يواصل الخير شوار مراكمة منجزه السردي، برواية "ثقوب زرقاء" التي نسج بها وحبك نصا أظهر فيه قدرته على حبك الحكاية وهندسة معماريتها.. ففي روايته الأخيرة دخل بنا عوالم برزخية بين الواقعي والمتخيّل، رواية حملت وصل وفصل مع عوالم روايتيه السابقيتين، وصل بالحبكة التي عرف بها القراء شوار كأحد المتميزين في تجربتهم السردية بالنزوع نحو الأسطوري وتوليد الحكي المتضمن للمفارق والمطابق، وفي المفارقة المطابقة وذلك من أسرار الحبكة. في معمارية ومعجمية النص تكمن الرؤية والخيارات، رؤية تتأسس عليها خيارات جمالية لذات مفردة هي ذات الكاتب، والفردي متشابك مع الجمعي، تشابكا يجل كل فرد، فرد بصيغة الجمع بتعبير أدونيس فالمبدع يتصل منفصلا وينفصل متصلا، وفي ذلك قلقه المنتج لنصه. وبناء على ذلك تفتح لنا الرواية بما تحمله مجالا لتمثل سياقا وقراءة ذات تكابد رحلة لملمة أبعاضها. في "ثقوب زرقاء" يتجه شوار اتجاها مستثمرا لتجربته الصحفية، منطلقا كما ذكر من روبرتاج استفز الروائي فيه لصياغة ما لم يسعه الروبرتاج.. وشوار ليس بدعا في هذا السياق، فالكثير من الكتاب انطلقوا من خبر صحفي أو واقعة متداولة لصياغة أعمالهم، ونذكر منهم في هذا السياق الروائي إرنست همنجواي في رواياته المنطلقة من مغامراته في الحرب والصيد والروائي الكولمبي غارسيا ماركيز والروائي نجيب محفوظ في رواية "اللص والكلاب" مثلا. حدث صغير عابر يمكن أن يكون منطلقا لتمثل تعقيدات وضع مركب، والمبدع يباشر بنية الوعي جماليا بتجريد العابر من العابر ليرصد (الميتا) فيه... من حدث محرك ينطلق السارد متوغلا في تلك الغابة التي تحدث عنها إيكو، غابة السرد بأدغالها التي تثير الرهبة وتثير الرغبة في مغامرة البحث عن فهم وعن تحديد وعن إدراك. ينطلق من حادثة سرعان ما تتحول إلى متاهة صراعات نفسية ترتد فتستحضر بقدر ما يختلط التذكر والتمثل... وبتمكن حبك شوار رواية منسوجة بما يحيل للأسطوري والنفسي والبوليسي، وبحبكة تنتمي لخيار شوار كروائي مسكون باستحضار الغرائبي لتفكيك شيفرات واقع مركب تحول إلى ما يتجاوز كل الغرائبيات. رواية شوار ترينا الوجود في المفقود والاستحضار في الغياب... الثقوب الزرقاء التي تبدو في الجثة، هي ثقوب ذاكرة تتشتت لتكتب بالشتات مدونة الضياع في مدينة تتكوم متورمة، تورما يتسرب فظاعة وتفسخا... رواية تخترق المشخص لتنسج بالمتخيّل حكاية الهامش التي غالبا ما تستهلك في أخبار الحوادث. وبتكثيف بليغ تمكن شوار من توليد نص نابض بما يثير ويبعث على قراءة توليد لدلالات تتناسل مع سرد يستحضر أحوال وتحولات أمكنة عرفت رعبا وفظاعة، واصطدم المارة فيها برؤوس مقطوعة... رأس الجثة الذي أثار محاورة عنها تعيدنا لقصيدة "راس بنادم" التراثية الشهيرة. في التداخل بين الواقعي والمتخيّل جدل الرواية كاشتغال جمالي يؤسس بشبكته الدلالية ومعماريته الانزياح الذي يصغ رؤية تتشابك وفي الحين ذاته تتمايّز مع رؤى تتضمنّها خطابات أخرى فالأدب كما يقول تودروف: "لا ينشأ في الفراغ، بل في حضن مجموع من الخطابات الحية التي يشاركها في خصائص عديدة". يحيل معجم الرواية وتيماتها إلى الرحم الذي حمل وأنجب الحكاية، إلى واقع ينحت منه الروائي نصه وينسج الشبكة الدلالية بحمولتها.. نقرأ في الرواية عن المجنون والمتشرد وعن البناية المهجورة، وعن الرأس المفصول عن الجسد، عن العنف الذي ينتجه عنفا أكبر، نقرأ عن الذاكرة المضطربة والمتشققة في محنة الشقوق والثقوب... وفي عنوان الرواية كعتبة للنص ما يختزل بتكثيف بليغ حمولة الرواية... الثقوب ثغرات التشتت والضياع، تشتت الذاكرة واختلاط المدركات بين الحقيقي والمزيف، بين الواقع والوهم .. والثقوب زرقاء، زرقة البقع التي ظهرت على وجه الجثة والموت بتلك الحالة في تخريج يحاول التأويل قد تعني حصاد التفسخ الذي أدرك مجتمعا والتهم مدينة كبيرة يتوارى في هوامشها وأقبيتها متشردون ينشدون المأوى المادي والمعنوي، ينشدون السكن والسكينة. الرأس التي تطارد الصحفي في أحلامه وتؤرقه هي رأس المحنة، محنة البحث عن تحقيق الحقيقة المنفلتة في خضم التضارب وذلك شأن التفاصيل التي تتأسس على حدث صغير ثم تتشعب فتحجب بتدفقها الحقيقي وتكثير الذي يشبه، ففي التفاصيل يسكن الشيطان كما يقول المثل. تفاصيل متداخلة، تداخلا يفارق ليطابق ويشتت ليلّم ويضم، تتداخل الشخصيات والأزمنة والمدركات وتتقاطع عند حضور الضياع في مدينة تزداد افتراسا وتوحشا ببشر يفقدون بشريتهم بالافتراس الذي هدهم وزرع فيهم جينات الشراسة كما يحدث في حكايات أفلام مصاصي الدماء. ورواية "ثقوب زرقاء" تمثل قراءة التحولات التي عرفناها بتجريد إبداعي تغذى من المشخص والمجسد لكنه انفلت فتحرر من التقريرية والمباشرة واخترق العابر ليعبر بالدوال نحو التموضع الذي يتسلل إلى دهاليز المكان والكيان... الرواية حكاية مكان أيضا.رواية عن المكان الذي تهندس بالخراب فافترسنا وشتت أبعاضنا فتأجج فينا البحث عن تحقق التبس بالمستحيل في متاهات زلزلت فاختلط الحقيقي بالمتوهم. هي رواية محققة لأدبيتها كنص يصغ بالانزياح ما يشحن باختراق العابر والتوهج بالحبث عن المتواري، وتلك خاصية الأدب كما عبّر تودروف: "لو ساءلت نفسي اليوم لماذا أحب الأدب، فالجواب الذي يتبادر عفويا إلى ذهني هو: لأنه يعينني على أن أحيا".