يصاب المرء بالدهشة والصدمة عندما يرى صورا كان يظن أن عهدها قد ولى منذ أزيد من خمسين سنة، ويصاب رأسه بالدوار عند متابعة الحملات الانتخابية، بسبب انتفاخ أوداج الأنصار والمؤيدين (للمرشحين) وحديثهم الذي يفقد السامع لذة الأدب واللياقة ويساهم في توسيع دائرة الحيرة وتأجيج الأسئلة الحارقة لدى المواطن وهو يبحث عن أجوبة كافية لها دون جدوى. في عالم من حولنا يتطور بسرعة الزمن والمستجدات تتكاثر في تناسل عجيب وتتكدس في ذاكرة العالم الجديد، ونحن نائمون.... فكر المواطن عندنا يقتات من مهملات بقايا الماضي وما أكثر نقائصه، منظومتنا السياسية تتميز بفكر التدجين ومناهج التهجين والاحتفاليات الكرنفاليه. تأملنا في واقعنا يطرح سؤالا كبيرا: أين نحن الآن؟ أو هل نحن خارج الزمان وخارج التاريخ ؟!. سؤال عام لكن الإجابة عنه تقتضي التعليل قبل التحديد، لهذا تراني أقول: لا تعجب إذا رأيت صورة الماضي في الحاضر، ولا تظن أن الزمن قد توقف، فقد ترى السيارة تراوح مكانها فوق صفحة الثلوج رغم استمرار دوران عجلاتها، واشتغال محركها، ما يوحي بأن الفرق بين الحركة والسكون يتعلق أساسا بعلاقة الكائن بمحيطه وطبيعته. لعلنا نتساءل ما الذي جعل تطور المجتمع عندنا يتوقف رغم أن الجانب المادي في حياتنا يسعى آناء الليل وأطراف النهار دون أن يتوقف أوينتحي عن محاولة تجميل الصورة وإقناعنا بجدوى جدواه؟؟ لكن عندما تضعف الأمة فإن كلاب غيرها تطمع بخيراتها ومقدّراتها، وتستهوي المساس بمشاعرها بل تدوس مقومات كيانها، ولا يردها عما عزمت عليه غير منطق: (الجواب ما تراه لا ما تسمعه)! لننزل من الفضائيات، إلى أرضنا وننسحب من بين جرائد وصحف، الغربيين وبحر مداد أقلامهم، ونفحص وهم ذلك المواطن الذي بات يعتقد أنه خرج من عظمة التاريخ ليدخل في ظلمات الحاضر ويجد أبناء مجتمعه يختلفون على كل شيء. سواء اجتمعوا أم لم يجتمعوا، مشكلةٌ يتعينُ حلّها قبل الدخول في أية تفاصيل، أين سيجتمعون؟ وعلى أي مستوى سيكون اجتماعهم؟، وماذا سيبحثون أو سيقررون؟ ولنتساءل: ألا يحق لمجتمعنا أن يفتخر بصفحات ملئت بالأمجاد وطرزت بالفخر أيام الرجولة؟! ما لفت انتباهي وانتباه مئات الآلاف من الجزائريين مثلي ممن يتمسكون بالقيم ويعشقون الحرية والكرامة وأسلوب العزة والشموخ، هو ما يحدث هذه الأيام من التلاعب بالقيم والسخرية من الدين ومن ثوابت الأمة. تهميش واستصغار قيمة المواطن ودوره في عملية البناء الوطني والحرص على سلامة المسار الديمقراطي وصناعة القرار الصائب، وإغفال سافر لتاريخ صانعي مجد هذا الوطن من قبل من اعتلوا كرسي سدة الحكم، (انظر قول رئيس الوزراء الأسبق "عبد المالك سلال") " : إنه "ليس بالشعر"، ولا ب "قل أعوذ برب الفلق" نبني البلاد.) والقصد هنا واضح هو الاستخفاف بلغة الأمة وثقافة أبنائها والسخرية من دينها الحنيف. وانظر قوله: (بوتفليقة في صحة جيدة. .... وأفضل رئيس عرفته الجزائر منذ الاستقلال بدون مبالغة وبكل نزاهة واستحقاق، "حب من حب وكره من كره")، انظر كيف أجمع من أفرغوا الخزينة وتملكوا، كيف يستهترون بأخلاقيات بأمواله!! وهل القصد هنا يحتاج إلى تفسير!!. يعني تفاهة الجزائريين قبل مجيء سلال وبوتفليقة!! يعنى غياب الرجال وانعدام الكفاءات يعنى لاديموقراطية في مهام ديمقراطية في الجزائر. وما إلى ذلك. والحقيقة أن الخائفين من الناس هم وحدهم الذين يظنون أن الواقع يجب أن يوافق تصوراتهم، وتتملكهم رغبة شديدة في استنساخ آخرين أمثالهم في التفكير أو تحويل الآخرين للتفكير وفق حرفيتهم ولا يدركون أن سلامة الرأي تكمن في وجود وجهات نظر أخرى، ففي أية قضية على طاولة النقاش لكل منا وجهة نظره أو رأيه أو انطباعه عن ذلك الموضوع المطروح أو تلك الحالة أو المسألة التي تناقش، ولما كانت الظروف التي يعيشها البشر وبيئاتهم ومستوى وعيهم وثقافتهم وتجاربهم في الحياة مختلفة، بالإضافة إلى اختلافهم في العمر والخبرة في الحياة واختلاف الأمزجة والنفسيات، كان من الطبيعي تبعاً لذلك الاختلاف أن يكون لكل منا وجهة نظر أو رأي خاص به، قد يتطابق ويتفق مع الآخرين، أو قد يختلف معهم، والمنطق احترام الأغلبية. هناك فرق بين الوحدة والتماثل، فرق بين التناسق والتوحيد: الوحدة فيها تكامل (جزء يكمل آخر حتى يكتمل الكل ويكتسي ثوبا جديدا. بينما التماثل حدوث تكرار لا جدة فيه ولا تجديد، لا أناقة ولا حسن مآب). إن حال ما وصلنا إليه، صورة دقيقة لما روي من حديث جعفر بن أبي طالب مع النجاشي: -ملك الحبشة حيث قال: "كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرسل إلى من قبلنا". جاهلية مظلمة، وجور سائد، وظلم فاحش، الضعيف يذوق الأمرين من القوي، وينال من أتباعه البلاء، وهضم للحقوق، إن جاز وصفها إنّما هي حالة الأعراب، وحال بعض العرب في الجاهلية، مع اختلاف في الشدّة والضعف باختلاف الأوضاع والأمزجة وتفاوت المدارك ومركبات الرؤى. إن المتأمل في واقعنا اليوم يرى حركات عجيبة، تكاد تستحدث صورة أو عدة صور دون أن يستند أي منها إلى أساس، (فِتَنٌ تفرق بين الفرد ومجتمعه، وبينه وبين أهله أو عياله، ومؤامرات تحاك، وخطط ترسم، ونعرات تثار، وانتهاكات لجسد الأمة بددت طاقاتها، وشوهت معالمها وأوقفت مسيرة تقدمها، واستبداد سافر مدعوم بفساد مستشر، هي ويلات تعصف بمكونات المجتمع من كل جانب، والذين يظنون أن الواقع يجب أن يوافق تصوراتهم، وتتملكهم رغبة شديدة في استعباد الناس أو استنساخ آخرين في التفكير أو تحويلهم للتفكير وفق أسلوبهم المطلق، لا يدركون أن قوة العلاقة تكمن في وجود رؤى أخرى وأن رفض الآخر ينجر عنه لامحالة رفضك أو خصامك، فرغم أن التكامل ظاهرة نلاحظها في كل مكان في الطبيعة، ولن أخالف الصواب إن قلت إن البيئة تحمل معنى التكامل في داخلها، فكل شيء مرتبط بكل شيء، والأمثلة على ذلك لا تحصى، يقول الشاعر العربي - (أبو العلاء المعري) - الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ *** بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ وقد علمتنا المناهج أن العصي مجتمعة يصعب كسرها وإن تفرقت كسرت أحاداً. كلنا ننشر آمالنا على ضفاف الأمل، ونحطم قوارب آلامنا وكثيرا ما نكسر المجاذيف أملا في اللاعودة لأمواج المآسي التي تتلاطم على شاطئ بحر أيامنا هذه، نبحر ولا شيء يوحي بالفرح والسرور، كل ما حوالينا في هذه الأيام يجعلنا تائهين والحياة لم يعد لها مذاق اليوم... في زمن التملق والنفاق.. الكل يردد ليتنا نملك حق تكرار أيامنا الجميلة، كنا وكان آباؤنا يؤمنون أن السياسة وسيلة لقيادة البشر، وهي الفضاء الذي يتيح للفرد أن يكون فاضلاً، لأن السياسة مرتبطة بالشأن العام، والاهتمام بإدارته والإخلاص في رعايته، وهذا الارتباط إنما هو الطريقة التي تمكّن الدولة من خلاله أفرادها من التحلي بالفضيلة والنبل، والاتصاف بالعدالة ومن دون توافر الدولة على هذا الفضاء المفتوح، فلن تكون سوى تحالف بين مجموعة أصحاب المصالح ولا وجود للسياسة فيها، إلا أن الفضاء السياسي المفتوح قد تلاشى في واقعنا الراهن، فعلى بوابة القرن(21) قلب الفضاء السياسي بأكمله رأسا على عقب، وقال الناس قد يكون هذا الانقلاب خطوة نحو الديمقراطية، وهي ليست بالضرورة خطوة خاطئة، لكن كان من اللازم أن تكون محسوبة، إذ أن ارتجالها جعل العنف الوسيلة الوحيدة لتحقيق المبادئ. وأبرز شكلا للسياسة ليس مفهوماً، وهو الواحدية في ثوب التعددية وأحدية الحاكم لا واحدية الحزب، سياسة طبيعتها تفرض على المنخرط فيها عدم الاعتراف بالآخر، والسعي لتحصيل المرغوب، من غير توافق المبادئ والوسائل التي تحققها... إلخ، هكذا تشوهت في الفكر السياسي في زمننا مرادفات "فقه الديمقراطية" واتسعت تشعباتها الاصطلاحية والمفاهيمية، والتمثيلية، فأصبحنا نقرأ ونسمع عن "فقه الحريات، والأولويات، والشرعية، والأغلبية... إلخ وسائل احتيالية. والصحيح أن التنوع الاصطلاحي وإشكالاته المعرفية لابد أن يعبر عن الحاجة الملحة إلى التنوع الفعلي في الفكر والاجتهاد في الاتجاه الإيجابي. إن غزو المصالح الشخصية لعالم السياسة، أصبح السمة الرئيسة لعمليات التحول الاجتماعي والاقتصاد ي وجعل من الفضاء السياسي بوتقه للصراع بين هذه المصالح تحت يافطة الصراع على المصلحة العامة. هذا الواقع لم يسمح للشعب بمختلف فئاته ببدل جهود تكشف المستور وتفضح المسكوت عنه في واقعنا المعيش بكيفية تسلط الضوء على ما يعانيه المواطن الجزائري من فساد في المجال الإنساني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولعل الباحث لا يعدم الشواهد على أنّ الشجن المكتوم في الأعماق، يؤرقنا، والأحداث المحفورة في الذكريات تضنينا، والعواطف والعبرات تحركنا، والهاجس الملح ليوم صريح، إلى حيث لم يعد للصمت تشكيلة مكان ولا وجود للسطحية والتفاهة فيه.