المأساة والمعاناة هي الأصل في هذا الوجود، أما الفرح والسعادة فشيء عارض وعابر، وعلى الإنسان أن ينطلق من نفسه لإثبات هذه القاعدة بالصواب أوالخطأ، وحتى ندعم هذه القاعدة أكثر نعود إلى بدايات رحلة الإنسان في هذا الوجود، وقصته في الكتب المقدسة، حيث تتفق جميعها على أن آدم وحواء عليهما السلام طُردا من حياة النعيم والسعادة في الجنة، بسبب مخالفتهما لأوامر الله سبحانه وتعالى، والمخالفة كما هو معروف تستوجب العقوبة، وقد كانت العقوبة طردهما من الجنة، وقذفهما إلى رحلة العذاب والشقاء في الأرض. يصور القرآن الكريم هذه اللحظة تصويرا دراماتيكيا، يمتزج فيها اللوم والعتاب بالشفقة والعطف، حيث لم يأت الطرد مباشرة، أي اخرجوا من جنتي ونعيمي، بل جاء بعد تذكيرهما بالأمر الأول، وخاطبهما بأنكما خالفتما هذا الأمر، مما يستدعي إنزال العقوبة الإلهية بكما، والعقوبة تتمثل في الطرد من الجنة ونعيمها الأبدي إلى حياة الأرض وقسوتها، يقول الله تعالى: "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كان فيه، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين". ولأن الإنسان كائن مركب من جزئين اثنين، جزء رباني متمثل في الروح، وجزء أرضي متمثل في الطين، يتطلع الأول إلى العلو والسمو، ويحاول الثاني أن يشبع رغبات الجسد ومتطلباته، من هذه الثنائية التركيبية يتولد الصراع، ومن هذه الهشاشة التكوينية تتولد الشقاوة والسعادة، وبما أننا نعيش في العالم الأرضي تكون الغلبة للجزء المادي الذي يصبو كما أشرنا إلى الإشباع من الرغبات والأهواء الجسدية، من المتع الجنسية وحب التملك والتسلط. كما أن رائد التحليل النفسي "سيجموند فرويد " لديه تفسير يتفق مع ما ذهبنا إليه سابقا، حيث يرى بأن الطفل يعيش حالة السكون في بطن أمه حيث الطمأنينة والسكينة، وبمجرد حدوث "صدمة الانفصال أو الميلاد" تبدأ رحلة العذاب والشقاء في العالم الخارجي الجديد. ويفسر "أوتو رانك" صدمة الميلاد على أنها صدمة نفسية رهيبة في بداية حياة الفرد، لأن الانفصال بالميلاد، أي انفصال الجنين الذي كان داخل الرحم جزء من الأم يعيش في سعادة أساسية. ويكون الميلاد بمثابة عملية طرد وانفصال، وهذه أقصى خبرة يجتازها الإنسان، ويخشى الفرد أن تتكرر عملية انفصال أخرى في مستقبل حياته، ويعتبر الميلاد على هذا (القلق الأولي) الذي يطمس حالة (السرور الأولى) في مرحلة ما قبل الميلاد. لحظة الطرد الأولى هي لحظة الانفصال الأولى، فإذا كانت اللحظة الأولى طمست حياة السرور الأولى، فإن الثانية قد طمست حالة السرور الأولى، وإذا كانت الأولى اقتضتها مخالفة الأوامر الربانية، فإن الثانية تقتضيها الطبيعة البشرية. لذلك ذهب الفيلسوف الألماني "مارتن هايدغر" إلى أن الفرد يتم قذفه إلى عالم ليس مستعدا لاستقباله بالقدر ذاته، الذي يكون فيه الفرد غير مهيأ للعيش فيه. بين لحظة الميلاد (الحركة) وما قبلها (السكون) ينشأ الصراع بين إرادة الفرح وغريزة الموت، في هذا الشأن يقول المفكر السوري "مطاع الصفدي": "إن فرويد قد حدد صراع العضوية الحية بين إيروس (إرادة الفرح) وغريزة الموت، ذلك أن غريزة الموت هي الميل نحو السكون، والسكون لا يتحقق إلا في الارتواء، والارتواء عابر ومؤقت". وبما أن الارتواء مؤقت وعابر، فكذلك الفرح في حياة الإنسان، فقد يفرح الإنسان منا عندما يحقق هدفا أو نجاحا ما، ولكن تلك الفرحة لا تستمر إلا لحظات معدودات، لتبدأ بعد ذلك رحلة الألم والبحث عن المفقود، لأن من طبيعة الإنسان النّهم والعمل على تحقيق الاعتراف. قد يرى البعض ممن حققوا طموحهم، ووصلوا إلى القمة بأن المتعة الحقيقية في هذه الحياة تكمن في ذلك الألم الذي صاحب الرحلة الطويلة والشاقة، ذلك أنك عندما تصل إلى الهدف تجد كل شيء لا قيمة له ومملا في الآن نفسه، وفي ذلك يقول الروائي الكولومبي الكبير "غابرييل غارسيا ماركيز" في وصيته الأخيرة مخاطبا محبيه وقرائه: "تعلمت منكم الكثير أيها البشر.. تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلقه". حتى أغنى أغنياء العالم تجده حزينا يتألم داخليا، وما تلك الضحكات والابتسامات إلا لإخفاء معاناة الروح وحزنها، والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا كل هذا؟ لأن السعادة في هذا الوجود ليست مكتملة، والإنسان في الغالب يتجه نحو تلبية رغبات الجسد ومتطلباته فقط، أما الغذاء الروحي فقلما يهتم به، ويقتفي طرقه وسبله، وخاصة في هذا الزمن الصّعب، لذلك تجده - أي الإنسان - مهموما مغموما، يعطي المستقبل جل تفكيره، ويترك لحظته الآنية فريسة للحزن والتأسف على ما فات، فلا يعيش حاضره، ولا يبني مستقبله، لأن المستقبل سيكون صورة أخرى للحاضر. هذه القاعدة كما أنها تسري على الأفراد، فهي تسري أيضا على الجماعات، فالجماعة العالمية التائقة إلى عالم يسوده السلام والأمن والعدل بين البشر، تئن تحت وطأة الحروب والفقر والأمراض والمجاعات والأوبئة الفتاكة.. وتعيش لحظات الألم والمأساة أكثر بكثير من حياة الجذل والمسرات. ليس معنى هذا الكلام هو الركون في أحضان الظلم، والرضا بحياة الفقر، بل هو توصيف للحال كما هي، وعلى الإنسان أن يجد ويجتهد من أجل التخفيف من حياة المعاناة، ويقلل من ساعات المأساة، ويقتطع للجذل دقائق من ساعات الألم، وللفرح أياما من سنين الشقاء.