البارحة مرت ذكرى رحيل "العندليب الأسمر" عبد الحليم حافظ وقبله بثلاثة أيام ذكرى رحيل النجم المتألق أحمد زكي، الذي ختم حياته بفيلم "حليم" عام 2006 الذي يتناول حياة عبد الحليم حافظ ويعد مرثية له ولأحمد زكي ولمرحلة المد القومي في الستينيات. نتوقف هنا أمام مسيرتهما السينمائية المتميزة، ونأسف أيضاً على ما آلت إليه السينما في وقتنا الحاضر، أحمد زكي الذي ظل متمسكاً بأصول العمل الفني حتى آخر عمل مازال يشتغل عليه "حليم" عن حياة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ. حلم أحمد زكي هذا.. في تجسيد شخصية العندليب أثناء صراعه المرير مع هذا المرض اللعين! .. لكن ولأن أحمد زكي فنان من طراز نادر، فنان يعشق فنه حتى الموت.. قاوم وقاتل مرضه.. ليقف أمام كاميرا المخرج شريف عرفه ليجسد لنا أنشودة الألم والمرض والعذاب.. والكفاح.. والنجاح.. أنشودة حليم.. أنهى أحمد زكي منه ما يقارب تسعين بالمئة من المشاهد التي يتضمنها الفيلم. قبل أن يعود للمشفى مع تفاقم السرطان وانتشاره في جسمه حتى دخوله الغيبوبة والموت، ليصبح النجم الأوحد على الساحة السينمائية الذي يحافظ على صورته ناصعة ونظيفة لينال احترام الجميع، ونحن إذ نتفق على أن النجومية لا تأتي اعتباطاً أو مع ضربة حظ، فإن تاريخ أحمد زكي يصلح لأن يُدرّس في معاهد السينما من الناحية الأخلاقية أولاً ومن ثم أسلوبه في الأداء وصبره واشتغاله على نفسه ، أحمد زكي، يستحق بجدارة لقب نجم الثمانينيات، بل ونجم السينما المصرية. فنحن أمام فنان مجتهد جداً، أتقن صنعته، وجعل التمثيل أفق علاقة متينة بين العلم والفن والموهبة. عالمه مشحون بعصبية قوية، تحتّم عليه الانصراف كلّيا إلى الشخصية، لا ليقدّمها على الشاشة، بل ليعيشها. وهو مصبوغ بلوثة الإبداع، كأنه لا يأبه بذاته الإنسانية، حين يصبح الشخصية، أو كأنه يجعل من الشخصية إنسانا من لحم ودم. يهتم كثيراً بالكيف على حساب الكم، يلفت الأنظار مع كل دور جديد يقدمه، وأعماله تشهد له بذلك، منذ أول بطولة له في فيلم شفيقة ومتولي وحتى الآن، مروراً بأفلام إسكندرية ليه، الباطنية، طائر على الطريق، العوامة 70، عيون لاتنام، النمر الأسود، موعد على العشاء، البريء، زوجة رجل مهم، والعديد من الأفلام التي حققت نجاحات كبيرة على مستوى الجماهير والنقاد على السواء. طريق صعب، ومليء بالإحباطات والنجاحات، هذا الذي قطعه أحمد زكي حتى يصل إلى ما وصل إليه من شهرة واحترام جماهيري منقطع النظير، جعله يتربع على قمة النجومية. حصد العديد من الجوائز المحلية والدولية، واحتكر جوائز أفضل ممثل مصري لعدة أعوام متلاحقة. في أدائه جمال يصعب تحديده في إطار جامد. لعلّه الصدق، أو العفوية، أو البساطة، أو ربما هذه كلّها معا، يُضاف إليها حرص على إبراز الأصل والجوهريّ في الشخصية. لديه حساسية فائقة في التزام قضايا المجتمع والناس، تفرض عليه عدم تغييب لغة الفن، ومصداقية التمثيل. بساطته مبنية على عفوية جميلة. توتره أفضى به إلى كسر الحاجز الوهمي بين السينما والحياة.. هذه عناوين ساهمت في صنع حضور أقوى له في المشهد العربي ما كان لأحمد زكي أن يفعل ذلك لولا أنه ممثل استثنائي. ومن الصعب أن نجد ممثلا بهذه الطاقة في كل تاريخ السينما المصرية والعربية عموما. وكانت السينما جزء أساسي من إبداع "العندليب الأسمر" عبد الحليم حافظ، وهو الذي ولد في 21 جوان 1929، ثم التحق بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين في 1943 والتقى بالفنان كمال الطويل الذي كان في قسم الغناء والأصوات، وتخرجا في 1948. ليقدم عبد الحليم في السينما ستة عشر فيلما سينمائيا، على مدى أربعة عشر عاماً، غنى فيها ثلاثاً وتسعين أغنية سينمائية. وقام بأدوار البطولة أمام أشهر نجمات السينما المصرية، مثل: شادية، فاتن حمامة، سعاد حسني، صباح، مريم فخرالدين، مديحة يسري، نادية لطفي، لبنى عبد العزيز، ميرفت أمين. ويشهد يوم 12 ديسمبر 1954 على أولى خطوات عبد الحليم مع السينما، حيث تعاقد معه المخرج ابراهيم عمارة على المشاركة في بطولة فيلم "لحن الوفاء" أمام شادية وحسين رياض.. وفي نفس الوقت يشارك عبد الحليم في بطولة فيلم "أيامنا الحلوة"، للمخرج حلمي حليم مع فاتن حمامة، عمر الشريف، أحمد رمزي. و«ليالي الحب". و«أيام وليالي". وكلها قدمت عام 1955 الذي وصف بأنه عامه الذهبى سينمائيًا. وفي شهر مارس من العام التالي مباشرة، كان عبد الحليم على (موعد غرام) اسم الفيلم الذي جمعه باللقاء الثاني مع المخرج بركات والفنانة فاتن حمامة وبنفس العام شارك بأول فيلم مصري ملون بطريقة السكوب "دليلة " مع المخرج محمد كريم ومعه بالبطولة: شادية، فردوس محمد. ثم فيلم "بنات اليوم" 1957 وشاركه البطولة: ماجدة، آمال فريد، أحمد رمزي. وعن رواية للأديب المصري إحسان عبد القدوس قدم عام 1957 الوسادة الخالية وشاركه البطولة: أحمد رمزي، زهرة العلا، لبنى عبد العزيز، عمر الحريري. ثم فتى أحلامي 1957. وشارع الحب 1958، وحكاية حب 1959 والبنات والصيف 1960 ويوم من عمري1961. وانتهت فترة النشاط الفني المكثف لعبد الحليم بسبب شدة المرض وقلت أفلامه واستغرق سنوات في تقديم الفيلم الواحد، فلم تشهد الفترة المتبقية من حياته إلا 3 أفلام الاول (الخطايا) أمام نادية لطفي وحسن يوسف وعماد حمدي، إخراج حسن الإمام والذي عرض في 12 أفريل 1964، أحداثه تروي قصة ميلودرامية مؤثرة حيث الأب عماد حمدي والأم مديحة يسري ولهما ولدان هما حسن يوسف وعبد الحليم اللذان يدرسان في الجامعة، ويحب عبد الحليم نادية لطفي ويريد أن يخطبها ويتزوجها فيرفض والده بشدة لأنه يريد تزويجها لحسن يوسف ابنه الحقيقي.. ويطرد عبد الحليم خارج البيت. "الخطايا" لم يكن بالنسبة للعندليب الأسمر مجرد مشروع فني وتجاري بقدر ما كان يمثل له تحديا عصيبا أمام ذاته وأمام الجماهير؛ فقد عزم على أن يتحول من مطرب يمثل إلى ممثل يغني، أي أن يتعامل معه الجمهور كممثل في المقام الأول وليس كمطرب كما اعتاد في أفلامه السابقة.فيلم معبودة الجماهير 1967 استمر في تمثيله أكثر من أربع سنوات بسبب النزيف الذي كان يحصل لعبد الحليم حيث كان يسافر إلى لندن ما بين فترة وأخرى، يتحدث عن قصة ميلودرامية عاطفية مؤثرة، كان دور عبد الحليم هو ممثل شاب مبتدئ بجانب النجمة الشهيرة شادية.. وعندما يلاحظ المخرج يوسف شعبان ذلك الأمر والذي سيؤثر على عمله في عالم الفن والإخراج فإنه يرتب مكيدة خسيسة ضد عبد الحليم لتبتعد عنه شادية وتكرهه، وهذا ما حصل بالفعل.. وتنكشف الخديعة الماكرة في آخر الفيلم بعدما يكون الممثل الناشئ قد أصبح مطرباً شهيراً، أما شادية فقد طوتها غياهب النسيان والمرض. وقدم عام 1969 آخر أفلامه "أبي فوق الشجرة" وشاركه البطولة: عماد حمدي، ميرفت أمين، نادية لطفي. هذا الفيلم اعتبر وقتها من أقوى الأفلام الاستعراضية ومن أكثر الأفلام العربية تحقيقا للإيرادات. وكان يحلم بتقديم قصة "لا" للكاتب الكبير مصطفي أمين على شاشة السينما ورشح نجلاء فتحي لبطولتها ولكن القدر لم يمهله. فقد أصيب بتليف في الكبد جراء مرض البلهارسيا أدي لوفاته في 30 مارس 1977، وقد تم تشييع جثمانه في جنازة مهيبة لم تعرف مصر مثلها سوى جنازة الرئيس عبد الناصر والفنانة أم كلثوم.