في الصيف الفائت التقيت علاوة حاجي، وهو صحفي متابع للشأن السينمائي بوهران·· لم أكن أعرفه من قبل، شاب خجول وصامت، أو هكذا تخيلته عبر الانطباع الأول عن اللقاء··· التقيته في يوم آخر ودائما في نفس المدينة وبمناسبة مهرجان الفيلم العربي، كان رفقة زملائه·· تناقشنا في الثقافة والسينما والمسرح·· ولم التق به بعد ذلك إلا في رمضان المنصرم·· وكان اللقاء في فضاء ألف نيوز ونيوز، تبادلنا كلمات سريعة وتواعدنا أن نلتقي·· دائما صموت وخجول، وبنفس الطريقة الصامتة والخجولة فتح محفظته وسلمني كتيبا أنيق الشكل·· تصفحت العنوان وإذا بي أكتشف أن هذا الكتاب الأنيق له، فسألته·· إذا أنت تكتب القصة!·· ابتسم، ولست أدري إن كانت وجنتاه احمرتا من الخجل لأن الليل كان قد خيم في تلك اللحظة التي سلمني أو أهداني مولوده الصامت مثله·· شكرته ووعدته بقراءته والكتابة عنه، ومنذ تلك اللحظة غرقت في اليومي الذي لا يريد أن ينتهي، ووضعت الكتاب على رف مكتبي داخل مقر الجريدة·· وذات مرة حملت الكتاب معي وأنا مسافر إلى بجاية، لكنني نسيت أين وضعته عندما وصلت إلى الفندق، ورحت أقلب الكابا·· لكنني لم أجده·· وتأسفت على ذلك، ولمت نفسي، وخشيت أن يكون الكتاب ضاع مني·· وعندما رجعت إلى العاصمة ودخلت مكتبي في اليوم التالي رحت أبحث عن الكتاب، فلم أجده·· وفكرت من جديد في الاتصال بعلاوة حاجي، لكنني اكتشفت أنني نسيته أين سجلت رقم تيلفونه بعدما تأكدت أنه غير مسجل في ذاكرة النقال، وعندئذ قلت ربما وضعت الرقم على الصفحة الثانية من الكتاب·· ثم طلبت الرقم من أحد الصحفيين، وهو من جيله يشتغل معنا في الجزائر نيوز· وبالفعل أعطاني الزميل رقم هاتف حاجي، وعندما تلفنت، جاءني صوت آخر، لم يكن صوت حاجي، فقلت هل أنا مع علاوة، وسألني الآخر أنا نعم، لكن من أنت؟ فقلت له أنا احميدة عياشي، فصاح فرحا، وقال لي، أين أنت يا رجل؟! منذ قرن لم نلتق·· وعرفت من صوته وكلامه أنه علاوة آخر، عرفته في الثمانينيات، وأيضا في بداية التعسينيات، لكنه اختفى مثلما اختفى الكثيرون في عهد الزمن الأحمر··· وأحسست بالخجل لكنني قلت له·· في الحقيقة أبحث عن علاوة آخر، وهو علاوة حاجي، فقال بأنه لا يعرف شخصا بهذا الإسم، ثم ودعته وودعني وكأننا لم نتعارف منذ زمن·· وفهمت كم الزمن خطير، وقاتل·· يخلق في نفسك رمادا يقتل فيك روح الزمن وزمن العلاقة·· ومنذ أيام كنت جالسا بمكتبي في المنزل، وكنت أبحث عن رواية سبق وأن قرأتها أكثر من مرة لأرنستو ساباتو، وما أن امتدت يدي إليها، حتى قابلني ذلك الكتاب الأنيق، الصامت الضائع والخجول·· وكانت به عيون تطل علي بشكل سوريالي·· وكان العنوان باللون الأحمر ''ست عيون في العتمة''··· وضعت ساباتو ورحت أتصفح ''ست عيون في العتمة'' ثم توقفت عن التصفح·· ورحت أقرأ·· القصة تلو الأخرى·· من هذه ليست قصة إلى فكرة غبية إلى دمية ممزقة إلى أصوات إلى طفل محفظة إلى الإعدام إلى انتحار الغزالة، إلى القط المحترم إلى مزروق في الصندوق إلى المجنون إلى عصفورة الحب إلى سيارات·· سيارات، إلى الأسرار إلى دخول وخروج، إلى الأحلام الصدئة، إلى ست عيون في العتمة، إلى كيف تصفق بحرارة دون أن تتورم يداك، إلى مكان ليس للأم، إلى احتجاج، إلى أزهار، إلى صوتها، إلى حفلة تنكرية، إلى أمنيات خارج النص، إلى جدي وجدتي، إلى الزورق التائه، إلى شفقة، إلى المخادع، إلى حبيب كالمطر، إلى موعد، إلى أمنية، إلى اختيار إلى تعسف، إلى المعلم، إلى ملامح، إلى الرجل الذي فقد رأسه، إلى مغامرات، إلى طلب ح،ب إلى رسالة قصيرة جدا إلى البرد··· كانت المجموعة مفاجأة حقيقية بالنسبة إلي، قوية، إنسانية، نابضة ومليئة بالدفء الساخر وبتلك الضحكة المستترة على النفس وعلى العالم·· كانت المجموعة الأقاصيصية تعبيرا حقيقيا عن موهبة قوية، مبشرة بكاتب متميز يملك نظرة خطيرة إلى النفس البشرية وإلى العالم··· هذه الموهبة ذات القدرة الحية على الحكي ببساطة عسيرة، بساطة تغريك كالمرأة الغاوية، لكنه ذو امتناع يجعلك أسيرا ومتلهفا وراغبا في اكتشاف ذلك السر العاري والخفي في الوقت ذاته··· بمجموعته·· ''ست عيون في العتمة''، يكون حاجي علاوة وقع صوته ليكون بصمة حقيقية في المشهد القصصي الجزائري··· مجموعة لابد أن تقرأ وأن يكتب عنها···