السيدة منصوري تترأس أشغال الدورة ال 38 لاجتماع لجنة نقاط الاتصال الوطنية للآلية على المستوى الأفريقي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    العلاقات الجزائرية الصومالية "متينة وأخوية"    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ..لا دفع لرسم المرور بالطريق السيار    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب يستعيدونه في ذكرى غيابه
نشر في النصر يوم 28 - 05 - 2012


بختي بن عودة.. الحلم الذي قطف باكرا
مرت يوم 22 ماي ذكرى غياب بختي بن عودة الذي سقط برصاص الإرهاب في 22 ماي من عام 1995، حيث كان ربيعه الأخير في سن ال34، ربيعه الذي ذوى في ملعب لكرم القدم، غادر باكرا تاركا مشروعه الفكري النقدي التنويري في منتصف الطموح والطريق وفي منتصف الخطوة التي توقفت برصاصات غادرة تربصت به وأردته منطفئا وغائبا، منطفئا وغائبا حسب ظن القتلة والعقول الآثمة، لكن الذي غاب هو بختي الجسد، أما بختي الفكر التنويري الحداثي ظل ماثلا وحاضرا ومازال رغم أن مشروعه لم يكتمل بالشكل الذي طمح إليه، بختي الأستاذ الجامعي والناقد والشاعر والمفكر الحداثي التنويري ولد عام 1961 بمعسكر، عمل بجريدة الجمهورية، وكان رئيس تحرير مجلة التبيين لجمعية الجاحظية، نشر مقالاته ودراساته وأشعاره ومقارباته في معظم الجرائد الجزائرية والعربية. صدر له كتاب "رنين الحداثة" عن منشورات الاختلاف، عام 1999 وهذا بعد سنوات من رحيله، كما طُبعت رسالته الجامعية التي تناولت فكر عبد الكبير الخطيبي. بختي الحاضر بفكره وكتاباته ومقالاته، والذي لا يعرف كيف يغيب تماما، عاد هذه الأيام أكثر وأكثف في ذكرى اغتياله. وبهذه المناسبة يحتفي بعض الكتاب والمفكرين من أصدقائه وينثرون شهاداتهم/محباتهم وفاء لحضوره ولذكراه في آن.
استطلاع/ نوّارة لحرش
الدكتور محمد شوقي الزين/ كاتب وباحث ومفكر مقيم في باريس
كان حالماً وحاملاً لبراءة لم تجد في الواقع مكانها، لم تستمله المراكز ولم تستهويه الأضواء
كل عام في شهر ماي يعود بختي بن عودة بطيفه وجرحه ليذكّر المجتمع الثقافي والفكري الجزائري اللحظة العنيفة التي ولج فيها البلد باهتزاز مؤسساته وانهيار أحلامه، الفترة التي زجّت بأهل البلد إلى دائرة الخوف والهوس. ما السبب في ذلك؟ كيف كانت تلك الفترة الحالكة ممكنة؟ بأيّ معنى كانت بالنسبة لتاريخ البلد وأهله لفحة قضت على ألف نفحة وفسحة؟ ليس الغرض هنا العودة إلى العلل والمآل، فكل جزائري له قراءة خاصّة يجريها على تاريخه وواقعه ودلالة يستخلصها من هذه التجارب والمحن. إذا رأينا الواقع بعيون الراحل بختي بن عودة، فإننا نرى هذه الوقائع والملابسات في لغته بالذات التي كانت مركّبة، معقّدة، ملتوية، براونية، عفوية، تعكس بشكل رهيب ومهيب الواقع الذي كانت ترزح تحته وتعبّر عنه. أقول ذلك لأنّها كانت لغة بريئة وجريئة تساير الواقع وتحاكي مضامينه بأسلوب خاصّ ومزاج سليق ونبرة حادّة. لقد كان بختي بن عودة نتاج الظروف التي عاينها وقام بترجمتها في لغة نقدية تعكس بشكل بارز حرارة الوقت الذي عاش فيه وحاول، على غرار يوهان هردر في تساؤله عن انهزام الأمّة الألمانية في نهاية القرن الثامن عشر، كيف كان هذا الانحدار والاندحار ممكنين في بلد كالجزائر بسعته الجغرافية ووسعه التاريخي، بما أنتجه من أنظمة نظرية وأبنية سياسية، بما قدّمه من شخصيات تاريخية وفكرية وأدبية عالمية (القديس أغسطين، أبو مدين الغوث، العفيف التلمساني، الأمير عبد القادر، مالك بن نبي، محمد أركون، جاك دريدا، ألبير كامو، كاتب ياسين، محمد ديب، مالك حدّاد..). وهل العبرة في الكثرة الفكرية؟ هل الخبرة في الوفرة النظرية؟ ليست المسألة في الهيكل المشيَّد ولكن في الهيئة التي يكون عليها أو يؤول إليها. عمد بختي بن عودة إلى معرفة الخلل الذي استبدّ بالهيكل (السياسي، النظري، التاريخي، الديني، الثقافي..) وأعاق، ولا يزال يعيق، مساره نحو التشكّل والاكتمال، لأنّه هيكل مثقل بالهزائم أو الغنائم، ثابت بالموروث والمبثوث، راسخ بالعناد ومنقوص العتاد والسداد، لا يصنع الوقائع وإنّما يتكبّد المصائب، في استدارة على الذات، لا يتقدّم ولا يتأخّر، في شلل تاريخي وبنيوي، لا يتحرّك ولا يركّب. بلغة شارحة ومشرّحة، حاول بختي قراءة هذا التصلُّب ومعرفة الظروف والملابسات التي كانت سبباً في إمكانه وتمتينه، وعمل بالأدوات المتاحة، الفكرية والأدبية والأسلوبية والمجازية، على تليينه وتحريكه، لأنّه كان يعرف جيّداً أنّ تصلّب البلد في تاريخ منتقى أو ذاكرة مصطنعة هو مقتل البلد بالذات. كان همّ بختي هو: كيف إعادة الحيوية والنوعية لبلد في أصله وجذره متنوّع الهويات، مختلف اللغات، متفاوت الطبائع والجغرافيات؟ هذه التلوينات الطبيعية والثقافية والتاريخية هي فرصة ثمينة للبلد، لكن لم يحسن استعمالها في الفترات الحاسمة، محبّذاً "الوحدة" المصطنعة بنداء القلب وإملاء الوجدان، وإقصاء ضرورة العقل والحاجة إلى الرؤية الواسعة والحصيفة. كانت كتابات بختي في رمّتها البحث عن مواطن الخلل لوضع الإبهام على أقاليم الضرر والعطب، ومعرفة كيف تقدّم الآخرون بالعقل والكياسة فيما انغمسنا نحن في الانفعال والعاطفة، فلم نبرح مكاننا. كتب في إحدى دراساته هذه العبارة: «جاءت مقاربتي لنشيد الكتابة وجرحها عبر الانتقال من مكان ثقافي إلى آخر ومن نظام معرفي إلى آخر. إنّ أطروحة الكتابة هي بمثابة سفر معرفي لا يعترف بالحدود الميتافيزيقية...». ولم تكن كتابة بختي سوى هذا السفر عبر الأقاليم النظرية والجغرافية للوقوف على الاختلاف الموزَّع وإمكانية إيجاد «وحدة في الاختلاف» المتنوّع تأخذ في الحُسبان الثقافات المتفرّقة (العربية، الأمازيغية، الإسلامية، المسيحية، اليهودية) وتقيم بينها جسور الرمز والذاكرة المشتركة. هل كان بختي حالماً وحاملاً لبراءة لم تجد في الواقع مكانها لأنّ الخلافات كانت أقوى والإرادات أعتى والنيّات أسوأ والمطامع أعنف؟ كان بختي ببراءته وصدقه حامل أحلام أرقى من الواقع السقيم، فلهذا اغتيلت أحلامه قبل أن تغتال حياته. لقد كان حامل همّ نظري رسم معالمه الأولى ولم يستطع توسيعه وإنضاجه. لكن المثير في تجربة بختي الفكرية ليست هي القراءات الواعدة التي سطّرها أو المفاهيم الذكية التي وظّفها وإنما في استقامة الرجل وعدله، في حصافته وورعه. وهل يمكن الحديث أصلاً عن فكر أو ثقافة أو أدب أو تاريخ أو مصير بكبرياء وعجرفة؟. في كل مرّة أستحضر فيها شخصية بختي بن عودة إلاّ وكانت أطياف غوته أو هردر أو شيلر ماثلة أمام عينيّ، لأنّ هؤلاء المفكّرون الألمان تكبّدوا مرارة انهزام الثقافة الألمانية في منعطف الأنوار وعمدوا بالصبر والأناة والتواضع معالجة ما سقم منها وإصلاح ما اختلّ فيها بالإعلاء من شأن التكوين الذاتي والتثقيف الشخصي. والأمر المثير أنّ إصلاح العطب أو تجديد الفكر أو نقد العقل أو تفكيك التراث لا تأتي بالموسوعية النظرية والتبحّر المعرفي، ولا بدّ من ذلك، وإنما تأتي خصوصاً من البصيرة الحادّة والثقافة الواسعة والحذاقة الماهرة والخبرة البارعة، أي بالملكات الذاتية في حُسن النظر وجودة التأويل، أي أنّ المسألة تقتضي التواضع والاشتغال على الذات قبل وهم تغيير العالم أو سياسة الآخر. وأحسب أنّ بختي كانت له هذه الخصال، أي فضائل مثقف صادق ومفكّر أمين لا تستميله المراكز ولا تستهويه الأضواء ولا الضوضاء، لأنّه حرث وحصد في تربة الصمت الخلاّق والإبداع الواعد، وكان يعي جيّداً بأنّ الثقافة أو الفكر هو مسألة موقف أو سلوك وليس مسألة منصب أو نفوذ. فكان يريد أن يمنح لهذه الوظيفة اللياقة التي تستحقها واللباقة التي تتميّز بها، كرؤية ثاقبة ومنحة جليلة. وهنا تكمن حرية المثقف في إدراك العالم الذي يتواجد فيه ويقوم بمقاربته بالضرورة النقدية والحاجة الجمالية، بمعزل عن القسريات المحاذية أو الأطماع العابرة. لقد ترك بختي جيلاً شاباً يتيماً يعوّل عليه في المواعيد الحاسمة للجزائر المعاصرة، ترك أثراً وبصمة تتبدّى في الجيل الثقافي الجديد الذي يكتب ويناقش ويجتهد ويثابر من أجل تكوين خزّان نظري يقرأ به الأحداث الماضية أو الحاضرة. ومن حسنة هذا الجيل الجديد الذي تربّى على فكر بختي بن عودة أنّه يريد أن يضع الثقافة في صُلب السياسة، أن يرى العالم برؤية واسعة وبصيرة متوقّدة، أن يجعل من المعرفة الدليل ومن الحكمة السبيل، لأنّه يدري بلا مرية أنّ المعرفة هي ذخيرة المجتمع وأنّ الثقافة هي مستقبل السياسة. ألم يكن بختي اسماً على مسمّى؟ حظّه أنّ تَرِكَته أنشأت جيلاً وفيّاً على شاكلة عنقاء مُغرب تنبعث من رمادها في كل انعطاف مصيري حاسم.
عبد القادر بودومة/ باحث وأستاذ الفلسفة في جامعة تلمسان
على خلاف الكُتاب كان يرفض الكتابة عن سيرته الذاتية
"إن المثقف الجذري يحمل اختلافه الجذري وسؤاله المعرفي المدمر -لا يملك جواز سفر- قد يجد نفسه يشتغل في حقل في بستان، وقد يقتل" /بختي بن عودة
هل بإمكاننا الانفلات من الموت؟ أو التفكير في معجزة تنقذنا من الموت؟ وتجعلنا من الأوائل الذين تمكنوا من قهر الموت؟ هل يجب علينا أن نموت؟ أسئلة يؤرقها السير نحو الانهيار والسقوط. إنهيار يرتبط بمهنة السؤال ومحنة الكتابة. وحدها الكتابة قادرة على إنقاذنا من الموت، لكونها القادرة على أن تجعنا نخلد إلى الأبد. فبين الصراع والمقاومة وعبر الفن والأثر يبدأ الموت ينهش أجسادنا: إنه لأمر غريب كيف أن المفكرين الكبار يتوفرون في آن معا على حياة شخصية هشة، وصحة متضعضعة في الوقت الذي يحملون فيه الحياة إلى حالة القوة المطلقة، والصحة الفائقة. مع مثل هكذا شخصيات يصبح الموت والكتابة وجها واحدا. لكن قد يدمر الموت الأثر ويفجره لحظة عدم القدرة على إنقاذ الآخر، ذلك الذي جمعتنا به ذات يوم علاقة. وستجمعنا به على المدى الأزلي. إنقاذ الصديق، الحبيب، إنقاذ من التقينا بهم. ولأننا لم نتمكن من بلوغ لحظة الإنقاذ فضلنا الموت والتعجيل بها عبر الكتابة: لا نكتب إلا بفضل الحب، وكل كتابة هي رسالة حب، ربما لا يجب الموت إلا بواسطة الحب. بيني وبينه، بينه وبيني، ال "بين" بين. يحيا كل منهما في طيات الآخر. إنه يحيا عوالم الصمت حقا لا يمكنني مشاركة إقامته الأبدية إلى حين. لكن مكنتني الكتابة من الإقامة بالقرب منه لقاء يرفض التأسيس للتعرف على تقاليد الدعوة والاستدعاء. يا لعظمة الموت إن مثل هذا الإجلال والتهليل لا نعرفه إلا لحظة السير نحو الأثر. أثر الآخر الذي يعكس في رمسه الحياة، الآخر الذي افتقدناه، وعبر ما تركه من كتابة محمولة بالمعرفة والكثافة الأنطولوجية. لا يمكننا إقامة أية علاقة حب أو صداقة إلا مع آخر. لا يزال فراقه مؤجلا، فهو مجدنا الوحيد ومجده نشيد التسامح والبراءة وسماحة الوجه. كل هذا له القدرة على تدمير الموت بعد فوات الأوان. بعد الغياب والرحيل. لم ألتقي به لكنني تعرفت عليه من دون الشروط التي قد يلزمنا بها اللقاء. رأيته، أبصرته، لم أكلمه. تابعت حركاته، كلامه. لم أفهم جيدا ماذا كان يقول، لحظتها حدث اللقاء. ربما كان من الضروري أن نلتقي في عتمة الكلام وغموضه. عبر هذا الغياب حصل العبور الذاتي تواصل عن قرب ربما كان ذلك بقطار الجامعة –السانيا- أو أحد الملتقيات التي نظمها معهد الفلسفة سنة 1991 - 1992 أو ربما في اليوم الدراسي، اليوم الذي نظمه ولأول مرة حول فلسفة "جاك دريدا" في لقاء "غدا التفكيكية" 14-07-1994. لقد أدرك "بختي بن عودة" وبوعي أن ساعة الموت لا تحدد بقرار ولا بمرسوم. لأنه وعلى خلاف بعض الكُتاب كان يرفض الكتابة عن سيرته الذاتية. بل كان يؤلمه ما آلت إليه أوضاع البلاد من كارثة وانحطاط، ألم بالمجتمع الجزائري عبر إستراتيجية التتفيه والتسطيح الثقافيين، وهيمنة الإمتثالية والتقديس، الموت ورفض الحياة والتعجيل بتدميرها بالإضافة إلى الانحطاط المعيشي والوجودي. ما قيمة الكتابة بعيدا عن معاناة المجتمع الذي ننتمي إليه؟. إن الذين يموتون يصنعون حيلة خبيثة نحو الأحياء يتوارون تاركين لهؤلاء مهمة تفسير فكرهم. أي أن يتجادلوا حول ما قالوه، وما كان ممكنا أن يقولوه، وما كان عليهم أن يقولوه، بل وحول ما لم يقولوه أيضا. الحق أن كتابات بن عودة العديدة والمختلفة لا تنتمي إلى السؤال التصنيفي المبتذل، لأن الكتابة عنده تزاوج بين الأدب والفلسفة. والسؤال لآت ينبغي أن يقف عند حدود الانتقائية والتصنيفية أو الإنتمائية بقدر ما يتعلق بنا نحن. كل الأسئلة ينبغي أن توجه إلينا، تلك المرتبطة بأولئك الذين فارقوا وغادروا الأماكن التي لا زالت قائمة تشهد على مرورهم، على عبورهم وعلى مكوثهم أيضا. إنها اللحظة التي تمدد الحداد جاعلة منه مستحيلا. وليس أبدا في التهافت على كتابات الغير سوى تفسخ معلن. وهدر لكتابة جديدة التي يتحملها النقد الجديد والذي حاول بن عودة رسم ملامحه الأولى عبر قراءته التحليلية لظاهرة الكتابة عند ألخطيبي. لقد احترق "بن عودة" بلهيب الكتابة. ومن يحترق بنار الكتابة هو الناعم برضي الإله. لقد تميزت الكتابة بالنسبة إلى بن عودة بقوانين منسقة ومنتمية إلى إيقاع سقوط الجسد الأول وإلى اللغة التي تسكنه من الداخل جاعلة منه يعبر عمَ يوجد بداخله هذا من الخارج إنها ليست مجرد رسم على البياض وإنما هي انعكاس لأفق قدرة الإنسان. وبتناوله للكتابة كظاهرة أكد على أنها من سلطة جذرية ضمن النص وخارجه. لقد كتب بن عودة في كل ما كتبه ليكون شاهدا على الصراع وعلى توزيع ثقافة الحقد والكراهية التي عمت المجتمع الجزائري. وتقتات كتاباته من الحقائق الداخلية. يقول كل شيء هو موجود بالداخل لأنه أحس ذات يوم أنه ليس حر، كان لا يزال يفضل العيش على ذاكرة الكلمات، يفتح بها السر الأبدي، سر اللحد. يكتب لينعي وفاته. لأنه يعلم أن المستقبل لن يأتيه إلا من لدن الشخص المنعي، أن نعتبر أنفسنا أمواتا هي لحظة بدء الكتابة وفي اللحظة عينها ندرك بوعي الحياة. الموت مستقبل البشرية هكذا أنشد ذات مرة "هيدغر" نشيد الموت. إذ بقدر ما يخرق الموت كياننا يكون الوعي شديد الإيضاح. إنه الحداد المستحيل، كان بختي بن عودة يتكفل على الدوام بمراقبة عدم النسيان، هكذا كتب ذات يوم وهو ينعي صديقه "عمار بلحسن" (من أبرز الأسماء التي إشتغلت كتابة على القصة القصيرة، أستاذ سوسيولوجيا الأدب بجامعة وهران وافته المنية بعد مرض ألم به وعان منه شديد المعاناة في جوان 1993) في الأبدية المرتجة، ولأجل ترويض العيب عن النسيان: مارس 1984 كان التعارف بالعاصمة، حضرت معي عبارة قالها وهو يندمي خرقة على ما آل إليه الوضع الثقافي والاجتماعي للوطن. هذا الوطن المؤسس على فانتازيا السياسوية، لن تقم له قائمة ما دام التاريخ هو المشرع، أي هو الأب الذي لم نتعلم قتله بعد. لكن بعد ساعة قتله يكون قد فات الأوان لأن صاحب الفكرة مات، عمار مات، وبن عودة مات، وأنا مت قبل الأوان، تلكم هي عوالم الأبدية. متنا ولم يمت الفعل، ولعل لحظة الانتظار تكون الوحيدة الكفيلة بتحقيق الفعل وبأن تجيب عن مثل هكذا هواجس. هواجس جميلة للذة الكلام.
إسمهان بختي
حرموني من كلمة «بابا» لكني فخورة بحمل اسمك بختي
والدي، بختي بن عودة ذي الروح الطاهرة والوجه البريء والشخصية الرائعة، لا أودّ أن أمدحك لكن هذا ما اكتشفته خلال أيام قليلة لملتقى أقيم احتفاء بك بوهران. وهران المدينة التي نشأت وترعرعت بها ثم درست بجامعتها ومتّ فيها بعد أن أذرفت دموعا بأحيائها وشوارعها. تملكني غبطة حتّى أنّي لا أستطيع البوح بكل مشاعري، لكني أحاول التعبير إزاء هذا الموقف، فأنا لم أعرف الكثير عنك، لكني الآن أكتشفك شيئا فشيئا من خلال أصدقائك الأدباء والكتاب والشعراء وهم يقدمون شهاداتهم التي كانت مليئة بالمحبة والمودة. فهذا صديقك الشاعر محمود بوزيد يقول، أنّك كنت قنّاص اللحظة كأنك تعيش لنفسك وليس للناس، وهذا الإعلامي محمد بن هدّر رفيقك يعيد ذكرياتك معه ويحيي بعض كلماتك.كان بودّي أن أعيد كل شهادات أصدقائك ورفقائك. 22 ماي 1995، اليوم الّذي ما زال راسخا في ذاكرتي. فأنا للأسف الشديد لا أذكر صورتك لكن صورتك في هذا اليوم مازالت محفورة بذهني. ماذا فعلتم بي؟ ماذا فعلتم بمستقبلي؟ لكن المؤكد أنكم حرمتموني من كلمة «بابا». لست متشائمة وخائفة لأنني فخورة بك كوني أحمل اسمك «بختي»، ولأنك شهيد الحرف والكلمة. متّ في سبيل هذا الوطن الذي أحببت وجاهدت بكلماتك وبقلمك، والحمد لله أنّ كثيرا من أصدقائك ومن الأسرة الثقافية والفنية لم ينسوك. فشكرا لهم، شكرا لحضورهم الدائم احتفاءً بك وإحياءً لذكراك. يرحمك الله../ ابنتك إسمهان.
عبد الوهاب بن منصور/ قاص وروائي وناقد
هكذا كان، رَحّالة معرفي
في مكتوب "باولو كويلو" جاء بلسان شاعر فقير يمدّ يدا على قارعة الطريق لمسافر مستعجل: (ما دمت على قيد الحياة فإنّك لم تصل بعد إلى حيث يجب أن تصل) فهل وصل بن عودة إلى حيث كان يجب أن يصل؟ أو إلى حيث كان يريد أن يصل؟ وما نريد تحقيقه، ألا يمكن تحقيقه خارج الحياة/الدنيا، أو بعدها؟. أظنه سؤالا وجوديّا، بُنيَ على الشك كعتبة لليقين، تتعدّد أجوبته. إن ما بين الحياة والموت يتشكل داخل التاريخ والجغرافيا. فما الحياة إن لم تكن حركة ودبيبا على أرض، قد لا نختار وطء أقدامنا عليها، لكنها تصير بفعل الأثر ذاكرة تخرج من دائرة زمن لا ينفع تعداده. فهذا الساكن لا يمكن إسقاطه على متحرّك يغفو ويصحو على آثار من ذاكرة. فما القصد من يومنا وغدنا أو أمسنا؟. وما وهران، التي تتلوّن بلون الدنيا، سوداء كجمرات الجحيم، إلاّ ذاكرة قد نتعمّد نسيانها لحظة فتنسانا لحظات. إنّنا لا ننسى لكننا ننسحب. ألم تقل: "النسيان فاعلية مزهوة لا بانتقاء الصور والعلامات وبريق الجذور وإنّما بالاختفاء وراء شبح التذكر ووراء هذياناته. النسيان لا الموت، وربّما أنصت الأول للثاني حين لم يعد قادرا على التحوّل إلى موضوع للمعرفة، حيث يكتشف ذاته في تجاوز كمال اللغة التي بها سماه الإنسان وحاول أن يجعل منه مهمازا'' ( ص176/ رنين الحداثة). وهران، المدينة التي تمارس طقوس العشق نهارا وتفترس عشيقها ليلا، لم تعد كذلك. و"لم تعد" هذه ليست حسابا زمنيا، فالزمن عندي فقد كل معانيه، الزمن الذي يغتصب منّا كل جميل، إنما هي فقدان أثر. وبكل بساطة أقول: إنّ الذين نحبّهم لا يموتون، إنما يختفون عن بصرنا وليس عن بصيرتنا. يقينا عندي لا شك يُسامره، إنّك بموتك خرجت من موتك وانتبهت، ألم يقل شيخُنا الذي عليه التقينا، "إذا ماتوا انتبهوا"، فلك كلّ الانتباه مِنْ وفي عِلِيِّك، هنيئا لك مقاما لم نبلغه ولم نقدّره. فالروح في الملكوت تسبح، ترى وتسمع، تئن وتضحك، وقد تحزن وتفرح. بإمكانكم أن تروا وجهه، ابتسامته وطريقة حديث لا يجف. لا أريد بكلامي هذا رثاءً قد لا يبعدني عن نفاق ولا مديحا قد لا يغنيني من كذب، إنّما فقط شهادة واعترافا لرحلة لم تنته ولم تبدأ، بل الرحلة حلقة صوفية تنعدم فيها البداية والنهاية، ولا زمان يؤطرها. هي رحلة مريد قد لا يدري أنّه كذلك. هل أقول بمَ اتفقنا عليه أم بمَ اختلفنا فيه؟ وما اختلفنا فيه قليل، ربما لأن الحضور في الرحلة لم يمنحنا مساحة كافية، أو على الأقل لم يمنحنا كتابة كلّ أسئلتنا، رحلتنا بدأت مع فصوص بن عربي، ولغته المسيّجة التي لا تنفتح إلاّ لمتبحر متبصر رغم بساطة الكلمات. إننا أمام قدرة اللغة على الحمل. حمل كل معقول وغير معقول، ظاهر وباطن. لقد رأى الشيخ الأكبر جامعُ الأضداد وكاشفُها، مانحُ العقل المسلم حق التفكير فيمَ كان محرّما وخارجا عن الطريق، هنا أسأل، والسؤال له:- هل كان بن عربي عقلانيا؟، أعيد هذا السؤال أمامكم، لأنه بكل بساطة هو السؤال الذي جمعني ببن عودة، والذي حيّرني وفي نفس الوقت صيّرني لطريق آخر لمصاحبة بن عربي. يرى بن عودة، أن الشيخ كان عقلانيا إلى حدّ ما، لأنه نفسه يقول: أنّ للعقول حدّا تقف عنده من حيث ما هي مفكِرّة لا من حيث ما هي قابلة، فنقول في الأمر الّذي يستحيل عقلا قد لا يستحيل نسبة إلهية، كما نقول فيمَ يجوز عقلا قد يستحيل نسبة إلهية. إنّ بن عربي كان عقلانيا إلى الحدّ الّذي تقف عنده العقول، ثم يفتح الباب أمام ما سمّاه النسبة الإلهية، وقد نسميه القلب أو النور أو الإيمان.. فقراءة بن عربي تتطلب العقل إلى حدّ ما، ثم تتطلب بعد ذلك قلب عارف أو كما سماه في مواضع أخرى كثيرة بنور الإيمان. بكل بساطة أتأكد أن بن عربي يُقرأ من داخل وليس من خارج. يجب دخول الحالة لفهمها وإدراكها. لقد كتب بن عربي نصوصه لمريديه الذين دخلوا الحالة بعقولهم ثم تخلوا عنها شيئا فشيئا لنور القلب الذي يرى ما لا تراه العقول. إن المريد عند الشيخ الأكبر كما الهدهد أو هو هدهد العطّار، يرفع الحجب واحدا واحدا، فيتدرج عبر المسالك والمقامات حتى تمحي كل صفة ويتساوى الليل والنهار. أوّل الطريق أن تكون عاشقا فمعشوقا والسر في العشق أنّه يمحو كل الأضداد. فهل يعقل العقلُ هذا؟ قد يصير العقل عقالا؟. وأولّ السؤال حيرة ووسطه حال وآخره معرفة وعرفان. وليس المبتغى الوصول. فهل وصل بختي؟ ليس مهما الجواب. المهم أن ندخل الحلقة/ الدائرة لا الخط المستقيم. وقد ندرك أنّ ''...أفلا تعقلون/ يعقلون'' المترددة بغير حساب في القرآن تحمل العَقل كما العُقال.
عبد الله الهامل/ شاعر ومترجم
رسالة إليه: مازال النقصان سيدا
"صباح الخير أيتها الأبدية البيضاء والزرقاء، صباح الخير أيتها المدن الباردة، صباح الخير أيتها النار، كوني بردا ووردا على من نحب من ساكني الأعالي، صباح الخير يا الطابق السابع من عمارة سان شارل، صباح الخير أيتها السلالم التي درجنا عليها، صباح الخير يا شارع مستغانم ويا بناته ويا روائحه ويا أرصفته المهترئة، صباح الخير أيتها الشمس الشرقية، صباح الخير أيتها الشمس الغربية، صباح الخير أيتها النجوم البعيدة المتطافئة، صباح الخير أيتها الروح في مستقرها العالي، صباح الخير يا بن عودة. صباح الخير يا أنفاسه، يا شاربه، يا ضحكته المفلوجة، يا قميصه المفتوح، يا نظرته الذكية، يا عينه المفتوحة في النوم وفي الموت معا. أكتب لك أو عنك أو عني أو عن آخر مجهول فينا لم نسمه. أنت رفعت المرساة وأبحرت في بحر الإلياذة ولم تعد، وأنا حملت زوادتي وتهت في صحراء لا أفق لها ولا بوصلة. أكتب الآن في اللحظة التي نعيد فيها تلميع ذكراك في رؤوسنا مثلما كانت تفعل الأمهات مع أواني النحاس عند حلول الأعياد. نلمع ذكراك فتطلع ناصعة لامعة بأصفر النحاس الخالد. سوف لن أخبرك عما حدث في هذا العالم مذ ترجلت عن نقصانه، لأني أعلم أن الموتى يعلمون ما لا نعلم نحن الأحياء أسرى الجسد والشهوات والإيديولوجيات والأنا الأعلى. لكن فقط، كنا نحتاج حضورك لتفكك الثورات العربية الجديدة التي عصفت بالدكتاتوريات العائلية في هذا الجزء المظلم من كوكب الأرض، كنا نحتاج رؤاك، رؤى الداخل العميق لنجلس إليك في مقهى (المنزه) وننصت لكلماتك الغريبة والساحرة حول الذي حدث، والجزائر أيضا كانت تحتاج هذه الرؤى لتفكيك الوئام والمصالحة. وتفكيك هذه العطالة المقيمة في حياتنا الثقافية، كنا نحتاج هذا الحضور لأنك الوحيد في من عرفنا من كانت له اللمحة الذكية الخارقة لقول كل الاحتمالات التي ستحدث ولتعرية الغامض في راهننا المتشظي. أكتب لك بالحبر، وعادات الناس في الكتابة إلى الناس تغيرت، كل عاداتنا الكتابية تألينت، ولم يعد للقلم تلك الرمزية، ولم تعد اليد ذلك العضو الخارق والماهر يفعل شيئا غير النقر على الأزرار، ولم يعد البياض سيمياء، وبلاغة، أصبح أزرق الحاسوب وفضاء الانترنت غولا سرق منا كل رومانسياتنا البريئة، حتى الحب تألين يا بن عودة لم يعد العشاق يسهرون الليالي يدبجون رسائل اللوعة والصبابة، أصبحت لهم هواتف صغيرة. بحجم كف اليد يرسلون بها رسائل مختصرة بلغة مقتضبة لا روح فيها ولا شعر. والكتب لم تعد هي الكتب برائحة أوراقها العتيقة، أصبحت الكتب كلها متناثرة في فضاء الأثير، حتى أننا فقدنا لذة البحث عن الكتب المفقودة. تدخل إلى الساحر العجيب (غوغل) ليعطيك كل ما تريد وما لا تريد، حتى عناوين منازلنا التي كان يعرفها سعاة البريد لم تعد هي، اختزلت إلى ما يسميه سكان هذا العصر إيميلات الكترونية، لقد تحول الإنسان يا بن عودة بعدك إلى كائن الكتروني مصمط وشاحب وصنمي، مجرد حروف أعجمية و@ تابع للهوتمايل والياهو والجيمال والفيسبوك. أكتب لك يا صديق الأوقات الصعبة في الحياة وفي الحب وقد بلغت الأربعين بعد لأي وأضفت للعالم البيولوجي بنتا اسمها أندلس وثلاث أولاد كان آخرهم بختي الذي لا يزال يدرج في شهره السابع ضاحكا بضحكة فاتنة بفم أدرد وبرائحة الملائكة. أكتب لك، وأنت من أنت فينا وفي الأعالي، حيث هناك ستلتقي محمد الطوبي ومحمد أركون ومحمود درويش الذي التحق بعدك بالأبدية وبأرثر رامبو وبودلير وبامرئ القيس كذلك والمتنبي وبجمال الدين زعيتر وعلولة وبنيكوس كزاتنزاكيس وبكل رعاة الأبدية الخالدين. ثم ها قد انتهينا إلى ما انتهينا إليه كما يقول جارك محمود درويش، انتهينا إلى هذا بعيون مفتوحة على الفاجعة كاملة، مثلما كانت فاجعتنا فيك، حتى أني مازلت أعتقد كلما جاء عام جديد أعتقد أنه عامي الأخير على هذه الأرض لأراك ورعاة الأبدية سادتي الكبار ونسهر معا بعيدا عن الوسواس اليومي القميئ الذي لا خلاص منه ومن فتنته. أكتب لك وأنا مفتون بكل اللذات، مفتون بقوام امرأة عابرة في الشارع، بمنظر زهرة تتفتح في الفجر، بصوت المغني الحزين، بجملة شاعر غريب، بذكرى بعيدة في أغوار الذاكرة، بالذي فكرنا به معا، بشجرة في طفولتي كانت ثمارها العصافير والخروب، بقلب الأم، وحكايا الجدة، بالأولمب، وحوار الطيور في أوطانها الأشجار عند بدايات الصباح، بالحليب حارا من ضرع معزة في مرعى أمي، بالذي رأيت يا بن عودة في كوابيسك، وبالذي... وأضيف برغوة الجعة في الكأس العاشرة في حانة كابري العظيمة. أكتب لك ولا أريد أن أنتهي من هذه الرسالة، لا أريد أن أنتهي من هذا البوح لك، أنت الذي كنت تعرف حالتي الشريدة بمجرد أن تراك العين، تعرف ما حدث بيني وبين الحبيبة، وبيني وبين القصيدة، كنت تعرف الحالة في صباح اللقاء قرب الكاتدرال أو سوق قرقينطة، وكنت تقسو بما يليق بأب حنون ومخيف. أكتب لك يا بن عودة الذي فينا ومنا وعلينا صيانة ذكراه، أكتب لك لأقول أن لا شيء تغير، ما زالت الكتابة منسحبة، وما زال النقصان سيدا، ومازالت القبائل تتناحر في الانتخابات واللجنات والمساندات معاودة داحس والغبراء كل مرة. في الأخير سأوشوش في أذنك خبرا سعيدا عن أصدقائنا القدامى، منير وعبد الله وبن شرقي والبقية من غواة الفلسفة خاصة، لقد تحسنت أوضاعهم بعد لأي وخرجوا من محتشد بلاطو، وأصبحت لهم سيارات وأسر ولم ينسوك، مازالوا يذكرون مقهى (لامباس) في حي (ميرامار) وما يزالوا يتنهدون بحسرة عند ذكرك. أقول لك السلام السلام، وأنتظر بريدك في الغيب، وأنتظر لقياك كلما حل عام جديد أتمنى فيه مغادرة هذه الأرض إلى الأعالي.
بن ساعد قلولي/ قاص وناقد
كان يمكن له أن يرمم الكثير من فجوات النص الإبداعي الجزائري
مازلت أرى أن بختي بن عودة يعتبر من أوائل النقاد الجزائريين الذين أحدثوا قطيعة معرفية نهاية الثمانينات مع أساسيات النقد الإيديولوجي والسياقي الذي كان سائدا في تلك الفترة، بانتباهه المبكر على ضرورة الانفتاح على الفتوحات المعرفية والفلسفية المنبثقة عن علوم الإنسان والمجتمع والوجود والكينونة والتاريخ، إيمانا منه بأن هناك تباعدا كبيرا بين النص الأدبي الجزائري والتحولات التي تأسس عليها من حولنا الفكر المعاصر، دون أن يتناسى شروط خصوبة هذه المعرفة النقدية وقابليتها لأن تمد النص الإبداعي الجزائري بأشعتها الكفيلة بإضاءة مضمراته وجوانبه الداجية أو "إنتاجيتها النصية" بتعبير جوليا كريستيفا، ويزداد الأمر تفاقما حين نتأمل لغة بختي بن عودة الإصطلاحية العميقة الغائرة التي ينبني عليها مفهوم "الكتابة والاختلاف" عند جاك دريدا وغيره من فلاسفة الاختلاف كجيل دولوز وميشال فوكو، خاصة دريدا على اعتبار أن "هذا العالم أصبح دريديا"، كما تعبر عن ذلك إليزابيث رودينسكو في كتابها المشترك مع دريدا "ماذا عن غد التفكيك"، الذي كان يشكل مرجعية مركزية لدى بختي بن عودة فيما يتصل "باللوغوس". الدليل الواحد الذي أقامت عليه العقلانية الغربية في مركزيتها المتعالية عبر ملفوظات الكليانية التي شحنت مضامينها منذ أرسطو وإلى الآن مسارها النقدي والأنطولوجي والتي ناهضها دريدا عبر ما ترسب في مخياله الفكري من قراءات لمفكرين نافذي التأثير على غرار نيتشه وهايدغر وفرويد وأدموند هوسرل ومما بقي قابلا للقراءة المنتجة من التركة الماركسية التي أقرت جميعها على التصدي لهيمنة الدليل الواحد في سرديات العقلانية الغربية المقيدة لأحادية المعنى على ما سواها من الهوامش والثقافات الأخرى نسبيا ودون أن تذهب في ذلك بعيدا، يضاف إلى ذالك أيضا تأثيرات جذوره اليهودية كهامش من الهوامش الشرقية ومخياله التربوي والنفسي الذي يدين إلى موطن طفولته الجزائر بالكثير، مثله في ذلك مثل مواطنه المفكر اليهودي الأصل الجزائري المولد هيلين سكسو، وفي هذا السياق يشير الدكتور أحمد عبد الحليم عطية في دراسته "دريدا وحقوق المستقبل/ماذا عن غد"، المنشور ضمن كتاب أعده وأشرف عليه المفكر الجزائري محمد شوقي الزين حمل عنوان "جاك دريدا ما الآن/ماذا عن غد/الحدث/التفكيك/الخطاب". إن الشاعر أزراج عمر اعتبر أن "مفهوم الاختلاف ومفهوم الغيرية عند جاك دريدا وهيلين سكسو ليسا نتاجا لتجربتهما المعرفية فحسب، وإنما أيضا لسنوات التكوين الأولى في الجزائر ونتاج ذلك الإحساس بالوجود والإنتماء إلى الأثنية اليهودية في ظل المجتمع الجزائري المستعمر. صحيح أن إحساسه كيهودي موزع ومهمش له تأثير في تشكيل فلسفته، ولكن هذا الإحساس تشكل أيضا من صدامه مع المستعمر الفرنسي في الجزائر، وليس من علاقته مع الإنسان الجزائري الذي كان يحارب الإستعمار. ودريدا نفسه لا ينفي ذلك، بل يعلن صراحة في كتابه "أحادية الآخر اللغوية" قائلا: "هذه الأنا التي أختصرها في كلمة واحدة هي في حقيقة الأمر ذلك الشخص الذي فيما أتذكر منع في الجزائر من إيجاد منفذ إلى لغة أخرى غير الفرنسية كالعربية الدارجة والفصحى أو البربرية". ويضيف: "أنا لا أملك إلا لغة واحدة ومع ذلك فهي ليست لغتي، فلغتي الخاصة هي لغة لم ترق بعد إلى مستوى اللغة التي يمكن تمثلها ولغتي هي اللغة الوحيدة التي أنوي التحدث ومن ثم التفاهم بها هي في واقع الأمر لغة الآخر". كل هذه الإحالات والمصادر تشكل المرجعية الكبرى لانبثاق مفهوم الاختلاف لدى دريدا الكفيلة بمناهضة تجربة "اللوغوس"، أو الدليل الواحد في آلياته المركزية عن طريق ما يسميه دريدا "الضيافة الغير مشروطة" أو "إمتياز الضيافة" بتعبير الخطيبي في سياق التجاوز المنتج لأزمنة المديح الرومانسية والتاريخية والقطع مع ثوابت قيم الإنصياع الأعمى لنسق الدليل الواحد في العقلانية الغربية باتجاه عملية هي أشبه "باقتسام الفهم" بتعبير ميشال فوكو، من خلال تسلح هذا الباحث والناقد المتميز، أعني هنا، بختي بن عودة رغم عمره القصير بفلسفات نيتشة وهايدغر ودريدا وموريس بلانشو وفيليب سولزر في مزج إبداعي يستحيل أن نجد له مثيلا ضمن حقول البحث والدراسة في الثقافة الجزائرية زمن التسعينيات إلا في ما ندر، مستحضرا في ذاته الثقافية كل ما يخص ثورية النقد التفكيكي في اعتداده بنسبية المعرفة ورفضه المطلق وجود قراءة صحيحة واعتبار أن كل القراءات هي نوع من "إساءة القراءة"، كما يقر بذلك دريدا ودحضه لأوهام العلمية والصرامة التي قام عليها التراث الفلسفي الغربي، مثلما هو بارز لدى الشكليين الروس أو جيرار جينيت أو جون كوين أو غريماس طالما أن التفكيكية ليست نظرية، بل هي مجرد تصور أو رؤية، نلمس ذلك في دراساته، سواء ذات المسحة الفلسفية النظرية أو تلك التي خص بها نصوص إبداعية لمبدعين جزائريين، ولم يتوقف جهد بن عودة النقدي عند هذا الحد، بل لامس أيضا تحولات المجتمع والسياسة، فكتب عن الراهن العبثي الجزائري أو ما سماه "اللحظة الجزائرية" في مقاله الشهير الذي نشره أياما قليلة قبل إغتياله "اللحظة الجزائرية بين قدر المعنى وواجب المفهوم"، اللحظة الجزائرية، بكل دلالاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية بنفس الدهشة التي أوقعته في "علامية" بارت وغريماس وجوزيف كورتيس لإستقراء المحمول العلاماتي "للتبيين" بالعودة إلى مفهوم "السمة" عند الجاحظ كمعادل موضوعي لما أصبح يسمى بعلم العلامات أو "العلامية"، وهذا ما نلمسه في إفتتاحية مجلة التبيين وهو يرأس تحريرها، ثم ذلك القلق الأنطولوجي وهو يقرأ "الجزائر الجديدة"، "كمدونة ثقافية وتاريخية وسوسيولوجية من وهم الدولنة إلى رج الكبوتات"، مثلما يرى فيما يسميه "التأزم البنيوي للمجتمع، وهو محتار في شؤونه وظلال المعارك الفاصلة بين دور العقل/النخبة/ الإيديولوجيا" - رنين الحداثة - ص-139، خاصة وأنه كتب هذه المقالات في عز الأزمة الأمنية من تسعينيات القرن المنصرم، حيث إنسحاب مؤسسات الدولة الشبه كلي من الحياة العامة ولذلك ظل سؤال "الكينونة والوجود" والتاريخ المنسي يسكنه كالوجع المزمن، وليس من شك في أننا حين نعيد قراءة المنجز النقدي لبختي بن عودة الذي نشر بعضه والبعض الآخر لا يزال متناثرا ومتباعدا في بطون المجلات والدوريات العربية، فإننا نقرأ مقدمات أو نواة لمشروع نقدي كان يمكن له أن يرمم بعض فجوات النص الإبداعي الجزائري ومساحات تمفصله السردية منها أو الشعرية ومن ثم إكتشاف قواعد "إنتاجية نصية" بتعبير جوليا كريستيفا لا على شكل متتاليات أو إضاءات ما قبلية على النص كوصفة جاهزة، وإنما في صورة إعادة إنتاج "وإمحاء إيجابي" بالمعنى الذي أشار إليه دريدا أو "كتابة محو" بتعبير محمد بنيس تعمل على فتح منافذ النص والإبقاء عليه قابلا للقراءة المستمرة المتعددة الأبعاد والمستويات بما هي "قراءة مزدوجة" على رأي عبد الكبير الخطيبي لا نتمكن قط من الإنتهاء منها وإستنفاذ أسئلتنا اللاشعورية حولها ضمن دائرة "التعاضد التأويلي للنصوص" مثلما يسميها أمبيرتو إيكو التي أصبحت الموجه الأساسي لتيارات التفكيك والتأويل في النقد الذي كرس له بن عودة كل جهوده بواسطة "إزدواجية الرؤية"، لولا أنه طموح إنتهى به المطاف وهو في أول الطريق ولم يكتب له التجسيد والديمومة، هذا فضلا عن جهوده في حقلي الترجمة والشعر/الترجمة التي أولاها أيضا أهمية كبرى، فقد نقل إلى لغتنا العربية دراسة مهمة للروائي مولود معمري عن "الشفوية/الخطاب والبربرية"، ودراسة أخرى للشاعر محمد سحابة عن "الشعر الجزائري ذي اللسان الفرنسي بعد الاستقلال"، نشرهما بمجلة الفكر الديمقراطي السورية في عددها الحادي عشر سنة 1990 ودراسات أخرى لدريدا وعبد الكبير الخطيبي نشرها بمجلات عربية مرموقة/ الخطيبي الذي خصه أيضا بدراسة جامعية تحدث فيها عن "ظاهرة الكتابة في النقد الجديد/مقاربة تأويلية/الخطيبي/نموذجا". على الرغم من أنه كان مقلا في حقلي الترجمة والشعر بالنظر للكتابة النقدية التي أخذت حيزا واسعا من تجربته في الكتابة عموما ولا بأس هنا أسجل في هذه الورقة/الشهادة أن بختي بن عودة/الإنسان كما يعلم كل من عرفه عن قرب، كان رجلا متواضعا إلى أبعد الحدود وكريما وسخيا حتى مع أولئك الذين كان يختلف معهم إيديولوجيا وثقافيا أو الذين ناصبوه الخصومات المجانية، فقد تسنى لي شخصيا أن أقرأ في بيته بأعالي عمارة سان شارل بوهران رفقة الصديقان عبدالله الهامل ومحمد بن زيان عددا من العناوين المهمة لرموز فكرية إكتشفتها لأول مرة على غرار الخطيبي ودريدا وجيل دولوز وميشال فوكو، ولولاه ما كان يمكن لي أن أتعرف عليها أو على محمول الكتابة لديهما أو أن أفر من هيمنة "المؤسسة الذوقية" "للمركز التراثي" المتمسكة بمبدأ رفض الآخر جملة وتفصيلا والإكتفاء بما هو متوفر لدينا حتى وإن كان هذا الأخير هو الوجه الآخر ليقينياتنا العمياء التي نسكن إليها ضمن مدارات أفقها مسدود في سياق "الولع بالأصل" بتعبير أدموند جابيس أو ما يشبهه لا يحقق مما نريد من تأصيل إلا بعض الخلاصات الهزيلة من تراثنا البلاغي والنقدي الذي نعتقد أنه في حاجة ماسة إلى جهود مخلصة تعيد قراءة جوانبه المضيئة بآليات جديدة تجعله يعيش معنا هموم ومشاغل عصرنا بما يستجيب لأسئلة الكتابة والنقد والاختلاف والمثاقفة، بعيدا عن ردود الفعل النفسية والتسطيح والتراكم والمنطق الاستعراضي السائد على أكثر من صعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.