الحمد لله الّذي أرسل رسوله بالهُدى و دين الحقّ ليظهره على الدّين كُلّه، و الصّلاة و السّلام على النّبيّ الكريم مُحمّد المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق، و على آله و صحبه الّذين نشروا الإسلام في الآفاق، ثمّ أمّا بعد : فإنّ من المُتصوّفة[1]، من اتّسم بالإنصاف و الموضوعيّة، و عاش حياته على تزكية نفسه و تصفية أخلاقه، والتّحلّي بمكارمها، و سار بسيرة حسنة مبنيّة على الزّهد و الورع و العبادة و التّبتّل و الانقطاع المشروع، و مُنطبقة على الكتاب و السّنّة و الإجماع المُنعقد و الأقيسة الصّحيحة، و ابتعد عن البهرجة و التّشطّح و الشّعبذة و التّملّق و التّزلّف و المُواراة، و كان شعاره و دثاره العلم و المعرفة، و اتّباع الحقّ فيهما، و خلا عمله من رذاذ الشّرك و الخُرافات و الشّعوذة و المُحدثات و البدع، و كانت له أيادي بيضاء، في الدّعوة و التّربية و التّعليم و الجهاد، و من المُجيبين لقول الله تعالى : (و لتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون) آل عمران / 104. و الطُّرق كُلّها مسدودة على الخلق، إلّا على من اقتفى أثر الرّسول (صلّى الله عليه و سلّم) و صحابته الكرام المرضيين، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : (و ليس لأحد أن يُنصِّب للأمّة شخصًا يدعو إلى طريقته، و يُوالي و يُعادي عليها غير النّبي (صلّى الله عليه و سلّم)، و لا يُنصِّب لهم كلامًا يُوالي عليه و يُعادي غير كلام الله عزّ و جلّ و رسوله (صلّى الله عليه و سلّم)، و ما اجتمعت عليه الأمّة،... هذا من فعل أهل البدع الّذين يُنصِّبون لهم شخصًا أو كلامًا يُفرِّقون به بين الأمّة و يُوالون به على ذلك الكلام أو تلك النّسبة و يُعادون.) اه ، و قد أُثر عن الإمام الجُنيد قوله : (من لم يحفظ القرآن، و لم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر ؛ لأنّ علمنا مُقيّد بالكتاب و السّنّة.) اه، و قال أيضا : مذهبنا هذا مُقيّد بأصول الكتاب و السّنّة، و علمنا هذا مُشيّد بحديث رسول الله (صلّى الله عليه و سلّم). اه. و جاء عن سرّي السّقطي قوله : (التّصوف إسم لثلاثة معان : و هو الّذي لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، و لا يتكلّم بباطن علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، و لا تحمله الكرامات على هتك محارم الله تعالى.) اه. و عن أبي الحسن الشّاذلي قال : ( كُلّ علم تسبق إليك فيه الخواطر، و تميل النّفس و تلتذّ به، فارم به و خُذ بالكتاب و السّنّة. و لغيرهم في هذا الباب عبارات كثيرات، تجدها منثورة في كُتب أسيرهم طريقة. و من هؤلاء الّذين اتّصفوا بتهذيب النّفس و كثرة الورع و الزُّهد و العبادة، و قاموا في عهدهم بالواجب الّذي عليهم، في إرشاد الخلق إلى الحقّ، و الدّعوة إليه، و صدّ النّاس عن التّكالب على الدّنيا و جمع حُطامها من أيّ وجه كان، و نهيهم عن الاسترسال الغير مقبول في الشّهوات و الملذّات، و تنبيه الغافلين منهم عن فعل واجباتهم و ما خُلقوا لأجله؛ درءا للفوضى و الفساد و البغي و الهرج. و كانوا حُرّاسا حقيقيين للأخلاق، و بذلك أخذوا بيد الأمّة إلى سبيل الرّشاد، الّذي به السّعادة الحقيقيّة، الّذين هُم قلّة، لاسيما في العُهود الإسلاميّة المُتأخّرة ؛ مُترجمنا العالم اللُّغويّ النّحويّ الفقيه المُفتي الصُّوفيّ المُعتدل المُنصف الطّبيب أحمد بسطامي، أو بصطامي الرّحماني الهلالي[2] الخالدي، ثمّ الخُروبي القسنطيني، المعروف بأحمد بن شليحة. ولد خلال سنة 1307 ه / 1890 م، بمدينة سيدي خالد العريقة، بولاية بسكرة، بالجنوب الشّرقي الجزائري. حفظ القرآن و تعلّم على يد الشّيخ المُختار بن لزنك الحركاتي، ثمّ النّايلي، المعروف بابن حوّاء، و بُعيد سنة 1330 ه / 1912 م توجّه إلى مدينة فاس بالمغرب، حيث جامع القرويين المعمور، فلازم به لفيفا من المُحدّثين[3] و المُفسّرين و الفُقهاء و الأُصوليين و الفرضيين، الّذين كانوا حينها قد نزلوا بالجامع المذكور للإقراء و التّحديث و التّدريس، و سمع عليهم و حضر عليهم مجالس، و أفاد عنهم و أسند إليهم، و ملأ وطابه من كلّ الفُنون الشّرعيّة المُتداولة، لاسيما منها علما الفقه و الأُصول. عاد في حُدود سنة 1341 ه / 1923 م إلى أرض الوطن الجزائر، بدعوة كريمة من الشّيخ عبد الرّحمان بن عليّ بن خليفة الحملاوي المُتوفّى 1361 ه / 1942 م، شيخ الزّاوية الحملاوية بوادي سقان بولاية ميلة الجميلة وقتئذ؛ للإقراء و التّدريس بزاويته المذكورة، و قد بقي بها قُرابة عقد من الزّمن أفاد فيه النّاس كثيرا، ثمّ لنفس الغرض توجّه في سنة 1352 ه / 1933 م، إلى زاوية بلدة سيدي خليل بولاية الوادي، أين أفاض عليها بأدبه و علمه. انتقل بعدها إلى الخروب، بضواحي مدينة قسنطينة بالشّرق الجزائري[4]، و استقرّ به المُقام هناك، و اختير لإمامة النّاس و الخُطبة فيهم، و إفتائهم و توجيههم، إلى أن وافته الموت عن سنّ عالية، بعدما أقعده الضّنى و العجز، سنة 1400 ه / 1980 م[5]. و يقول عنه بعض المُتصوّفة أنّه جمع بين الشّريعة و الحقيقة. و أقول لا عبرة بالحقيقة، و ما ينجرّ عنها من مواجيد و أحلام، إنّما العبرة بالشّريعة؛ لأنّها هي مناط التّكليف. و الله أعلى و أعلم. و من الّذين تلقّوا منه المُقرئ المُحدِّث الأديب الرّجّازة الفقيه اللُّغويّ النّحويّ العالم الجليل السّلفيّ نُعيم (بالتّصغير) بن أحمد بن عليّ النُّعيمي الحركاتي، ثُمّ النّايلي (ت 1393 ه / 1973 م)[6]، و الصُّوفيّ الفاضل الفقيه المُفتي الفرضيّ النسّابة مُحمّد بن محمّد (فتحا) بن عيسى بن زهانة الرّحماني الهلالي الخالدي، المعروف بحمّة قدّور (ت 1430 ه / 2009 م)[7]، الّذي كان يُرافقه في مأكله و مشربه، أثناء وُجوده في زاوية بلحملاوي المذكورة أنفا، باشتراط منه؛ و ذلك لشدّة محبته و تقديره له، و كان يرعاه كأنّه أحد أبنائه، كما حدّثني بذلك الشّيخ الحاجّ عامر بن مُحمّد، الّذي ذكر لي أيضا، أنّ من بين الّذين جلسوا إلى الشّيخ (أي الشّيخ ابن شليحة)، و سمعوا منه و أفادوا عنه، مرّات عديدة ؛ شيخه الفقيه الحافظة الرّاوية الإخباريّ عبد المجيد بن مُحمّد بن عليّ بن حبّة السُّلمي (ت 1413 ه / 1992 م)[8]، الّذي كان يُعظمه و يُقدّره و يُجلّه، و يُثني كثيرا على أدبه و علمه الّذي لا ساحل له، و قد أخبره أنّه كان إذا حضر مجلسه، لا يُحرّك لسانا و لا طرفا من أطراف جسمه، و كأنّ على رأسه الطّير، و لا يُعقّب بشيء ؛ مهابة و إجلالا و اعترافا له، و قد وصفه له بكلّ ما يرد في قاموس التّعديل و التّوثيق، و أسبغ عليه النّعوت العلميّة العالية و حلّاه بها. و ذلك ليس بالأمر الهيّن، من غير ارتياب، خاصّة أنّها جاءت على لسان الشّيخ ابن حبّة (رحمه الله) الّذي جلس بين يديه و استمع إليه، و كفى بها شهادة للتّاريخ. و في تقديري الشّخصي أن تكوين الشّيخ أحمد بسطامي العلمي، يعود إلى اعتبارين، هما ؛ انتسابه إلى جامع القرويين بفاس، و ما أدراك ما جامع القرويين، ردحا من الزّمن، و تعرّفه فيه إلى طائفة مُمتازة من عُلمائه في ذلك الحين. و كذلك إلى ما يملكه من استعداد فطريّ، و ذكاء مشهود له به، و عصاميّة قويّة، ممّا جعله مُنصرفا إلى العلم، بالحفظ و المُطالعة التي أُولع بها أشدّ الوُلُوع، في لياليه السّاهرات، بين كُتبه و محبرته، و قد حصّل بذلك و استخلص خيرا كثيرا، و لسان حاله ينشد : و ما نيل المطالب بالتّمنّي... و لكن تُؤخذ الدنيا غلابا و الله أعلى و أعلم. و ممّا يُسجّل للشّيخ أحمد بسطامي في هذه التّرجمة، أنّه كان على تمكّن عجيب في فني النّحو و الصّرف، مشهودا له بالضّلاعة و الاقتدار فيهما، و كانت له في ذلك مسائل و ألغاز، و على غرار تمكّنه هذا، و غيره في سائر الفُنون الشّرعيّة المُتداولة (عُلوم القُرآن و التّفسير و الحديث و الفقه و الأُصول و الفرائض و السّيرة...)، كان مُهتمّا بطبّ الأعشاب ماهرا فيه، يُعالج المرضى من كثير من الأسقام، الّتي اُبتلي بها النّاس في ذلك الحين و لا يزال ؛ كالحُمّى و الزُّكام و السُّعال الدّيكي و الجرب و الجدريّ و آثار اللّسع و اللّدغ و الشّقيقة و الكُساح و اليرقان (الصُّفّير) و التّيفوس (الحُمّى الصّفراء) و الكلب، أو حتّى السّلّ و النّقرس و الفالج، و قد عالج عنده الشّيخ الحاجّ عامر بن مُحمّد المذكور آنفا و هو صغير السّنّ[9]. و الجدير بالذّكر أنّ الدّارس لهذه الشّخصيّة المُتميّزة، تعترضه مُثبّطات للكشف عن حياته، و أعماله العلميّة، بالنّظر إلى قلّة المعلومات المُتعلّقة بها، و سأعود على ترجمته هذه بالشّرح، ما إن تواردت إليّ أنباؤه، و حُزت تُراثه و آثاره. و الله وليّ التّوفيق إنّه نعم المولى و نعم النّصير، و صلّى الله على سيّدنا مُحمّد النّبيّ الأُمّيّ و على آله و صحبه و سلّم. هوامش 1 قد أُثر عن الإمام الكبير العلّامة الجهبذ فخر الدّين الرّازي ( ت 606 ه ) قوله ؛ لقد انقسم المُتصوّفة إلى ثلاث طوائف، الأُولى : مُتصوّفة اتّبعت الكتاب و السّنّة و لم تخرج عنهما، و لم تُبالغ و لم تُشطط، و سلكت منهج الزّهد و الصّفاء و التّزكية و كثرة التّعبّد و التّبتّل و القُربات، و الإدبار عن الدّنيا و ملاذها، و الإقبال على الآخرة و نعيمها . و الثّانية : مُتصوّفة خرجت عن الكتاب و السّنّة و آثار السّلف الصّالح و الإجماع و القياس المشروع، و ابتدعت و بهرجت و أفسدت و أتت بعوائد و طرائق ما أنزل بها من سلطان، و هي ضالّة في ذلك . و الثّالثة : مُتصوّفة جاءت بالبدع المُفسّقة و المُكفّرة و الشّركيات و المعاصي الظّاهرة، و اتخذت من الشّعوذة و العربدة و الكهانة و السّحر سبيلا لها، و ادّعت الكرامات و الخوارق و مرقت و خرجت عن الإسلام . و هي أخطر الطوائف . و الله أعلى و أعلم . و أقول إنّ كتابتي عن الصُّوفيّة ليست من باب الإقرار الكُلّيّ في شيء ؛ إنّما هي وصفٌ و ترجمةٌ و تأريخٌ و حكاية أحوال، و أنّ آراء بعض الصُّوفيّة تشمّ و لا تفرك . و الواجب قوله أنّ التّصوّف غشيته الأمراض و العلل و العوادي، و هو ما يدعو إلى إصلاحه و تنظيفه. و الله أعلى و أعلم. 2 و قد يكون من عرب بني سُليم الّذين وفدوا من الشّرق، مع عرب بني هلال، على المغرب الكبير . و الله أعلى و أعلم . 3 لقد علمت من خلال اطّلاعي على تاريخ العُلوم و الفُنون الشّرعيّة، و تطوّرها، بالمغرب العربي الكبير، أنّ علم الحديث و أُصوله، كان في معاهد العلم بالغرب الإسلامي خلال هذه الفترة، دُون العُلوم اللُّغويّة و الفقهيّة، و ما إليها، من حيث الأهميّة. و الله أعلى و أعلم. 4 لقد أخبرني الشّيخ الصُّوفيّ الخلوق المُلتزم الحاجّ عامر بن مُحمّد الرّحماوي، ثمّ النّايلي الخالدي (حفظه الله)، عن أحد أشياخه الّذين لازموا الشّيخ ابن شليحة، و حضروا مجالسه العامّة و الخاصّة ؛ أنّ الشّيخ أحمد بن شليحة (و هو مُترجمنا) قد التقى الشّيخ العلّامة المُصلح عبد الحميد بن باديس ( ت 1359 ه / 1940 م ) غير ما مرّة، و قد أُعجب هذا الأخير، بعلمه و سعة اطّلاعه، رغم اختلاف منهجيهما، و كانت تدور خلال لقاءاتهما مُناقشات علميّة و مُساجلات، في حدود اللّياقة الأدبيّة المعهودة من العُلماء. و كان الشّيخ ابن شليحة يُؤكّد حسب الرّواية الشّفويّة المذكورة للشّيخ ابن باديس أنّ الزّوايا ليست سواء، و أنّ الشّيوخ المُزيّفين هُم الّذين كانت أعمالهم وبالا على كثير منها. و أنّ حقيقة الزّوايا و وظيفتها هي التّربية و التّعليم، و نشر الدّين الصّحيح، و الدّفاع عنه، و الدّعوة إلى الله، و الرُّجوع بالمسلمين إلى الأدلّة المعصومة. قلت و تُذكّرني هذه اللّقاءات بعلاقة علّامة وفذّ عصره مُحمّد ناصر الدّين الألبانيّ، الّذي انتهت إليه رئاسة المُحدّثين في وقته، و بلغ في علم الحديث الّذي لا ساحل له و لا قرار القدح المُعلّى، بالشّيخ العالم المُشارك الصُّوفيّ المُعدّل مُحمّد بن مُحمّد بن أحمد السّالك الشّنقيطي، ثمّ العمّاني الأردني (رحمهما الله)، و جُلوسهما معا السّاعات و السّاعات، طوال شهر كامل، إفادة و استفادة، في مكتبة الشّيخ أحمد السّالك ( نجل الشّيخ مُحمّد السّالك )، و لقاءاتهما أيضا غير ما مرّة في بيت العالم الأديب السّلفيّ إبراهيم شقرة (حفظه الله). و كان يقول الشّيخ الصُّوفيّ أبو أحمد مُحمّد السّالك عن الألبانيّ : هذا رجلٌ صالحٌ . و هذا مع مُخالفته له . و الله أعلى و أعلم. 5 تكملة الوفيات ( 1398 ه 1407 ه ). 6 طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية 2016 م، و تكملة الوفيات (1388 ه 1397 ه). 7 طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية 2016 م، و تكملة الوفيات (1428 ه 1437 ه). 8 طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية 2016 م، و تكملة الوفيات (1408 ه 1417 ه). 9 طبقات المالكيّة الجزائريين خلال المئة الهجريّة الأخيرة، الطّبعة الثّانية 2016 م.