وأخيرا، تمكن مارتيناز من الحصول على موعد مع رئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحيى، كان ذلك اليوم مشمسا وصافيا، وبلغ اللغط فيه أشده بين أنصار الرئيس وخصومه من أتباع علي بن فليس ومعسكر المقاطعة، كان مارتيناز فرحا باللقاء مع أويحيى بعد انتظار طويل، كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد الظهر، عندما كان مارتيناز على متن سيارة فارهة رفقة الرجل المقرب من أويحيى ميلود شرفي الذي دخل عقد الستينات، كان هذا الأخير يرتدي بدلة داكنة ويتحدث دون انقطاع قائلا لمارتيناز "أنتم محظوظون يا سيد مارتيناز بلقاء السيد أويحيى، إنه نادر ما يتاح له الوقت للقاء إعلاميين وهو منذ خروجه من الحكومة لم يدل بأي تصريح أو حوار، وهو في الحقيقة يكنّ لكم ولجريدتكم احتراما شديدا وهو يدرك مدى حبكم وصداقتكم للشعب الجزائري"، رد مارتيناز على المجاملة بابتسامة غامضة، ثم قال "لكن يا سيد ميلود شرفي، أنا لا أفهم ذلك التمرّد ضد السيد أويحيى وهو المحسوب على جناح قوي داخل النظام، فقال شرفي مبتسما ومناورا "هذه هي الديمقراطية التي يطالبنا الغرب بانتهاجها يا سيد مارتيناز وذهابه بشكل ديمقراطي كان درسا ديمقراطيا لكل من يتهمونه بالدكتاتورية، إن ما حدث داخل حزبنا يدل على ظاهرة صحية والسيد أحمد أويحيى قَبِل بقواعد اللعبة، ولقد التزم بالصمت والانضباط عندما غادر قيادة الحزب". لكن مارتيناز أشار إلى أنه غير مضطر إلى الاستماع إلى مثل هذا الكلام الديماغوجي، إلا أن ميلود شرفي ظل يتكلم دون توقف وكأنه لم ينتبه إلى إشارة مارتيناز، وقال "الكثير كان يعتقد أن السيد أويحيى سينقلب على الرئيس، إلا أنهم ظلوا الطريق فهؤلاء ظهروا أنهم لا يعرفون الرجل، إنه رجل وفي، مخلص، منضبط ورجل دولة، وعندئذ قال مارتيناز بشكل مفاجئ "السيد شرفي، هل صحيح ما تداولته الصحافة، أن السيد أويحيى انقلب على الجنرال توفيق بعد أن فقد هذا الأخير جزءا من قوته؟"، تلعثم شرفي قليلا ثم استرجع أنفاسه قائلا "إنه مجرد كلام صحافة، هؤلاء الصحافيون يقولون مجرد خزعبلات الكلام عن الصراعات بين الرئيس وتوفيق، إشاعات، مجرد إشاعات.. يضعان اليد في اليد والدليل على ذلك أن توفيق لم يتأخر يوما عن زيارة الرئيس، إن التغييرات التي حدثت داخل جهاز الاستعلامات كانت باقتراح من توفيق نفسه، أنا لا أتصور يوما صراعا بين الرئيس وتوفيق"، وعندئذ سأله مارتيناز "إذن كيف تفسّر الهجوم الصارخ الذي شنّه سعداني ضد توفيق؟" أجاب شرفي وهو يبدي استخفافا قائلا "من هو سعداني هذا إنه مجرد طبّال، إنه لا يزن شيئا في اللعبة السياسية"، وأضاف "لعلمك أن الرئيس استدعاه ووبخه أشد توبيخ"، ابتسم مارتيناز والسخرية بادية على ملامحه وهو يقول بداخله هل هذا الرجل يستغبيني وهو بذلك يسعى لأن لا يقول شيئا مفيدا، أم هو فعلا غبي وقصير النظر؟!". كانت السيارة تتجه من ديدوش مراد إلى دالي براهيم، حيث يمتلك أويحيى إحدى الإقامات التي يعقد فيها اجتماعاته الخاصة ولقاءاته الحميمية البعيدة عن كل الأضواء وكان الطريق في نفس تلك الساعة مزدحما وغاصا بالسيارات، ثم قال مارتيناز مستفزا ميلود شرفي "هل فعلا أنك المالك الحقيقي لمجمع وقناة "أجواء"، فرد شرفي مرتبكا "لا، هذا غير صحيح أنا لست المالك الفعلي لمجمع "أجواء"، لكن الجزائريين ألسنتهم سليطة وهم دائما يقولون أشياء كثيرة غير دقيقة، ولقد كتبت وأعرف أن عدة جرائد أشاعت أخبارا مغرضة على أساس أننا استفدنا كثيرا من الإشهار العمومي وهذه مجرد ضربات يصوبها بعض المجهولين الذين يصطادون في الماء العكر لتكون ضربات تحت الحزام. علق مارتيناز قائلا "لكن ليس عيبا أن تكون من ملاّك قناة تلفزيونية خاصة أنكم منذ وقت طويل تمارسون النشاط السياسي والإعلامي"، فقال ميلود شرفي "في الحقيقة ابني رحمه الله هو من بادر مع صديق له لإنشاء مجمع أجواء الإعلامي وأنا طبعا شجعتهما على ذلك" كان ميلود شرفي يتحدث بطريقة بدا من خلالها أنه مرتبك وكان يسعى بين الحين والآخر أن يغيّر الموضوع بشكل واضح ولافت وتنبأ مارتيناز أن مرافقه أصبح شديد التوتر، فانتقل إلى موضوع آخر يتعلق بأحمد أويحيى وما يقال عن علاقاته برجال المال والأعمال، إلا أن ميلود شرفي راح يناور ويتهرب بصورة بارعة، مفضلا الولوج إلى مواضيع ذات طابع عام وغامض. ثم قال شرفي عندما سأله مارتنياز عن حركة بركات "هؤلاء مجرد أقلية لا وزن لهم حتى في أحيائهم، وهم غير قادرين على تجنيد حتى أفراد عائلاتهم، إنهم يحلمون باتخاذ سيناريو الربيع العربي عندنا وهم في ذلك واهمون لأن الشعب الجزائري قد أنضجته سنوات المحنة والظروف القاسية التي تجرع مرارتها في التسعنيات.. إن الجزائر ليست مصر أو ليبيا أو تونس، الجزائر كانت سبّاقة إلى الديمقراطية والانفتاح، إن هؤلاء يجهلون شعبهم جهلا تاما". كان مارتيناز يصغي كاللامبالي إلى كلام ميلود شرفي وكان ينظر من وراء النافذة إلى منظر البنايات الصامتة والوجوه العابسة والزحمة الخانقة.