كثيرا ما تحرص الشعوب والأمم العريقة على التمسك برموزها الوطنية جاعلة منها القدوة والنموذج المحتذى لتقديس ثوابتها وتوريثها وتوارثها بين الأجيال المتلاحقة. تلك العملية البشرية التفاعلية التي تدخل في إطار تاريخ تواصل الحضارات وتوارث السلف لتجارب الخلف المادية والوجدانية والمعناوية كاللغة والأدب والفن والفكر والسياسة والعمران والاقتصاد وغيرها من الموروثات المادية وغير المادية كالرموز والإشارات والحرف اليدوية والرسومات الصخرية والأغاني والمدائح الروحية، وكل ما يرمز لمختلف المناحي الحضارية المدعمة لترسيخ مجد الهوية التاريخية لمسار الإنسان وتعايشه مع ثقافات الشعوب الأخرى. بناء على المرجعية التراثية الأصيلة، ذلك العالم الذي حدد مجالاته علماء الآثار والتاريخ واللغة في مصطلح وكلمة (التراث) المنحصر في كل ما ينقل ويتداول بين البشر من قيم فكرية وثقافية مادية وغير مادية مدونة وشفاهية، كما أنه علم له قواعد ومناهج وتخصصات كالتراث الطبيعي والتراث الإنساني المكتوب منه والمسموع والمخطوط والمرسوم وكل ما تركه السلف للخلف من ملكات فكرية ومهارات عظلية وإبداعات عملية. ذلك التراث الذي عرف فيه الإنسان العديد من التطورات منذ عصر ما قبل التاريخ الحجري وما توالته من توارثات أخذ على إثرها أقسام كالتراث (الشفهي.. المنقول.. المبني.. الآثاري..) وأشكال كالتراث (الفاعل.. الخامل.. القاتل..)، بحيث يقصد بكل شكل ونوع مجال للدراسة والبحث والتفعيل والتثمين والتعريف محليا وإقليميا وعالميا باعتبار التراث ملك وعائد ثقافي هام للإنسانية، التي توليه أهمية معرفية ضرورية خاصة وأنه يتعلق بتاريخ محيط بيئتها الحضارية الماضية التي على قواعدها تبنى النهضة الحضارية المستقبلية القائمة على الصناعة الثقافية والصناعة الفكرية ومواد تركيب الإنسان، التي فرضتها الصراعات والخلافات بين الأفراد والجماعات في البيئة البشرية التي زاد فوارقها التطور التكنولوجي بتحويل العالم إلى قرية إعلامية وحلبة لصراع الثقافات وتصادم الحضارات وتناطح الأفكار، وكل ما رافق الخوالي من القرون الثلاث (19م.. 21م) وما عرفته فضاءاتها الممتدة من صراع القوميات والأقليات العرقية وتصادم الأيديولوجيات السياسية والدينية وحروب الأنظمة المعرفية والفكرية والثقافية التي سيكون فضاء الألفية الثالثة ميدانا تتداحس فيه المعارف وتشتد فيه النزاعات الثقافية وتتطاحن بداخله الأفكار، وتحرق في أفران المركبات الصناعية للقطبية القافية الواحدة المستهلكة للمواد الأولية المصنعة بمختلف الورشات الفكرية. تلك المفاهيم والمصطلحات (الصناعة الثقافية والفكرية) التي يعود تاريخ توظيفها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية (1939.م.1944..) من القرن الماضي، دفعت بالنخب المثقفة والمفكرة بالعمل على إغراق السوق وملء العقول بالبحوث والمؤلفات والدراسات الخاصة بالثقافة الجماهيرية ومنتجات الجمعيات والمنظمات الفاعلة والناشطة في الحقل الثقافي الموجه والمطابق إلى ما توصل إليه رواد المدرسة الفرانكفورثية الألمانية الباحثان (تيودور ادورنو..و..ماكس دوركايمر) في كتابهما (جدلية الفكر التنويري..1944م) تماشيا ونتاج العديد من مخابر ومراكز صناعة الفكر والرأي العام، توازيا مع كل ما ينجز ويقدم من تقارير ميدانية وبيانات وأرقام وتحاليل خاصة بمختلف الظواهر الاجتماعية والمؤشرات الاقتصادية والتوجهات السياسية وكل ما يساعد على اتخاذ القرار الصائب والمساعد للهيمنة على الشعوب المستضعفة المتواجدة بفضاء العالم الخارجي. الصناعات الثقافية تعني الصناعة الثقافية، حسب ما تضمنته اتفاقية حماية وتعزيز وتنوع أشكال التعبير الثقافي المعتمد لدى منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم.. اليونسكو.. (الصناعات التي تنتج وتوزع النتاج والخدمات الثقافية التي تبين أوجه استعمالها أو غايتها المحددة، وتجسيد أو نقل أشكال للسير الثقافي لصرف النظر عن قيمتها التجارية.. كما تكون المنتجات الثقافية حاملة للهوية والقيم والدلالات، وفي الوقت نفسه تكون عاملا اجتماعيا واقتصاديا، كما تقتضي صون التنوع الثقافي وتعزيزه وتشجيعه للقيام بصناعة ثقافية مدعمة بوسائل إثبات للذات على المستوي المحلي والعالمي)، يدخل في ذلك السياق الفنون المطبعية والانتاج السمعي البصري والمتعدد الوسائط والصناعات الموسيقية. ظاهرة الصناعة الثقافية التي مكنت مؤسسات الانتاج الثقافي للولايات المتحدةالأمريكية بالاستحواذ على (25 بالمائة) والصين على (23 بالمائة) من السوق الدولية. في حين أحرزت (الهند.. وجنوب إفريقيا.. وكولومبيا.. وفنزويلا.. والبرازيل.. واليابان.. ودول أمريكا اللاتنية) على ما يفوق (11 بالمائة) من الإيراد العالمي لصناعات العتاد والوسائط والآلات الموسيقية، التي مكنت الشركات العملاقة العابرة للقارات من اجتياح أسواق الأقطار المستقلة حديثا ودول العالم الثالث بالمنتجات الصناعية الثقافية بدرجة الامتياز ب (59 بالمائة) ومختلف الأنواع المصنعة والمقلدة، الأمر الذي دفع بالبعض منها إلى البحث عن وسائل الحماية والوقاية من القرصنة والتقليد والتشويه للمواد الثقافية الصناعية المحلية، باللجوء إلى المنظمة الأممية للتربية والثقافة والعلوم.. اليونسكو.. والمطالبة بتفعيل القانون الخاص بحرية تداول المنتجات الثقافية (اتفاق فلورانس) والمنظمة العالمية للملكية الفكرية.. ومنظمة العمل الدولية.. ومؤتمر الأممالمتحدة/ للتجارة والتنمية والصناعة.. والاتفاق العالمي للشراكة الجديدة من أجل التنمية في إفريقيا (نيباد) ومختلف الهيئات والمنظمات الإقليمية والجهوية.. وتلك الخاصة بالتعاون الثلاثي الأبعاد (جنوب.. شمال.. جنوب) والعمل على إحداث أسواق دولية وإنشاء شركات متجانسة قطاعية عامة وخاصة مدعمة لورشات المجتمع المدني وغيرها من الهيئات الفاعلة في مجالات الصناعات الثقافية من أجل رسم مخططات سياسية ثقافية ناجحة وناجعة وعادلة وفق التحالف العالمي للتنوع الثقافي، الذي يعد من أهم الأنماط الفعالة لتنفيذ برنامج.. اليونسكو.. في مجالات دعم الصناعات الثقافية (طباعة الكتب.. صناعة السنما.. الصناعة التقليدية.. الحرف.. الفنون.. المنتجات الموسيقية.. الوسائط المتعددة). الصناعات الفكرية تعني الصناعة الفكرية تلك العملية الخاصة بحشو مخ الإنسان بأفكار وأيديولوجيات تبعده تدريجيا عن فطرته والميل نحو تكوين خلية فكرية جديدة تفرز الحيلة والمكر والخيانة، التي تنادي بها الفئة المستهدفة من الرجال والنساء والكبار والصغار وكل الأصناف المشتركة في الجنس والطائفة والمذهب والأيديولوجية الدينية والسياسية وكل ما يجمعهم في نشاط واحد ومصلحة واحدة تخضع أفكارها للتدوير والتداول بين أصحاب مؤسسات صناعة الأفكار. بحيث يكون ذلك المنتوج الفكري المصنع (عملية إسقاطية) خاضع لمعايير المنافسة والمطابقة لمقاييس المجموعات المتحكمة (ممولين.. مروجين.. مسوقين.. مبرمجين...) وحرصه الدائم على صناعة فكر مغاير ومتطور مناهض ومناقض، شديد الانفعال سريع الانفجار ضد كل مخالف أو منافس لصناعة الفكر المخالف، الذي يتطلب الصراع الدائم بين المنتجين ليس بهدف الغلبة والاستقواء وإنما للهيمنة الأيديولوجية السياسية والمذهبية وتأمين التطورات المستحدثة التي تساعد على كثرة الممولين والمسوقين والصناع الأقوياء المتمكنين من التحكم في أوضاع الأمم بالزيادة في تفاقم الأزمات الفكرية التي لا تعترف بالهوية والتاريخ والوطن والتحضر والرقي. ويعود تاريخ المؤسسات الخاصة بصناعة الفكر وقياس الرأي وظهورها بعد الحرب العالمية الثانية بالولايات المتحدةالأمريكية وأوروبا الغربية واليابان والدول التي اتخذت من الديمقراطية منهجا والحرية مبدأ إلى أن صارت مطلب غالبية الشعوب والدول الباحثة عن التطور والنمو، حيث توجهت مؤسسات تلك الدول المستقوية نحو صناعة الفكر وتوظيفه في العديد من المجالات السياسية والإدارية ومجابهة التحديات الاقتصادية الطارئة التي قد تواجه مجتمعاتها مستقبلا. فسارعت إلى إنشاء مراكز ومؤسسات متخصصة في صناعة الفكر وقياس الرأي. إستقطبت النخب المفكرة متخذة من اجتهاداتهم وإبداعاتهم المعرفية ورؤاهم الاستشرافية الصائبة، الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والأيديولوجية والمذهبية، مرجعية لكل القرارات المفصلية، الإقليمية والدولية المبنية علي المعلومات والبيانات والمعطيات، التي يعتمدها صناع القرار والرأي والفكر خاصة ذلك الموجه لسكان القرية الإعلامية التي زادتها ثورة الاتصالات ووسائل ترابط المجتمعات والتواصل الاجتماعي إلى جانب تكاثر المنظمات الدولية العابرة للقارات وتموقعها المتزايد بالمراكز الفكرية والثقافية المتخصصة في توظيف الفكر وتوجيه الرأي واستعمال الضغط والتعقيد للعديد من المجالات العامة والعلاقات الدولية في إطار عالم العولمة والقطبية الواحدة المحتكرة لوسائل التطور المعرفي وصناعة الفكر والثقافة المحلية والإقليمية والجهوية والعمل على دفع الشعوب المستضعفة نحو المزيد من الاستهلاك المفرط لمنتجات الدول المستغولة والمهيمنة على مواد الثقافة والرأي والفكر وإرغام الإنسان المتحول من كائن وجودي طبيعي إلى كائن تمثلي ارتسامي. تحولت ذاته إلى صورة هيكل ركبت أجزاؤه بمراكز الدراسات الاستراتيجية ومختبرات البحث والتفكير جاعلة منه مادة إعلامية قابلة للتسويق واستهلاك المنتجات المصنعة فكريا وثقافيا. التشريع الثقافي الجزائري وتعزيز التراث العالمي ذلك المشهد الثقافي والفكري العالمي المهيمن، الذي كان له الأثر في تهجين الثقافات المحلية وتحويل الفكر عن بيئته وبعث الإنسان المصطنع، الذي تم تركيبه في ورشات البحث والتفكير، الذي لم تتمكن التشريعات الأممية والإقليمية من حمايته نظرا لانعدام أو غياب أو ضعف المنظومة التشريعية المحلية، التي تعتبر القاعدة الأساسية في تفعيل القوانين الدولية المشتركة، ذلك الاجتياح الذي كاد أن يبتلع ثقافات الأمم والشعوب المستضعفة، الذي دفع بالعديد منها أن تولي اهتماما كبيرا بالتشريعات المحلية المتعلقة بحماية تراثها وممتلكاتها الثقافية والفكرية قبل تبديدها وإتلافها في دوامة النظام العولمي الجارف، ذلك الغزو الثقافي الاستعماري غير المتوسطي الذي كانت له العديد من الانعكاسات على الثروة الفكرية والموروث الثقافي الجزائري العريق. (1830م 1962)، الذي غيب فيه الوجود الحضاري للأمة والهوية الوطنية، بل العباد والبلاد ردحا من الزمن إضافة إلى الأربعين حولا من استرجاع السيادة الوطنية (1962م 2002)، التي لم يكن فيها لقطاع الثقافة اسم يذكر أو عنوان يعرف إلا بحلول عام (1975م) تاريخ أحداثها لكن مدمجة في هيكل الإعلام (وزارة الإعلام والثقافة) طيلة ست سنوات، لتعرف هيكلة جديدة تحمل اسم.. (كتابة الدولة للثقافة والفنون الشعبية. عام 1981م) ونظرا للتباينات الفكرية والارتجاجات الثقافية واحتدام التوجهات السياسية (الاشتراكية.. الليبيرالية.. الامبريالية.. الرأسمالية.. الشيوعية.. الإسلامية..) أعيد إلحاقها بالإعلام (وزارة الإعلام والثقافة 1982 م) وليعود ظهورها بعد ثلاث سنوات لكن مرببة للسياحة (وزارة الثقافة والسياحة 1985م 1988) تاريخ بداية التوجه نحو ما عرف بالإصلاحات السياسية فحلحلت وقزمت على غرار القطاعات الاستراتيجية الهامة فحولت إلى ( المجلس الوطني للثقافة 1990م) ونظرا لتداخل الصلاحيات بين المجالس المستحدثة التي جاءت بها الإصلاحات الجديدة المزعومة (المجلس الأعلى للإعلام.. المجلس الوطني للثقافة.. المجلس الوطني للسمعي البصري 1990) أعيد إدماجها مع الاتصال وسميت (وزرارة الاتصال والثقافة 1991م). شهور قلائل ويتم الفصل بين الوزارتين وتكون (وزارة الثقافة 1991م) ومع بوادر انهيار الإصلاحات وتفاقم الأزمات المأساوية (العشرية السوداء) يعاد إلحاقها بوزارة الاتصال لتصبح (وزارة الثقافة والاتصال 1992م)، ولم تتم حولين كاملين وتنفطم عن الاتصال لتظهر بهيكلة مستقلة (وزارة الثقافة 1994م). إحتدام الأيديولوجيات السياسية والمذهبية المعتدلة واليسارية والمتطرفة في ظل الانفلات المعرفي لم تكتمل عهدة الانفصال ليعاد اعتدال الوزارتين إلى (وزارة الاتصال والثقافة 1996م إلى 2005م) نهاية عهد تلوح فيه حينا وتخفي منه أخرى، ساعد على إفلات قطاع الثقافة من التغول الإعلامي والسياحي والتدرج النسبي نحو التخطيط الفعال ورسم برامج قطاعية ومواضعية ثقافية شاملة انطلاقا من فضاء الاسقرار السياسي والإداري والتنظيم الهيكلي الملائم، لإنجاز العديد من النصوص التشريعية الأساسية المتعلقة بمختلف المناحي الثقافية والتراثية والفنية (قوانين.. مراسيم رئاسية.. مراسيم تنفيذية.. قرارات وزارية مشتركة.. قرارات وزارية.. منشورات.. تعليمات..) بلغ عددها من (2002م إلى 5 / 05 / 2014م) ما يقارب السبعمائة (700) نص قانوني خاص بالمنظومة الثقافية ساعدت على تفعيل المؤسسات الحكومية والهيئات العمومية للمساهمة في حماية الموروثات والممتلكات الثقافية الجزائرية (العدل، الأمن، الجمارك، الولاية، الدائرة، البلدية، المجتمع المدني..)، كما ساعد عامل الاستقرار والترسانة القانونية توسيع دائرة البحوث والدراسات، خاصة تلك المتعلقة بالجرد والإحصاء والحماية والتصنيف للمواقع الأثرية والحظائر الطبيعية والمعالم والأماكن للحضارات المتعاقبة (الفينيقية.. النوميدية البربرية.. الرومانية.. الوندالية البزنطية.. العربية الإسلامية.. الإسبانية والفرنسية)، ذلك الموروث التراثي الثقافي العريق الذي جعل من الجزائر أحد البلدان المميزة التي أثرت الحضيرة الأممية للتراث العالمي المادي وغير المادي. (إهليل قورارة.. الشدة التلمسانية.. الامزاد.. ركب أولاد سيد الشيخ)، إلى جانب المدن العتيقة (تيمقاد.. تيبازة.. جميلة.. القصبة.. وادي ميزاب.. قلعة بني حماد)، ذلك الرصيد الثري الثمين الذي اعتمدته منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم.. اليونسكو.. بالإقدام على الموافقة بتأسيس مركز حفظ التراث الإفريقي اللامادي بالجزائر2014م من أجل التكفل بالدراسة والبحث والحماية والتثمين والتعريف بالتراث الإفريقي الشامل خاصة اللامادي وذلك المتعلق بالمهارات والأدوات والآلات وكل المؤثرات والتعبيرات المعرفية للثقافة الإفريقية.