الرّواية هي ذلك الفعل الإبداعي الذي يبحث عنه الرّوائي ليجعل العالم بطعم السّرد، ونكهة الحكي، هي الحكاية التي تتطوّر لتنفصل فيها مسارات الشخوص وتلتقي، تتصارع وتعقد هدنة كي يأخذ الحدث نهاياته التشويقية، ويختلف عمّا يجري في العالم الواقعي، الرّواية تحكي العالم الفاصل بين الواقع والمتخيل، أو ما أسمّيه البرزخ الرّوائي، لذا فالروائي غير ملزم بالنّقل الحرفي للعالم. ماذا يعني أن نكتب رواية؟ فعل الرّواية يحضر في الواقع والعالم كبيان تأسيسي لذات تشعر ما يشكل فضاء حركتها الذاتي خلاف ما تلامسه واقعا، فتعمد إلى مدّ أحابيل المخيال بين الواقع والحلم لتبني أشياءها التي تخصها تمثيلا للعالم بصورة أخرى، أو الواقع بنكهة السّرد اللذيذ. ما يجعل لذّة الرّواية ممكنة في واقع راويها هو ما يتبقى من ذلك الإحساس بإضافة شيء ما لذيذ إلى العالم، حين سئل فوكنر عن "ديلزي" في روايته "الصّخب والعنف"، وقد صوّر فيها عالما معيّنا ينهار، وما يتبقى منه هو "ديلزي"، قال إنّها تمثل "العنصر النّظيف الذي سيبقى ويصمد"، فحينما يكتشف الرّوائي بينه وبين ذاته أن ما أنجزه من خلال المخيال يمثل مفقودا ما أو عنصرا ضمن معادلة يحتاجها الواقع، يكون حينذاك قد حقق اللذة في ذاته وفي واقع العالم، ف«ديلزي" تستمر كحلم للاستمرار في العالم، وتصبح حكاية للذّوات المتلقية لعالم معيّن ينهار، يقدّمه فوكنر، ولكنّه يحمل عوامل الحماية (نظافة ديلزي) التي تمكن من الاستمرار في البقاء بعد هذا الانهيار، فديلزي تشكل الحكاية ليس بمقياس تتالي الحدث ومفصلة اللحظة الزّمنية إلى حركةِ ذاتٍ داخل الحيّز وتفاعلها مع معطياته الرّاهنة، بل تمثل حكاية بمعنى تكريسها لمعنى محدّد وهو الاستمرارية مع النّظافة الوجودية. مفهوم الحكاية، يبدو أنّ من رسم معالمه هو المخيال العربي، فالحكاية بمفهومها التراثي، الذي ينطلق من لازمة الحكي العربي "كان يا ما كان" طوّر معالمها الرّوائي العالمي "نجيب محفوظ"، وقدّم عوالما قاهرية انطلاقا من حارة تتحرّك وتمتدّ نحو العالم لفرادة منجزها، ولعل هذه النقطة تفتح السّجال واسعا حول الخصوصية في العمل الرّوائي. نجيب محفوظ حكّاء ويفتخر: ابتداء، وحول مفهوم الحكاية، تطرّق روائي سعودي إلى أدب نجيب محفوظ ورأى بأنّه لا يستحق جائزة نوبل، "لأنّ ما يكتب مجرّد حكي لا يرتقي إلى جنس الرّواية". يكفي أن نقول عن نجيب محفوظ أنّه يمثل فرادة عربية وإنسانية في سبر غور الأعماق النّفسية لشخوصه حتى يبدو وكأنّه يجالسهم ولا يفرض عليهم مسارا حدثيا. إنّ رأيا كذاك الذي صدر عن الرّوائي السّعودي، إنّما يكشف عن الهوّة السّحيقة بين ما يمكن أن يشكل فهما استراتيجيا لعمل سردي يندرج ضمن بانوراما عربية تحاول أن تؤسس لفعل سردي إنساني، أي يمتلك المقدرة على المزاحمة، ومن ناحية أخرى، فالحكاية هي عنصر من عناصر الرّواية، لأنّ تداعيات الحدث وتفريعات الرواية إنّما تنجم عن تطوّر الحكاية، ومثل هذا الحكم الصّادر من روائي في حق نجيب محفوظ، يكشف عن أزمة في التعاطي مع النص، الذي على القارئ أن يتعامل معه من منطلقات التّحليل، الرّؤية، الرّؤيا والتأويل، ذلك أنّ خلل التعاطي مع النص ينجم عن الانتقال من النص إلى الشخص، وهو ما لا يستقيم مع معايير القراءة النقدية، كما أنّ النظر إلى المنجز الرّوائي العربي على أنّه مجرّد نصوص حكائية، لا يأخذ في الاعتبار هذا الرّأي بأنّ النص العربي المؤسّس هو حكائي بطبيعته، فألف ليلة وليلة، هي نصوص حكائية تروى: "ومنذ بداية حكايات ألف ليلة وليلة وعت الراوية شهرزاد أهمية الحكاية بالنسبة للمتلقي شهريار.." بتعبير بينولت دايفيد، فالرّواية هي الإطار العام الذي يوجّه ويحدد الحكاية، أو بتعبير آخر فالرّواية هي حكاية تروى. الخصوصية والجنس: درجت الرّواية العربية على تصوير مشاهد جنسية فاضحة، وهو ما قد يطرح أسئلة الذوق والخصوصية، لأنّه حتى على مستوى الرّواية العالمية فإن الجنس على الدّوام طرح هذه الإشكالية، ولعل "لوليتا" نابوكوف، وروايات آلان روب غرييه، هذا الأخير الذي نعاه أحد صحافيي "الإكسبريس" بقوله "مات ألان روب غرييه هذا الإثنين، في الخامسة والثمانين. انطفأ مثل عجوز حقير، على صورة حياته، الخاصة والأدبيّة، بعد أشهر من نشر كتابه الأكثر إثارة للجدل والنفور. "رواية عاطفيّة" (2007) ليس سوى نشيد فاضح يمجّد الجنس والعنف والبيدوفيليا، من دون أي حرج..". فالهدف من المشهد الجنسي في الرّواية هو تقديم المتعة والجمال للمتلقي، ولعله يجعله يعيش لحظتها بالجمال، بينما المتلقي كإنسان يرغب في العيش للجمال، لأنّ نسبية الجمال هي التي تمنح الإحساس بالعيش له وليس العيش به، حيث لا يتحدّد نهائيا، بينما يتجدّد حسب الذوق، وبالتالي فالخصوصية تلعب دورا مهما وحاسما في تثوير وتطوير جمالية التلميح بعيدا عن صدامية التصريح، التلميح الذي يمنح للتّخييل ترسيم حدود الفعل الجمالي/المتعوي دون الإغراق في جانبه الحسي الشهواني المشهدي، فسينما البورنو تكفي لكي تقدّم للمشتهي ما يفوق لذّة القراءة في المشهد الورقي. الرّواية ونقل الواقع: تحمل الرّواية العربية في بعض مقاطعها بعض الكلمات التي تنقل حرفيا من الواقع، والتي تعتبر صادمة في حركة الناس العادية والواقعية، وسردها في مسار الرواية لا يضيف للمتن جمالية بل بالعكس قد يقع حائلا دون الاستمرار في تلقي الرّواية وجمالياتها المخبوءة، لأنّ الذوق والخصوصية يلعبان الدّور الأهم في تلقي العمل الإبداعي، وهذا ليس تحديدا لسقف الإبداع ولكنّه رؤية تغيير في زاوية الرؤية للعمل الإبداعي الذي يزاحم من خلال خصوصياته، ومن خلال المتخيل الذي ينشئ مفرداته، والرّوائي غير ملزم بنقل الواقع بدعوى أنّ الرواية هي منتجه، ومن هذه الزاوية يكتب ميلان كونديرا في "فن الرّواية": "ذهب دون كيشوت نحو عالم كان ينفتح أمامه بشكل واسع"، فعالم الرّواية يحملنا المتخيل على ضفافه، دون أن نكون مجبرين على مسايرة الواقع في مفرداته، لأنّ حدود المتخيل واسعة وواسعة جدا.