أصعب ما يمكن أن يحدث لك، هو أن تنهض ذات صباح فلا تعثر على وجهك في المرآة، تضيع ملامحك كما يضيع منك حلم.. تحني ظهرك، تمدّ يدك للصنبور، تفتحه فيتقاطر مداد أسود يغرقك كورقة تطايرت من كراس قديم.. تلتحف جسدك المتهالك، تنتعل حذاء فاغرا فاه، وتغادر دون أن تحتسي قهوتك الصباحية، فقد تجرّعت مرارة صفحة جريدة بعنوان كاسر للعظم... لم تنس أن تَصْفق باب شقتك لينوب اهتزاز الجدران عن اهتزاز كان يمكن أن يصيب الأرض... تخترق الشارع الموبوء بالصراخ والضجيج.. تحاول عبثا أن تقنع نفسك بأنّ الحفر في الطريق لا تعني النوايا السيئة للبلدية، ما يحدث أقوى منها، المدينة ابتليت بمرض جلدي أصاب طرقاتها ولا يصلح الإسفلت ما أفسدته البثور (الحفر).. المرض مزمن تدرك ذلك بحاستك السابعة التي نبتت في أحد أصابع قدمك وصارت بوصلتك التي تحرّكك نحو الأماكن.. وحدها الأصابع لها قدرة امتلاك حاسة سابعة غير اللمس أقوى من السادسة.. بطبيعة الحال لا بدّ أن تجد أجسادا أخرى تمارس القهر على جسدك بالتدافع، في الطريق وفي الحافلة وفي الطابور، هذا التدافع فهمت بعد عمر بأنّه ضروري لإشعال شرارة الإنسان فيك وإلا كنت عصفورا طليقا يحلّق عاليا في الفضاء.. الأجساد التي لا يمارس عليها هذا النوع من القهر مترفة لا تصلح لأن تنزل إلى الشارع وتجوب الأسواق.. لا تصلح للحياة، هكذا تعلّمتَ بفعل الممارسة.. ورغم هذا التدافع أدركت بأنّه عليك أن تستميت في الدفاع عن رأيك وليذهب الآخرون إلى الجحيم، فأنت تؤمن بمقولة: دير عشرة وأقرص... مقولة لطالما فتحت رأسك على سؤال: كم نفدنا من جريمة قتل لم تخلّف جثة مرئية ونحن نجمع الرصاصات العشر ونصوب طلقاتنا نحو الفكرة، نحو الروح، نحو الفرح، نحو عصافير الحديقة وفراشات الربيع.؟... كم رصاصة أطلقنا وكم جريمة ارتكبنا؟ «دير عشرة واقرص". فصدرك عار يتلقى وابل الطلقات وثغرك باسم، الطلقات موزعة على أيامك مذ وعيت وتكلس حلقك بفعل العطش... «ما كان والو" حجرة أخرى تتعثّر فيها خطواتك، تؤلم كلّ شيء فيك، حتى حاستك السابعة تلك الطارئة عليك أصبحتْ تدرك بأنّه "ما كان والو" وأنّهم سيُتَفهون جهدك، وسيلقون بعصارة فكرك في مجاري المياه القذرة، وعلى سطح المستنقع تطفو الضفادع تسخر من فراغك وامتلاء حذائك بالأتربة.. ستلتف الزواحف حول خبزك، تبتلع قطع السكر التي تولّدت عن حبّات العرق المنزلقة من مسامات جلدك... مفرغ أنت يا صديقي من الحقيقة، وحده الكذب يعرف كيف يغرز مساميره عميقا في جدران يومك، تحجب عنك الشمس، وتطيل عمر الجرح الباذخ.. تمدّ في طول السور الشاهق من حولك، وفي أسفله تتربّص بك الجرذان في الشقوق والجحور... تمضي مفرغا يا صديقي من كل شيء، من قوت يومك، من أحلامك، من حبيبتك التي أُفرغت من حبّك، واستعادت أصابعها من جيبك المنهك.. ولم تبق لك شيئا من عطرها ولا خصلة من شعرها... تمضي ولا تبالي ... تلتقط بعض ما تدحرج من رواق أَمْسك تدسه بين دفتي كتاب لن يقرأه أحد... تمضي في الشارع المرهق بقمامات تثقل معدة الرصيف وتصيب أنف النفق بالزكام وحاستك السابعة القابعة في أصبع قدمك تسحبك من محطّة لأخرى.. تتوالى المقاهي على جانبي الطريق مكتظة بالبشر.. هنا الفراغ ينسج عنكبوته ويعصره قهوة تغري بازدحام الفناجين لنرمي فيها ما تبقى من وقت لدينا وننتهي... تهيم على وجهك في دروب وعرة لا تؤدي إلى مكتب عملك، أخطأت الطريق يا صديقي، صحيح أن وجهنا حين تضيع منه ملامحه يُسقط منّا الذاكرة.