المقبرة هي مكان للحب الممزق والقلوب المحطمة... غويندولين بينيت (1981 1902 -) يعتبر من الشعراء القلائل الذين لا يمكن الحكم عليهم بعدد الدواوين التي كتبوها. سي موحند أومحند، حياته وحدها كافية لتكون قصيدة شعرية عارمة تفي عنه هم الأوقات العصيبة التي عاشها وتؤسس فهمنا لتفاعلات ذاته الشاعرة الموهوبة في صخب الواقع الذي كان بالنسبة إليه مصدر ألم وفجيعة، لكنه عرف كيف يصوغ فواجعه شعرا وقواف علقها تميمة في وجه الزمن الخائن. كان سي موحند أومحند حسّاس للوقت المعيش، فقيه الأزمنة الرديئة، كان القدر قاده إلى حياة مرة إكتوى بنارها في وقت بدأت فرنسا حملتها الشعواء لطمس النظام الاجتماعي الجزائري وتمرير رسالة الاستعمار بكل تفاصيله المريبة هنا تنبه الشاعر بفطرة المتأصل إلى الممارسات الخطيرة للمستعمر وفهم غاياته، بيد أنه استشعر التغييرات التي أخذت تزحف ببطء مدروس وتطبع يوميات الإنسان الجزائري فصاح ذات يوم بكل قواه: أن احذروا... لكن ما عسى أن تفعله حنجرة غارقة في الماريخوانا والحشيش والخمرة بشعب أنهكه الجوع والتشرد، ففي غمضة طرف رأى الشاعر قريته الوديعة ''إشرعيون'' تتهدم تحت ضربات مدافع الهاون التي جاء بها الجنرال راندون ليغتصب حرمتها. بعد سنوات من بناء الجنرال محتشده على مشارف القرية المغتصبة، أعلن البطل المقراني المقاوم ثورته العارمة على الوجود الفرنسي خلال سنة 1871 فخاضتها عائلة موحند بكامل أفرادها، حيث نفّذ في والد الشاعر حكما بالإعدام، ونفي عمه إلى أراضي كاليدونيا القصيّة. أما شقيقه ففر إلى تونس وفضّل الاستقرار فيها. أما سي موحند فكان قاب قوسين أو أدنى من الموت لولا أن شفع فيه أحد الضباط الفرنسيين وأخلي سبيله في آخر لحظة ليجد نفسه وحيدا مشردا بلا عائلة. عندما ولد سي موحند أومحند لم تكن سجلات الحالة المدنية اعتمدت بعد في الجزائر المستعمرة وظلت سنة ميلاده مجهولة، بينما يفترض أنه ولد خلال سنة 1850 حسب شهادة بعض أصدقائه، أما سنة وفاته فكانت خلال سنة .1906 ما تركه لنا سي موحند أومحند من قصائد تلخّص استحضارا لحياة حزينة عرف خلالها الرجل التشرد واستطعم الأمل والوحدة، فقصائده شارات ساطعة بحق، تبغي التحاور مع الذات في أعمق نقطة منها بكل ما تحمله من تناقضات الحياة والموت، الحب والكراهية، السعادة والشقاء.. حياة الرجل بدأت بالحب، عرف فيها المرأة عن كثب ثم شيئا فشيئا صاغهما في آتون قداسته: ''القصيدة'' تماما كما فعل ''طاغور'' في أولى خطواته نحو العبقرية : ''هنا في الفضاء الفسيح، حيث تنتشر السحب القائمة، هنا بنيت لك منزلا يا ربة الشعر''. أما سي موحند فصدح قائلا: ''هذه قصيدتي، أطلب من الله أن تكون جميلة وأن تصدح في الآفاق ويسجلها كل بصير بمعانيها. أطلب من الله أن ينزل رحمته فوحده منقذنا''. تتميز أشعار سي موحند أومحند بحسّها التلقائي وتدرجها في صنع الحالة النفسية لدى المتلقي في معادلة صعبة، تبدأ بحالة النشوة والغبطة وتفاجئنا في النهاية بفجيعة ومرارة، هذه الحالة السبلينية تتكرر بشكل مقصود، وهذا التدمير الذاتي لنسق بديع يحدث الطلسمية والذهول في أعماق المتلقي الذي يتشرد ويتيه ثم يحتار بين أن يرتضي الجنة أو يدخل النار، لكنه يضطر في النهاية إلى قبول النتيجة كما هي، مؤلمة وحارقة لما آلت إليه الأحداث بدءا من السعادة وانتهاء إلى الألم. ''آسفرا'' هي سفر دؤوب إلى مواطن الفجيعة أو قل إنها خلاصة الجوع والبكاء.. أو ربما ذاكرة لتفجير المستوحش، هي صياغة مهذبة للتمرد والقطيعة على شاكلة ذلك التروبادور الجوّال الهائم دوما على وجهه ينشر على طول تهوامه، غربته، منفاه، مواويل ضياعه حتى كادت أن تتحول قصائده إلى نبوءات يعلقها كل مريد على صدره كتعويذة في وجه الزمن المرّ، كما كان يفعل الشاعر في تسياره بين مسقط رأسه ''إشرعيون الجزائرعنابةسكيكدةالبليدة وحتى تونس'' وهو غارق في كل أنواع المسكرات والحب، بيد أنه كان يكفّر عن خطاياه بقرض الشعر، مزيدا من الشعر ولا شيء غير الشعر ولسان حاله يقول: ''لا يمكن لأحد أن يحرم هذه القلوب من الحب، فلكل إنسان أوجاعه''، وأحيانا أخرى يلجأ الشاعر إلى ربه بالصلاة والدعاء ''أنت يا الهي ترى كل شيء، تعرف من يعاني الشقاء. إني أنتظر عونك''. مختارات مترجمة من / آسفرا - ASEFRA لا يمكن لأي كان أن يتكهن بما في القلوب من حب يملأها وكم من العذاب تقاسيه يحب الواحد منا بكل ما أوتي من كمال يصير ذلك المحبوب الذي لا يفترق عن محبوبه مهما صار بالنسبة للبعض هي معاناة وتوق إلى المستحيل وحده الله يعلم كم يتعذب غصة ما في القلب لا تفتأ وتفيض العيون بالدمع لأجل من قاسى اعترافاتي تهز كيان الجبال وفي كل مرة تحيى جراحي فالحب غدا لي هواية أنا ضحية لعنة ما لست محظوظا وصرت أتمنى الخلاص حديقتي من فوق ربوة ممرها مزدان بالورود وأشجار من مشمش ورمان حولها يحيط سياج متين محمية وغاية في السكينة ورحت لله كصقر مهيض وحده كان غصن عقيم ليس به ثمر ولا هم يحزنون فجأة تصور لي في هيئة رجل حقير كان بستاني كل ما تمنيته في الحياة كل ما تهواها روحي من ورود وأشجار بهيجة وعرائش كروم قرمزية وحبّات المشمش تتلالئ بين الظلال.. ورياحين الورود المتعرشة كم خضت في هذه الحياة وفي النهاية وجدتني أعيش بين القطيع كان لي بستان عجيب: به ثمار كثيرة ليحفظ الله خياراته به يحيط سور حصين وبابه موصدة في وجه الغرباء به حارس لا يغفو له جفن أما الآن فأي وابل أصابه وأي خسارة لحقت به فلم يبق سوى أثر بعد عين لن أسامح كل من ثالبني فالجراح في قلبي خفية وأنا اليوم تائه، ضائع الحب كبّلني فلا تلوموني على طيشي أليس من الخطأ ينبلج الصواب أردت السير في طريق قاسية محفوفة بالمصائب فإلى ما ينفع الندم إذن؟ مقاطع من ديوانه / آسفرا -