطاب السردي ، فهو أشمل من المكان ، كما يوصف بكونه شموليا ، يشير إلى المسرح الروائي بأكمله ، وهو محل تبئير لمجمل وقائع العمل الروائي ، ولحركة الشخصيات داخل السرد ، من أفعال وأهواء وعواطف وانفعالات وآلام ،كما أن الفضاء هو الذي يكتب القصة أحيانا قبل أن تسطرها يد المؤلف.
ويعتبر المكان أحد المكونات الأساسية للفضاء ، فقسنطينة باعتبارها فضاء تشمل العديد من الأمكنة ، وغالبا ما ترتبط الأماكن في الخطابات السردية بالتعبير عن بواطن ونفسيات الشخصيات ، والوسيلة التي يستعين بها الروائي في تحديده لمسات الأمكنة هي الوصف ، وهو لصيق بالسرد ، فحين يتوقف هذا يبدأ ذاك ، علما بأنهما يتداخلان بشكل لا فت في أغلب الأحيان ، إذ لا وجود لسرد خالص ، ولا لوصف خالص على حد تعبير توماتشوفسكي ، فرغم أن القصة تقوم أساسا على السرد وهو العنصر المهيمن إلا أن الوصف يعطي نغمة القصة وينظم عناصرها ، كما تساعد لبنات الوصف على إحكام العلاقة بين الأدوات القصصية ، فمن خلاله يتحدد الشكل الجمالي للقصة ، كما تتجاوز وظائفه الربط بين أجزاء السرد إلى الإخبار والتطوير والتفسير والتمثيل والإيهام بالواقعية وإنتاج المعنى والرمزية ، فوظائفه عديدة متعددة يعتمد خلالها الواصف على حواس مختلفة تعمق الإحساس المتقبل بالمكان ، وغالبا ما يتم وصف الأمكنة بطريقة معقدة يتداخل فيها الزمان والمكان والشخصية ، وهذا من شأنه أن يكثف المعاني ويعطي للمكان أبعادا مختلفة . ، كما يمكن أن يوظف وصف الأماكن للإيفاء بالمعطيات المساعدة على فهم الشخصية في بيئتها ، وأماكن نشأتها ، ولكن هذا الوصف قد يوظف توظيفا داخليا أو استبطانيا .
وإذا ما تحدثنا عن الفضاء المكاني في رواية ليل الغريب قلنا بأنه فضاء واقعي استمده السارد من الواقع ، فقسنطينة تحضر في الرواية بأزقتها وشوارعها وأحيائها ، وبالمسميات نفسها التي ألفها الناس وتعارفوا عليها ، علما بأن هذه الأمكنة التي تستحضرها الرواية هي أمكنة قائمة في ذهن السارد بأوصافها المتخيلة ، يصنعها السارد بلغة لها قدرة على الإيحاء ، فالمكان في الرواية ليس هو بالضرورة ذلك المكان الطبيعي ، لأن الإحساس بالمكان مختلف من متلق لآخر ، وهو قائم في خياله وليس في العالم الخارجي رغم وجود تطابق بين ما هو في القصة ، وما هو موجود في العالم الخارجي . فبيت الإنسان هو امتداد له على حد قول غاستون باشلار ، فإذا ما وصفنا البيت فقد وصفنا الإنسان . لأنه يوظبه بحسب نفسيته ، كما قد تعمه الفوضى بسب فوضى أخرى موازية لها في نفسية صاحبه .
فالمكان "ليس عنصرا زائدا في الرواية ، فهو يتخذ أشكالا ويتضمن معاني عديدة ، بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله
ونحن نرى بأن رواية ليل الغريب هي رواية مكانية بالدرجة الأولى ، رواية كتبت خصيصا لحب قسنطينة ، ووصفها بطريقة شعرية تشترك مع العديد من الروايات المعاصرة التي احتفت بقسنطينة كفضاء ، كروايات؛ ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير لأحلام مستغانمي ، ورواية الزلزال للطاهر وطار ، ورواية جسر للبوح وآخر للحنين لزهور ونيسي ، وتاء الخجل ، واكتشاف الشهوة لفضيلة الفاروق ، وتفنست لعبد الله حمادي .. وقد تتجاوز هذه الروايات في كونها احتفت بقسنطينة بطريقة جعلت المكان شخصية موازية لشخثية البطل رشيد، بل هي تختصره، كما تختصر أيضا شخصية محبوبته ، فقسنطينة هي وردة ، والعكس صحيح .
ويحضر الفضاء في رواية ليل الغريب في كل الفقرات والجمل السردية تقريبا، لأن الرواية هنا تزاوج بين السرد والوصف ، كما يدخل العالم الصغير بتفاصيله الصغيرة في عالم الرواية التخييلي ، لدرجة يشعر فيها القارئ أنه يعيش في عالم واقعي تلفه فقط عواطف ورؤى السارد ، لا عالم الخيال ، كما يخلق انطباعا بالحقيقة ، وكأن رشيد في الرواية هو نفسه مراد الصحفي المذيع بالمحطة الجهوية بقسنطينة ، وكأن تلك الأسماء التي يذكرها هي نفسها أسماء أفراد عائلته التي تنتمي إلى حي من أحياء قسنطينة .
قسنطينة/ فضاء الموت
عادة ما يظهر المكان في الرواية التقليدية مجرد خلفية تتحرك أمامها الشخصيات ، وتجري فيها أحداث بعينها ، كما أن تلك الأماكن لا تأخذ حيزا كبيرا من الروائي الذي يصورها فقط بطريقة سطحية وكأنها مكان هندسي ، في حين تظهر هذه الأمكنة بشكل آخر في الرواية الرومنسية ، حيث تعبر عن نفسية الشخصيات ، كما يكون المكان منسجما مع رؤيتها للكون والحياة حاملا بعض الأفكار ، وفي هذه الحالة يبدو المكان كما لوكان خزانا حقيقيا للأفكار والمشاعر والحدوس ، حيث تنشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر ففي رواية ليل الغريب يتحول هذا المكان الأليف ، مكان الطفولة ، المكان الذي يحتوي كل الذكريات الجميلة والمؤلمة إلى مكان موحش ، مكان للموت المؤجل ، مكان لكل الاحتمالات المؤلمة الممكنة ، فحينما يقرر رشيد مغادرة قسنطينة بسبب رسائل التهديد بالتصفية ، تنتابه العديد من الرؤى التي تصور قسنطينة كفضاء مقفر ، وتعيس ، فضاء للموت القادم :
قسنطينة التي تتحول في مثل هذا الموسم إلى جحيم لا يطاق ، فالمحلات تغلق أبوابها باكرا ، والشوارع تصير خالية إلا من خطواتي معك في كل الأزقة التي عبرناها ..بالمناسبة ...
أكثر من مرة أفكر وبجد في أن أترك هذه المدينة وإلى الأبد ... أكثر من مرة أحزم حقائبي وأقسم أني لن أعود ثانية .. لكنني أنهزم عند بوابات المطار أو محطات القطار ، فأجدني أمزق كل التذاكر الممكنة وأعود مرغما للحوض المائي الصغير الذي تعودت دفئه ، شراسته وقسوته.
أنا الهارب من قسنطينة إلى باريس الغربة والضياع .. من مطار محمد بوضياف من قسنطينة – التي حاولت جاهدة أن تغتالني بالإشاعة ، بالحاجز المزيف ، بالرصاصة الطائشة ، إلى باريس ، باريس الأضواء ، التواطؤ ، الحياد ، كل أجناس الدنيا ...تركت مدينة تنام في السادسة مساء تشبه الإدارة جدا في التوائها وكسلها ، تركت ظلي الذي كانت الأرصفة تخجل منه كلما غادر الحانات الرخيصة . ..تركت مدينة بضمير معتوه وقلب مضروب في نبض مريض ، وتركت هاتفا يلغو ، يهددني بالقتل حينا ، يتوعدني بالحريق حينا آخر ، تركت طردا بريديا وصلني منذ أيام فيه كفن وقطعة صابون رخيصة ، تركت رسالة لم أقرأ غير سطورها الأولى المكتوبة بخط حاقد ورديء ، لك أن تختار الخاتمة يوم الخميس أو الجمعة ..
عند الخامسة مساء ينام شارع الأمير عبد القادر تبدو بيوته المتلاصقة وأزقته الضيقة الخالية كالمقابر تحوم رائحة الموت طويلا ، في العاشرة تداهم دورية شرطة أحد البيوت ، تخرج مرفقة بملتح ، يصرخأهله في جوف الليل ، لكن النوافذ تظل مقفلة بإحكام ، وفي العاشرة دائما تذخل مجموعة من الملتحين بيتا مزولا ، تغادر مرفقة بشاب في العشرين يقال إنه في إجازة من خدمته العسكرية .
ترتبط هنا قسنطينة بكل مظاهر التعاسة ، فهي المدينة التي تنام باكرا ، المدينة التي تحاول جاهدة اغتياله بكل الأشكال ، مدينة ضميرها معتوه ، لا تلتفت لأحد
قسنطينة / باريس ، الزيف / الحضارة :
المكان الأليف الذي يتحول إلى مكان معاد ، فقسنطينة باعتبارها مكانا أليفا تتحول إلى مكان معاد ، وفي المقابل تكفّر باريس ببذخها وجمالها وحرية العشاق فيها عن كل تلك المظاهر التعيسة التي وجد رشيد نفسه في مواجتها...
خلفي ... تركت مدينة لا تقرأ الشعر كثيرا ، لا تحب العصافير ، تطاردها حتى في المساءات البعيدة.
خلفي ... تركت زقاقا شعبيا ضيقا ما عادت الشمس تذكره / وعند آخر المساء تزوره الأشباح ، تذخل بالخناجرمنافذه بسرية ، وتغادره بالسرية ذاتها ، وآثار الدماء بادية عليها.
خلفي تركت بسطح البنايةالتي غادرت زوج حمام ، كانت الأنثى سوداء ، وكان الذكر بنيا ، كان يروقني جدا كبرياء الذكر وفحولته وهويحوم حول أنثاه.
من بلد الموت جئت أرتجي نافذة للحلم والأمان .
إني أحلم الآن بليلة واحدة في باريس ، ألتقيك فيها نعبر شوارعها الكبيرة ، أو ندخل أنفاقها ، نتيه في دروبها ... ننتقم من كل لحظة كانت قاسية علينا في شارع عبان رمضان أو محمد بلوزداد.
خلفي تركت متحف سيرتا يتيه في صمت جدرانه وعزلته ، هو الواقف بكبرياء على الصخر العتيق ، هو الذي ما يزوره أحد ، هو الذي يرتجي سؤالا ينفض عنه غبار الوقت ، تركت مدينة هي الأحلى في الدنيا لو أنها تفتح شبابيكها بحذر عند الصباح المخبول ثم تنتهي في آخر المساء عند أخبار الرصاص ، الإغتيال والقمع !
خلفي ... تركت تمثال قسطنطين بهيبته الكبيرة ، وفي نظرته التي تبدو لي الآن نابضة أكثر من مرارة ، تراه كان سيدخل قسنطينة يوما لو أنه كان يعرف أن باعة الورد والياسمين القادمين من حامة بوزيان سيتراجعون في لحظة ، تراه كان سيفكر بالتوغل إليها والسقوط تحت سطوة عشقها ، لو أنه كان يعرف أن الأبواب التي تغلق ليلا كي تفتح السويقة ، الفندق ن رحبة الصوف ساحاتها أمام نغمة المالوف حزينة أكثر هي أغنية صالح باي الشهيرة !
خلفي .. تركت فيلا فاخرة بالمنظر الجميل ، كنت أقفز على سورها وأسطو على فاكهة وعنقود عنب ، ذات مرة سرقتني غرفة طفل فيها تلفاز صغير، دراجة مهملة في الركن ، وصور لنجوم سينما ، لكنني تركت أكثر من بيت ما عاد يطل على الحدائق .
تأكل قطط هذي البلاد ما تشتهي من لحوم ، فلها حمامها ، صابونها وأدويتها ، ويموت الناس في عوينة الفول ، بن الشرقي ، والحامة جوعا وذبحا .
قسنطينة الحب الممنوع / منفى الحب والمحبين:
خلفي كما لوأن الأمر كان ماثلا أمامي، تركت شعبا من العشاق ، مدينة حزينة حد اليأس القاتل ... ورجلا يحاول أن يمد أصابعه التواقة إلى أصابع امرأة ، لكن العيون التي تراقب الدنيا ، كل الدنيا تنسف كل عناق محتمل ، هل تكفي النصوص التي نوقعها كي تنصف لحظة جوع الأصابع ؟! .
خلفي ..تركت شابا يختلي بامرأة في أعالي أل Monument يقترب منها كي يقول أن الحضن هو الوحيد القادر على أن يصير اللغة والمعنى معا ، لكن الأطفال / الشيوخ وبعض المختلين جنسيا يرمونهم بالحجر ، فيصعد الشاب ثائرا ، تتراجع المرأة مذعورة .
تركت شابا يصعد السلالم خفية ، يفتح باب الشقة يشير كي تصعد ، يحكم الأقفال ، ومع كل قبلة يتوقع أن تأتي قسنطينة ، كل قسنطينة كي ترميه بالحجر ! .
قسنطينة الحب والحنين والأمل :
بيني وبينك الآن مدينة ... بيني وبينك صيف قسنطينة... هذه المرأة تشبه قسنطينة جدا ، أفاجئها دائما بروحي وأغنية ، فتسلم للريح خطواتي ! .
لا يمكن أن أتنفس جيدا خارج أسوار هذه المدينة .. كنت تقولين .
وكنت أدافع عن يأسي منها بطريقتي الخاصة ، لكني لا أنام بعمق إلا تحت سمائها ..
ألا يكفي أني فيها التقيتك ... فيها أحببتك .. فيها ضيعتك .. وفيها أكتبك الآن ..؟
انفتح الباب الخارجي للمطار ، هبت نسمات باردة .. هواء قسنطينة يشبه وجه هذه المرأة جدا في قدرته على الإنعاش من الصدمة ، في برده الحميم بعض من قسوة لا نتوقعها .
عند بوابة المطار وجدتني في مرحلة متقدمة من الألم ..
اسمي رشيد عياد بقسنطينة ولدت ، بها تمنيت أن أموت ، لكنها الرصاصات الجبانة ظلت تلاحقني ، صوتي كان يملأكل قسنطينة لكنه بدأ يخفت ، أهرب الآن من موت محتمل إلى موت أكيد !
قسنطينة يا سيدة المدن جميعها ، كيف أنت هاته اللحظة تراك تعجين بالحركة كما تركتك ، أم أنك ما زلت وفية لعاداتك السيئة كالإدارة تفتحين الأبواب في الثامنة ، وعند السادسة تصير الأزقة فيك مهجورة وخالية ؟ وشاي المساء / بشارع عواطي مصطفى هل صار باردا أم تراه تهشم من فرط انتظاره ؟
قسنطينة إني أشعرك اليوم لفحة من نار ، وعلبة ملغمة تنط فيها الوجوه والملامح التي تركت خلفي ....قسنطينة ياشمعة الروح الغالية ، بك عشت أجمل سنوات العمر في زقاق ما منك ما زال ظل / الطفل يقوم الآن من تعثره ، يمسح الغبار عن ركبته الجريحة ويبكي .
قسنطينة بيني وبينك احتفال صاخب ، يبدأ الاحتفال بكأس أولى ، وينتهي بالتفاصيل التي كنت أحلم دائمابتوقيعها ...قسنطينة ما الفرق بينك وبين وهران ؟ ما الفرق بين الحمري ورحبة الصوف؟ .
فقريبا أعود لقسنطينة ، أتنفس هواءها على صعوبته ، وأموت هناك ، إن كان مقدرا – إذا تطلب الأمر – ألا يكفي أني كنت سأقوم من نعشي إن عدت إليها ميتا بقهري وغربتي ، فأملأ رئتي بنسيمها قبل أم أعود ثانية لإغفاءتي العميقة ، وهل يموت الناس تماما خارج حدود قسنطينة .
صحيح أن باريس أجمل عاصمة بالدنيا ،ولكني كالأسماك التي لا تحسن العيش خارج المياه الإقليمية لمسقط القلب ونشأة الروح والإرهاب .. أفضل أن أموت هناك مرة واحدة على أن تتكرر الحكاية معي كل يوم .
قسنطينة ، أي سماء تغطيك عند المساء ؟ أهو المطر وأنا ما شعرته إلا في أزقتك ؟ أم هو الصحو وزرقتك الفادحة تتحدى أي سماء أخرى .
من الصعب أ أشرح لك ما يفعله بكياني هواء هذه المدينة.
أحب قسنطينة والثالج وشيئا ثالثا ، أحب شيئا ثم قسنطينة والثالج ، كل قسنطينة أنت ، كل الدنيا أنت أيضا .
كنت أحب قسنطينة جدا ، في ساعات الصباح الأول ، كانت قسنطينة تشبه طفلة تدخل المدرسة لأول مرة ، تحمل محفظة ، أمنية صغيرة وتحلم بحبة حلوى مكافأة تفوقها .
أنا من هذه المدينة ، من قسنطينة ، أربع شوارع تعرفني جيدا تعرف انكساراتي وأشيائي الصغيرة ، ربما كان شارع بلوزداد الأكثر أمانة على أسراري ، مهنتي .
يا إلهي هل ثمة مدينة أحلى من قسنطينة ، ونحن نقف بالأعالي كي نطل على منحدرات جسر الشلالات ، كان صوت وادي الرمال يغرق هديره ، وصوت أصابعي يغرق في أغنيات أصابعك ، أركنا جسر سيدي مسيد كان الثلج قد كساه عن آخره ، وتحول في لحظة إلى شيء يشبه اللوحة السوريالية.
فقسنطينة أضحت مرتعا لعشاقها من الكتاب ، فإذا كان مالك حداد قد بكى على أسواها شعرا ، وسردا ، فيما ألفه فإن مراد بوكرزازة هذا العاشق المتبتل بقسنطينة وأزقتها وأحيائها قد أنسن المدينة ، حيث جعلها شخصية تحس وتتألم لألم أناسها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.