"أنشد الصياد..، وكان شاعرا عاشقا، رقيق القلب: لحبيبتي يا طير خذ أشواقي... فقاطعته أنثى طير توارت بين الأغصان في أعلى الشجرة: لعنة الله عليك.. ذاك حبيبي مذبوحا، ساخنا لا يزال معلقا في حذائك.." هناك جهود سردية تعلن عن نفسها بخجل وحذر لأنها تملك من القوة ما يجعلها قادرة على فرض حضورها الباذخ، رغم قصر تجربتها، ويمكن أن أعتبر في هذا السياق، ودون أدنى تردد، أن المجموعة القصصية الأولى لعبد الكريم ينينة، والموسومة: قليل من الماء لكي لا أمشي حافيا، من أهم ما قدمته الساحة الجزائرية في السنين الأخيرة، ذلك لأنها تمثل، من منظوري، صوتا سرديا متفردا في هذا النوع الأدبي الذي عرف كيف يدخل إليه مطمئنا إلى حد ما، ومربكا بفعل الأسئلة التي يطرحها باستمرار على نفسه وعلى النص واللغة والخيال وأفق الانتظار والوجود والفلسفة. لقد شحذ القاص تقنياته وخياله ووفر للمتلقي نصوصا فيها كثير من الجهد والذكاء، ومن المعرفة السردية كذلك، كما يتجلى في أغلب النصوص الواردة في المجموعة، وكما يحيل على ذلك العنوان نفسه كعتبة تضيء طبيعة اللاحق. إن الاشتغال على الموضوع بتقوية الجانب المفارق للمعيار المتواتر هو أحد هذه السمات البارزة التي تحيل على طريقة التعامل مع المتخيل، أي أن القاص، في نصوصه المتفاوتة فنيا ورؤيويا وبنائيا وتخييليا، يقوم بجهد يكاد يكون استثنائيا في فعل الانتقاء، ثم في صناعة الموقف المفارق، إذا جاز أن اعتبرناه صناعة أدبية لها مقوماتها، والحال أنه تبدو كذلك من حيث غرابتها الدالة التي لا يمكن اعتبارها مجرد بذخ عابر أو ترف ذهني ظرفي، أو تنميق عابث يهدف إلى خرق المنوال القائم من دون غاية وظيفية مقنعة. هناك، في واقع الأمر، وعي حقيقي بالخيارات والمقاصد، وبالجانب الساخر الذي يعد إحدى الأمارات البارزة التي وجب الانتباه إليها بالنظر إلى قوتها التأثيرية. هناك في هذه النصوص القصيرة جدا جهد مركب يحيل على تصوَر راق للقصة القصيرة جدا وهويتها السردية، دون الانقلاب الجذري العابث على أسسها ونموها الحلقي، إن نحن استعرنا مصطلح الناقد والمفكر تشيرنيشيفسكي. وقد تدخل هذه التجربة في باب تقوية الحلقية الخالدة التي تميز كل الاجتهادات الواعية بحقيقتها ووظيفتها الأدبية، وبطبيعة المرحلة والسياق اللذين يفرضان على الوعي السردي إعادة النظر في إمكاناته وممكناته التخييلية والشعرية والمعجمية في آن واحد، ليس عن طريق النقل واتباع الآخر، أو عن طريق المحاكاة والاستيراد الأفقي للتجربة الغيرية، إنما انطلاقا من قدرات الذات وكفاءتها. أتصوَر أن القاص عبد الكريم ينينة، وهو ينسج حكاياته المثيرة في صحراء الربَ، هناك في الجنوب الكبير حيث القيظ والرمل والمد والفراغ البهيج، كان يفكر مليَا في قدرات المعالجة الإملائية ومحدوديتها، أو عجزها، في حالات كثيرة، عن التعامل مع المحيط الخارجي الذي يفرض، بحكم صيرورته، أنماطا إبلاغية مؤهلة لنقله وفق منظورات مغايرة، وأكثر فاعلية، وتأسيسا على منظور خاص له مسوغاته وشخصيته من أجل أن يقرب من المتلقي الواقع الخارجي، أو الواقع النفسي على حدَ سواء. لذا يغدو اختيار عبد الكريم ينينة مبررا لانبنائه على توجه معلن منذ البداية: البحث عن الغريب والسحري والشاذ والصادم، وكل ما من شأنه أن يسهم في تخييب أفق الانتظار لدى القارئ الذي يتوقع انبناء النص على علاقات سببية، ومن ثم ظهور نهايات منطقية لها علاقة مباشرة بالمسارات السردية. هذه النصوص ليست كذلك لأن لها منطقها المقلوب مقارنة بالمنوال، وهو منطق، مهما كان الأمر، لكنه مربك وغير متوقع، ولا يطمح إلى الانضباط لتقديم مادته السردية وفق النموذج القائم، أو وفق النموذج المهيمن في الأعراف السردية. بيد أن الموضوع الغريب يغدو عنصرا من عناصر أخرى لا تقل غرابة وإثارة، من الشخصيات إلى المكان إلى الحوار إلى المناجاة إلى الصورة إلى اللغة. هناك ما يشبه حقلا من الألوان الباهرة التي تتجلى على أصعدة مختلفة، والظاهر أن الكاتب أفرد لهذه الجوانب جهدا خاصا بها، قبل الكتابة وأثناءها، أي أنه فكر فيها بتؤدة وروية كعناصر وجب إعادة النظر فيها، إن لم يجعلها موضوعا من موضوعاته، وإحدى الغايات من الفعل السردي برمته، كما يمكن أن نستنتج من النصوص قاطبة بفعل هذا الحضور الواضح لعدول جذري لا يمكن عدم معاينته من خلال القراءة الأولى. ويجب أن ننبه ها هنا إلى طبيعة المفارقة المذهلة التي تعكس بعض السخرية الحزينة التي لها مذاق الراهن وسرياليته وعبثيته ولا جدواه، سخرية لها شخصيتها التي قد لا نعثر على شبه لها في تجارب أخرى لأنها خاصة بالكاتب واستراتيجياته الحكائية. كما تبدو لغة القاص، بفعل تنوَع الحقول المعجمية المؤثثة، المستقاة من مرجعيات مكرسة ومتعددة، لغة تمَ الاشتغال عليها وعلى دلالاتها الوضعية والاستثمارية، ذلك لأن التنقيب لا يتعلق باللفظة القاموسية فحسب، أو باللفظة والتداول النقلي، بل باللفظة وممكناتها الجديدة، أو بسياقها الراهن، كما يراه الكاتب، وكما يريده أن يكون، امتدادا للموروث وتجاوزا له، دون الإساءة إلى مقوَماته، كما قد يحدث في بعض الكتابة التجريبية التي تبني على خرق فظ لا يبين لأنه لا يتمثل المنجز عندما يريد تجاوزه بممارسة غير مؤهلة لتجاوزه من حيث إنها أقل شأنا منه. ليس من باب الصدفة أن تغترف هذه المجموعة القصصية من العوالم المعجمية والتصويرية للقصيدة، الحديثة منها والقديمة، ولأن القاص شاعر ومسرحي فقد قام بحفريات مميزة تؤهله لأن يكون أحد الأسماء التي بمقدورها أن ترسم خارطة جديدة للقصة القصيرة جدا، تخييلا ولغة. تخييلا لأنه يبذل جهدا اعتباريا مهمَا، ولغة لأنه يقوم بحفريات ليس من السهل العثور عليها بسهولة في كثير من الكتابات الجديدة، وهو إذ يفعل ذلك، فإنه يفعله بمعرفة لإدراكه بأن العلامة اللغوية كالنبتة التي تحتاج إلى عناية خاصة لتكتسب لونا ومعنى. هناك في هذه التجربة المتميزة، من منظورنا، إحالات معجمية غاية في الأهمية على مجموعة من النصوص المتفاوتة زمانيا وفكريا وفنيا وجماليا، وعلى نصوص جامعة ومؤسسة يمكن للقارئ الكشف عنها من خلال تأمل المعجم الذي أسس عليه الكاتب باحترافية، ولو كان ذلك ببعض التحويرات التي مردها شكل الاستثمار ولميَته ومقاصده التي تختلف، في عدة سياقات، مع النص القاعدي، أو مع النص المرجعي الذي تمَ الاعتماد عليه، سواء من حيث اللفظ أو من حيث المعنى، لا لنقله أو لحفظه، بل لتثويره وفق الحاجة، ومن أجل تداول مفارق للنموذج المكرَس. يقول الروائي الجزائري الحبيب السائح في أحد مقالاته معلقا على المجموعة القصصية: "لعل عبد الكريم ينينة، بتجريبه في هذا النوع، يكون يضع يده الآن على مخزون ثمين قد يعرف إعادة انتشار جديد، بصياغة متطورة... وبما أن ما يميز القصة القصيرة جدا، قوة الاستعارة وبهر المفارقة، فإني أجد عبد الكريم ينينة يملك يدا فيها. فهو، لذلك، مؤهل لأن يكون أبرز كتابها المعاصرين في الجزائر". المؤكد أن هذا القاص لا يريد المزاح من وراء كتاباته الملحة على الاختلاف، لا يكتب من أجل أن يسجل اسمه في قائمة الكتَاب الملمَعة، مختزلا المسافات والحلقات التي يجب المرور بها، ولا يقصد السخرية لذاتها كتوجه قد يفقد ألقه إن لم يستثمر بالكيفية اللازمة. إنَما يكتب ويبني عوالمه بأناقة لأنه يملك قدرة كبيرة على أن يكون حاضرا، بتمرس وبجهد معتبرين، ثم إنَ سخريته المسؤولة هي نوع آخر من القوة والبديهة اللتين تنمان عن نباهة، وشكل من أشكال التعامل مع حياة قد لا تحتاج دائما إلى الجمل المنضبطة كالفرق العسكرية الذاهبة إلى حرب وشيكة. قد تحتاج الموضوعات والخطابات إلى عين أخرى، إلى نوادر وظيفية، وإلى هذه السخرية المفيدة، مقارنة ببعض الواقعية التصويرية، أو بالواقعية الفظة التي تقف أحيانا عاجزة عن التعامل مع واقع سريالي يتجاوز قدراتها. كما أتصوَر أن القاص يعالج مسائل جادة بناء على خطابات مقلوبة أحيانا، وبأسلوب مقلوب، أو برؤية ساخرة وفعالة ومضادة قد تكون أكثر جدوى من حيث قيمة الوظيفية التي يمكن أن تؤديها في سياقات عينية. إن الأساليب الوقورة قد تعجز أمام حالات يستعصى نقلها بجدية، ولذا يغدو العبث شكلا من أشكال تقوية المعنى، وذاك ما فعله عبد الكريم ينينة منذ تجاربه الأولى التي تأخرت عن الظهور لتردده المستمر وعدم اقتناعه بضرورة نشرها، مع أنها ذات قيمة اعتبارية كبيرة على عدة أصعدة. وها هي مجموعة قليل من الماء لكي لا أمشي حافيا تشرق من جنوب البلد مثل أقواس قزح، ومثل عناقيد الاستعارة الحية التي تحدث عنها بول ريكور قبل سنين. إنها مجموعة تستحق الاهتمام بها جديا لقدراتها التعبيرية المتقدمة واجتهادها المؤكد نصيا، وهي، فوق ذلك، إضافة حقيقية للنص القصصي لأنها مجتهدة فوق العادة، ورغم ما يبدو عليها من سخرية فهي ملتزمة جدا بقضايا اجتماعية وإنسانية، لكنها اختارت طريقتها المغايرة، وهي طريقة، بدورها، لافتة ومثيرة لأنها ليست يسيرة، وليست في المتناول من حيث صعوبتها.هنيئا للكتابة الجزائرية بهذا الجهد، وبهذه الإضافة النوعية، وهنيئا للرمل الذي عرف ميلاد هذا العمل القادم من مدينة أدرار وفيافيها المبجلة، وهنيئا للحرف بهذا العمل الذي يشرف ممالك العلامة واللغة والسرد والقصة بشكل عام. السعيد بوطاجين