كان مدخل إقامة أحمد أويحيى مفتوحا على حديقة غنّاء، وكان العمران أقرب إلى العمرن الإسلامي، قاد ميلود شرفي مارتيناز إلى باحة فسيحة تؤدي إلى رواق طويل ذي جدران مضيئة.. جلس مارتيناز في صالة واسعة مؤثثة بصالون مغربي تقليدي... وعلى الجدران كانت ثمة لوحات تنتمي إلى المدرسة التعبيرية، وبعد دقائق دخل أحمد أويحيى وهو يرتدي بدلة زرقاء فاتحة وقميصا ناصع البياض وربطة عنق زرقاء.. مد يده إلى مارتيناز وعلى وجهه ابتسامة مفضوحة، تبادل الكلمات فيها الكثير من المجاملة، وفي الدقائق الأولى راح ميلود شرفي يحدّث أحمد أويحيى عن حرفية مارتيناز وصداقته وإعجابه بالجزائر الجديدة، لم يعلق مارتيناز على كلام ميلود شرفي، بل راحت الصور تتزاحم في رأسه وهو يحدق في وجه أحمد أويحيى ذي الشوارب البيضاء والصوت الجاف والنظرات التي تخفي في أعماقها حذرا ممزوجا بالرغبة الخفية في التأثير على مارتيناز... كان مارتيناز مطلعا بشكل واسع على مسار أحمد أويحيى، فلقد تحصّل على هذه المعلومات من خلال أحد الأصدقاء الذين عرفوا أحمد أويحيى في بداية مشواره المهني واشتغلوا معا جنبا إلى جنب.. فمارتيناز لازال يحتفظ بعدة صور لأويحيى، فهو يعرف أن أحمد أويحيى كان طالبا خجولا، منضبطا ويعاني من النزعة الإنطوائية التي كانت تسيطر عليه، وهو بمقدار ما كان يظهر في سلوكه الانضباط والمثابرة والطاعة، فإنه كان يخفي بداخله شخصا مليئا بالطموح وبالرغبة الجامحة في قيادة الآخرين.. ولم يكن هذا السلوك قادرا على التجلي إلا عندما يكون أحمد أويحيى واثقا أنه ليس في دائرة شك أو خطر... وكان يُعرف عن أحمد أويحيى كذلك، أنه كان جد خجول أمام النساء، فحياته كادت أن تكون خالية من المغامرات مع الفتيات عندما كان في مقتبل العمر.. وكان هذا الخجل تجاه النساء يجعله يشعر بالارتباك نحوهن.. فهو عندما يتحدث إلى امرأة نادرا ما كان يحدق بشكل شجاع في وجهها.. وهذا النوع من الخجل لازمه وهو في أعلى المناصب.. فحتى عندما كان يخاطب الجمهور فقليلا ما كان يركز نظره في وجوههم، بل كان رأسه دائما يتحرك يمنة ويسرة، وهو في هذا الحال يكاد يكون مناقضا لبومدين الذي كان يركز نظره الحاد في وجه محدثه.. ومثل هذا الشعور بالعقدة تجاه المرأة، جعله عندما كان موظفا في رئاسة الجمهورية يسقط لأول مرة في غرام إحدى زميلاته ليتزوج بها فيما بعد ويظل وفيا شديد الوفاء لها، وغير قادر أن يرفض لها طلبا... ويتذكر مارتيناز، أيضا ما قاله له صديقه الذي كان يعرف أحمد أويحيى بشكل جيد على الصعيد البسيكولوجي، فخجله وحرصه على إرضاء من هو قوي جعله يبرز كموظف دؤوب ومثابر وحريص على دراسة الملفات بشكل دقيق، وفتح له مثل هذا السلوك الباب لأن يرضى عنه مسؤولوه فيما جعله يرتقي بشكل سريع ولافت، سواء عندما كان مكلفا بالملفات السياسية الخارجية، أو عندما أصبح يشتغل في إدارة الرئيس الجزائري ليامين زروال، لكن هذا الانضباط والانطواء على النفس جعلاه يشعر بالمهابة والخضوع أمام المسؤول العسكري، مما جعل الكثير ممن يعرفونه أو لا يعرفونه يحسبونه لوقت طويل على جهاز المخابرات.. وكان العسكر يجدون في خضوعه وانضباطه وجديته الطير النادر الذي يلجؤون إليه في كل الظروف الصعبة، ويسميها البعض بالظروف السيئة التي تدار فيها المهام القذرة.. ولم يكن أحمد أويحيى يجد في القيام بذلك أي حرج.. لأن ذلك كان يشكل بالنسبة إليه الطريق الوحيد للوصول إلى هرم السلطة... لكن برغم هذه الصورة التي عُرف بها أحمد أويحيى، إلا أن مارتيناز كان يعلم من خلال استقصاءاته، أنه كان في الوقت ذاته يدرك كيف يخفي مشاعره الحقيقية، وأفكاره الأصلية أمام مسؤوليه.. إنه عرف كيف يخفي طموحه الحقيقي في الوصول إلى هرم الحكم.. وكان يبرر أي تقلده لأي منصب، أنه مجرد خادم للدولة، بحيث جعل من هذا الشعار عقيدته السياسية والإيديولوجية التي عُرف بها.. ولذا، كان لا يعبّر عن خيبته أو غضبه عندما كان يتم الاستغناء عن خدماته، وذلك ما حدث له مرارا مع الرئيس بوتفليقة، إلا مرة عندما استدعاه الرئيس بوتفليقة إلى مكتبه، وسأله غاضبا عن مقال صادر بمجلة جان أفريك، يقدم أحمد أويحيى كخليفة لبوتفليقة.. أجاب أحمد أويحيى، أن لا علم له بالمقال، ولم يكن وراء الصحفي الذي كتب المقال، إلا أن بوتفليقة تمادى وهو في أوج غضبه، في إهانة رئيس حكومته آنذاك أحمد أويحيى.. وعندئذ، خاطب أحمد أويحيى الرئيس بوتفليقة، سيدي الرئيس، إن اعتقدت أن ثقتك اهتزت بي، فأنا على استعداد لتقديم استقالتي.. لكن ما إن أتم أحمد أويحيى عبارته، حتى صرخ في وجهه بوتفليقة..لا... لست أنت الذي تقول لي تقدم استقالتك، أنا الذي سأقوم بإقالتك... هل فهمت؟!" ظل وقتها أحمد أويحيى جامدا أمام بوتفليقة كالتمثال.. لكن ما إن غادر مكتب الرئيس حتى التقى بالجنرال توفيق وأخبره بتفاصيل ما حدث، إلا أن الجنرال توفيق حاول أن يطمئن أحمد أويحيى، وأمره أن يبقى هادئا، وعندما اتصل الجنرال توفيق ببوتفليقة، أخبره هذا الأخير أنه قرّر الاستغناء عن خدمات أحمد أويحيى، وأنه يفكر بتعويضه بعبد المالك سلال.. ووجد توفيق أن الخيار جيد، إلا أن بوتفليقة يفاجئ الجميع، ومن بينهم الجنرال توفيق، ليختار عبد العزيز بلخادم الذي كان وقتها منبوذا عند العسكر خليفة لأحمد أويحيى..".