ملمح آخر تتقاطع عنده نصوص العشرية السوداء وتستثمر مكوناته الموضوعاتية والبنيوية بصورة ملفته للانتباه،ونعني به التصنيف المتواتر للأمكنة وفق توصيفي الغربة والحياد،حيث تتمظهر ملاذيا في سياقات المنفى الذي دفعت إليه النخبة المثقفة هروبا من جحيم البربرية الإرهابية وطلبا لمواطن قادرة على الدفاع عن قيم العدل والحق في الحرية والحياة، وقد كان الغرب جغرافيا وحضاريا موطنا وملاذا وأمنا بيد أنه ظل مع ذلك، أو أثناء ذلك، مفضيا إلى الحياد من منطلق عدم الالتباس الشديد الذي يميز المغترب عموما في علاقته مع أمكنة الغربة التي تستدعى غالبا في سياق المقارنة مع أمكنة الوطن، موطن الجمال هناك، في مقابل القبح والبشاعة هنا،بينما تلتبس المدن البعيدة بالجمال والسحر والألوان، ومن ثم ينفتح الفضاء الروائي على جدل رهيب عاشه المثقفون جميعا وهو تقاطب ال (هنا) ، وال (هناك) . يمثل الملفوظ التالي الذي ورد على لسان بطل (أكذوبة الكلمات) نموذجا صالحا لتمثيل ذلك التقاطب، حيث يقول الكاتب الملتبس بالرواي الذي كان قائدا في الجيش الجزائري وهو يستعيد لحظة فاجعة من المعارك التي خاضها في معاقل الإرهاب:'' أسيرا لهمومي، عوض المتعة بالجمال المتتابع أمامي ( طبيعة المكسيك)، أمد يدي إلى الستارة المسحورة لكي أجد البشاعات اللامبررة لبلادي، أرى روائع إيفلوسان وطمأنينتها مدنسة بأزيز حواماتي، وجوها المنعش قد لوثته عصابة قذرة، لحاها إلى صرتها، في انتظار لحظة هدوء من أجل مجزرة أخرى...أتذكر الدماء المتيبسة في الساحات، والأنين الطويل للأرامل، وأثاث البيوت الفقيرة مقلوبة على جثث الأطفال، والكلاب التي أبت العودة إلى الأماكن التي أرتكب فيها البشر أخبث الفضاعات..تتابع المشاهد، في كل طريق وجوه تعرض مآسيها...''. هكذا عن طريق ستارة سحرية (ستارة نافذة القطار)، ينفتح المشهد على فضائين يثيران أشد الأحاسيس تنافرا، فضاء المأساة، وفضاء الجمال، بحيث لا يكون الأخير إلا معبرا للآخر المنقوش على صفحة القلب والذاكرة، ذريعة لرؤيتين هما مناط التشكيل المكاني الخارج من عمق الفضاء والمأساة، حيث لا وقت لبذخ الأفكار والأساليب . وهو الموقف نفسه الذي يسارع الكاتب إلى إعلانه إجابة لسؤال الصحفي حول موقفه من مفهوم (الأدب الاستعجالي)، يقول: '' وصف الأدب الجزائري لسنوات90 بالأدب الاستعجالي، يتعلق بخيار تسويقي Marketing أكثر منه بمقاربة موضوعية. أعتقد، عكس ذلك، بأن الأمر يتعلق بشكل من الالتزام ومن النضال الذي اختارته الروح الجزائرية كفضاء تعبيري، في الوقت الذي تحول فيها بلدها، إلى مكان مغلق منكوب مبذول للبربرية والظلامية.''27 .الإحالة في هذا المقبوس على مفهوم الالتزام وعلى التصور الماركسي لوظيفة الأدب واضحة لا كخلفية نظرية يصدر عنها الكاتب بوعي ولكن كضرورة اقتضاها واقع محلي مخصوص أعلن الحرب على الثقافة والنور، الأمر الذي عجل بظهور ذلك الزخم الثر من النصوص التي شغلتها الحرائق المشتعلة في أطراف ثيابها عن مقتضيات القول الفن وشروطه. - عندما يكون الكاتب هو البطل أما واسيني الأعرج فقد التبس هو الآخر ببطله الذي اختار منافي الشمال البعيدة عندما استحال عليه العيش وسط الموت والدمار والبداوة الزاحفة على مدينته التي يعشقها حد الفناء،وعند أول لقاء مع أمستردام يقع دون أن يدري بين حي التقاطب بين الهنا والهناك: '' ياه، هذه هي أمستردام الشهية ؟ المدينة البريئة والعذبة التي تنام على الماء، مونتسكيو قال عنها: أحب فينيس كثيرا ولكني أحب أمستردام أكثر، بها نستمتع بالماء بدون أن نحرم من صلابة التربة، طرقها ناعمة مثل جلد مراهقة، مدينة هادئة ما عدا هدير السيارات الخافت والترام المطرز بالألوان الغريبة، الذي يشقها طولا وعرضا وغيمة رمادية ومطر لا يتوقف أبدا...بدا لي كل شيء واسعا، الطرقات، المحلات، الممرات، قلوب الناس، المدينة، أبهية المطار المتداخلة، العيون، في الوقت الذي تزداد فيه حياتنا، كل يوم ضيقا. ''.28 مئات التفاصيل يسردها الناص مأخوذا بهول المفارقة بين عالمين، عالم يقع على مرمى حجر من أعلى وجوه الكمال في الحضارة والعمران البشري الحديث وعالم مهرول نحو نهايته الأكيدة،'' مدينتنا سرقت مثلما تسرق النجوم، أصبحت قديمة وعتيقة وكأنها ميت يخرج من تحت الأنقاض، الظلال الممتدة تملأ شوارعها التي بدأت تتآكل، السفن تتدحرج، والسواري بدأت زوايا ميلانها تتجاوز شكلها العادي... شخص ما ( دعا ) على هذه المدينة تقول مريم، شيء ما يدور داخل خفايا هذه المدينة وأحيانا في علنها...لا شيء تغير في هذه المدينة الحزينة التي تموت يوميا، تموت مثل ريف قديم وتتحول إلى قرية صغيرة، تتهاوى مثل الورق اليابس، كل شيء فيها بدأ يفقد معناه، الشوارع، السيارات، الناس. ''. تجدر الإشارة إلى أن الترميز الوارد في المقبوس عن السواري المائلة والأشياء التي تعتمل في خفايا المدينة وعلنها، تحيل من طرف خفي إلى بدايات المد الإسلاماوي بعد أحداث 05أكتوبر,1988 والتي تبلغ أوج قوتها بداية التسعينيات، وهي موضوعة أخرى تتردد جملة من النصوص التي اشتغلت على الأزمة الجزائرية أو تلك التي ظهرت خلال العشرية السوداء واضطرت،نزلا عند مقتضى المرحلة، إلى البحث في جذور الأزمة بالعودة إلى بداياتها القريبة، خصوصا أحداث أكتوبر، وهو الاتجاه الذي سلكته رواية (الورم) لمحمد ساري، حيث تتموضع الأحداث في النواحي الفلاحية للبليدة، بين مزارع البرتقال والكروم التي يرصد تحولاتها منذ الحقبة الاستعمارية إلى المرحلة الاشتراكية بعد الاستقلال، إلى خيارات الانفتاح واقتصاد السوق في بداية التسعينيات وأثر ذلك في وجدان الفلاحين والقرويين، معرجا على أحداث أكتوبر والندوب العميقة في وجدان الشباب الذين تعرضوا للتعذيب في مخافر الأمن، والذين سوف يكونون الأنوية الأولى للخلايا الإرهابية التي توجه ضرباتها الأولى إلى عناصر الأمن آخذة بثأرها القديم . يمكن التمثيل لحالة الاحتقان التي مهدت للمأساة الوطنية من خلال التشكيل المكاني التالي الذي يختصر بمفرده عمق التحولات التي عاشتها فضاءات أخرى غير الفضاء الحضري العاصمي،''آه على تلك السنوات السعيدة(السبعينيات والمزارع المسيرة ذاتيا)، بعد سنوات، انقلب الوضع رأسا على عقب، خرج سي العربي(الحارس الطيب الذي كان يسمح للناس بالانتفاع من خيرات المزرعة) وعوضه ناس آخرون، أصبح الحارس مسلحا ببندقية صيد، يصطاد الأطفال مثلما يصطاد سراب الغربان الناعقة، بلا رحمة ولا شفقة، أحاطوا البساتين بالأسلاك الشائكة، عدنا إلى عهد الكولون، يأتون بالعمال من أماكن أخرى، ورجال وادي الرمان يسندون ظهورهم إلى الجدران ويتفرجون وبصدورهم يتراكم الغضب والحقد، ثم انتشر خبر طرد جميع القاطنين في الأراضي الفلاحية، لم تعد المزارع ملكا للدولة، بيعت للكولون الجدد الذين سيجوا المساحات بالأسلاك الشائكة وأقاموا حراسا بالبنادق.''. تتقمص قرية واد الرمان هنا دور المعادل الموضوعي الذي يمكن الناص من رصد التحولات العميقة في البنية السوسيو اقتصادية للمجتمع الجزائري التي يرشح بها مكون المكان الفلاحي وتتبع سيرورة الشخوص وخيباتها المتكررة، والإحباطات التي تحفر في وجدانهم أخاديد لم يملأها إلا الخطاب الأصولي باستثماره لأثر التحولات السريعة التي لم تخلف سوى القهر والبؤس والتهميش. هل يمكن التذرع بهذا المنحى السوسيولوجي للحكم على المتن التسعيني بالوقوع في مطب التوثيق؟ هل يحق لنا ممارسة الإقصاء على الذوات الاجتماعية للكتاب؟ فهؤلاء في المحصلة ليسوا سوى مثقفين ينفردون دون عموم الذوات بامتلاك رؤية تؤهلهم للخوض في قضايا المدينة دون انتظار الإذن من أحد ما دام التساؤل عن وظيفة الكاتب والكتابة يمثل '' شكلا من المعتقد، الذي يتطلب وظيفة اجتماعية للكاتب كوسيط لمعيش الشعب، وهو ما يفترض وضوح نظر حاد من جهة، وتجذرا في الواقع السوسيو سياسي، من جهة أخرى،دون نفي للذاتية التي تجد في الكتابة فضيلة شفائية(صراخ،عزاء،خلاص)أو وجودية.حيث تعتبر الكتابة مبرر وجود في مواجهة إحباطات اليومي أو، أكثر من ذلك، كذاكرة، وكوسيلة للرقية من الموت.''. ثم إن الوساطة الاجتماعية التي يمارسها الكتاب، تتخذ شرعيتها الكاملة بالنظر إلى مفهوم الأنتسلجنسيا كبنية عليا من بنى المجتمع، تضطلع بدورها الجدلي التاريخي في تفاعل الطبقات بعامل ذاتي لصيق بالفن الأدبي وبعبقرية اللغة التي تمارس دورها(التطهيري) الفردي والجماعي وفق المفهوم الذي أرسى أرسطو أسسه في نظريته الشعرية الشهيرة . .. الذاتي والموضوعي في إنتاجية المتن التسعيني. تتجه بنا القراءة، على هذا النحو، صوب المفاهيم النقدية الممارسة للسوسيولوجيا النص في شقها المتعلق باعتبار الأدب مؤسسة اجتماعية، وهو ما يحتم علينا مراقبة أثر الذاتي في إنتاجية المتن التسعيني الذي جاء على نحو ما ليقول نوازع الأنا وهي تواجه الموت عارية إلا من عتاد الكتابة الزهيد، وقد سبقت لنا الإشارة إلى عدد من المبدعين الذين وجدوا في الكتابة موئلا وملاذا عندما أعوزهم الواقع مثيلَها في دنيا الناس فاستقطبت الذات ال(أن) مجموع الخطاب النصي لتتحول إلى بطلة مفردة تواجهه الواقع باستماتة، وتخوض معاركها البطولية الخاصة والعامة دون أن يشاركها فيها سوى من تربطهم بالذات رابطة قريبة من حميمية انكمشت في هذه المرحلة إلى حدودها الدنيا. المثير للانتباه في هذا السياق هو المحكي على طول المسافة السردية الطويلة نسبيا في رواية (ذاكرة الماء) لواسيني الأعرج التي تتشكل سيريا لتكتب ملحمة المواجهة المعلنة بين الموت المتربص في كل لحظة وبين الرغبة المهووسة بالكتابة في سبيل استكمال النص قبل الاستسلام للمصير المحتوم. أما مايسة باي، فعلاقتها الشخصية بالكتابة تبدأ من اللحظة التي تتحول فيها هذه الأخيرة إلى فرصتها الوحيدة للاستمرار في ممارسة الحياة، تقول:''منذ السنوات الأولى من العشرية الرهيبة الماضية، نحن متجمدون من الخوف، ومن الصمت الحذر. لذلك أكتب لأرى نفسي في الصفحة، ولأتجنب الصراخ. ومن أجل أن أستشعر التفوق على المسألة، فوراء فعل الكتابة، ليست عجالة الوقت هي الأسبق، وإنما الرغبة في تحويل وقائع الرعب، على الصفحة، لتدجينها بفعل الإبداع.'',32 بشكل ما تستثمر إمكانات اللغة لخلق عالم تخييلي تتحق فيه العدالة الشعرية، عقابا وجزاء، دون المخاطرة بالتعرض إلى الرعب الفعلي الكامن في فضاء العالم الواقعي. أليس فعل الكتابة بهذا المعنى ممارسة في غاية الأنانية، تكتفي بتحويل الواقع إلى مادة يتغذى عليها المتخيل الروائي؟ ألا يتحول الكاتب، عبر هذا المسلك، إلى مصاص دماء يعتاش على دماء ضحاياه؟ ألم تنجز الرواية الجزائرية التسعينية أطراسها المرعبة مكلسة الدماء فوق الدماء حتى إنه'' كلما أريقت دماء الأبرياء، بشراسة، على يدي العصابات المتوحشة، كلما قام الكتاب، وهم كثيرون خلال هذه العشرية، بتغطيتها بالكتابة، أو بحبر الكتابة بالتحديد. وهكذا فإن لكلمة طرس ETSESPMILAP معناها الكامل.''33؟ وربما كان معناها الآخر هو امتزاج دماء الكتاب بدماء الضحايا، دماء فوقها دماء، لا عاصم من طوفانها إلا الكتابة، ألم تعترف يونيل34 بأن'' الكتابة عندها تحذير من بالجنون، وحماية منه.''35؟. تلك هي المسؤولية الشاقة التي حملتها الكتابة خلال سنوات الدم والنار، أن تكون المتناقضات كلها والجهات جميعها، أن تربت فوق ظهور المبدعين وتحمل أتعاب الضحايا والمقهورين والواقع والحلم والفجيعة، وأن تكون تلقائية، ثرة، نابضة بفوران الدماء ورسيس الألم، ورزينة، مكينة، متأملة، توثق للذاكرة والتاريخ، فلا مناص من أن تفي أو تخون، تنجح أو تفشل، بنسب معينة ومقادير متفاوتة لأننا ببساطة طلبنا منها أكثر مما يستطيع كرمها ونبلها وشهامتها ورأفتها ومشاركتها الوجدانية لمحننا، محنة كتابتنا، بينما لم يكن عليها خلال كل ذلك سوى أن تكون ما تستطيع أن تكونه، إما محاكاة وإما تخييلا .