الحمد لله وحده، و الصّلاة و السّلام على من خُتمت الرّسالة بعده؛ سيّدنا مُحمّد و على آله و صحبه، و على من سار على هديه. و بعد: إنّ مدينة سيدي خالد العريقة، يعود تأسيسها إلى القرن الرّابع الهجري (04 ه / 10 م)[1]، أو إلى الخامس الهجري (05 ه / 11 م)، على ضفة وادي الغليسي، أو وادي جدي، بمُقربة من قبر الوليّ الصّالح الّذي تسمّت بإسمه، و ارتبطت به ارتباطا اجتماعيّا و جغرافيّا ؛ خالد بن سنان بن غيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة (بن عبس) العبسي اليماني[2]، و قد كانت بها و لا تزال مناطق صالحة للزّراعة و الغراسة، و بها منابع مياه[3]. و في القرن السّابع الهجري نزح إليها النّاس، من كُلّ الجهات، و بنوا بها مساكن لهم، عُرفت في ما بعد بالمدينة القديمة. و هي تقع بالجنوب الغربي لمقرّ ولاية بسكرة، و يحدّها من الشّمال الغربي بلدية الشّعيبة، و من الغرب و الجنوب و الجنوب الشّرقي بلدية البسباس، الّتي تحدّها هي الأخرى غربا بلدية راس الميعاد المُحاذية لحُدود ولاية الجلفة، و من الشّمال الشّرقي بلدية أولاد جلّال. و هي ليست من الزّاب في شيء؛ لأنّ الحُدود الأخيرة للزّاب من جهته الغربيّة (الزّاب الغربي) هي مدينة أولاد جلّال على قول من يراها من الزّيبان[4] الّتي بينها و بين مدينتنا المُنوّه بها (سيدي خالد) بضعُ كيلوميترات فقط (07 كلم). و يقطنها الخوالد أو الخواليد (أولاد عليّ و أولاد بخليفة و أولاد عبّاد و أولاد داود) و هُم السّكّان الأصليون لها، و هم قلّة، و أصولهم مُختلطة بين الهلاليين و بني سُليم و الأشراف، و أولاد حركات و أولاد ساسي و هم الغلبة و أولاد رحمة، الثّلاثة جميعا من أولاد سيدي نايل الأشراف، و البوازيد (نسبة إلى سيدي بوزيد بن عليّ الشّريف)، و المخاليف غير الأشراف (نسبة إلى سيدي مخلوف)، و أولاد خُليف. و قد بلغ عدد قاطنتها، في السّنوات الأخيرة، ستّين ألف (60.000) نسمة، أو يزيدون. و بها واحات واسعات للنّخيل، و مُعظمها مُثمرة، و فيها نسبة كبيرة من دقلة نُور، و هي من أجود التُّمور على الإطلاق، ممّا تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين، و بيئتها صالحة لتربية الأغنام ذات السُّلالة الوافية الوفيرة، الّتي تمتاز بجودة لحمها و صُوفها، على مُستوى القُطر الجزائري. و من موروثها الشّعبي الّذي شاع و ذاع و طار كلّ مطار، قصّة حيزيّة بنت أحمد بن الباي[5] (1855 م 1878 م[6])، تلك الفتاة الهلاليّة[7] الّتي أحبّها حُبّا غامرا الشّاب سعيّد (اسعيّد) الّذي كان يقطن المدينة المُشار إليها، و تزوّجها، و لم يصبر على فقدها، بعدما هلكت، و خلّد عقابيلها مُترنّما بها الشّاعر الفحل ابن قيطون[8] المُحاكي للقصّة و شاهدها؛ و قد لجأ إليه سعيّد شاكيا باكيا مُتأثّرا، في قصيد خالد، تغنّى به كثيرون، منهم خليفي أحمد و البار عمر[9]. و في سياق مُتّصل، تجدر الإشارة و التّنويه إلى أنّ مدينة سيدي خالد تُعتبر حقيقة من الامتدادات الثّقافيّة الأصيلة لأولاد سيدي نايل، بما كان منه مُتداولا ؛ من تعليم و أدب و شعر (فصيحا و ملحونا[10]) و فضل، و... و أهلها أقرب طبيعة و سُلوكا إلى ساكنة منطقة الجلفة الواسعة، من بني سيدي نايل الأُصلاء، المشهود لهم بأسمى الفضائل، من شجاعة ، و كرم، و نخوة، و إباء، و حلم، و حياء، و غيرها... و الزّائر لهذه المدينة، تسترعي انتباهه كثرة المساجد[11]، فحيث ما ولّيت طرفك وجدت مسجدا بميضأته الواسعة النّظيفة، و بجواره زاوية أو مقرأة لتعليم القُرآن و تحفيظه... و فيها صالحون و زُهّاد و نُسّاك و طُلّاب علم و بحثة و كتبة و مُؤرّخون و شُعراء... و في ساكنيها طيبة أخّاذة، و قابليّة و حُسن استماع، و تصلح فيهم الدّعوة و التّعليم الشّرعي و نشر الخير ... و بها زاوية عامرة تُدعى التّابعيّة؛ نسبة إلى الشّيخ الصُّوفي المُربّي الحاجّ عليّ بن الصّادق التّابعي الحسني الدّبيلي السُّوفي، ثمّ العنّابي[12]، يقوم على الإقراء و التّدريس و الإرشاد بها ؛ كتحفيظ القُرآن، و تعليم العربيّة و أدواتها، و تقريب الفقه المالكي، و شرح الحكم العطائيّة، الصُّوفي الخلوق المُلتزم بالكتاب و السُّنّة الحاجّ عامر بن مُحمّد النّايلي (من أولاد رحمة)، و هو من أتباع الطّريقة التّابعيّة. و كلامي هذا تعريفٌ، و ليس فيه نقضٌ و لا تقريرٌ ؛ و قد تعرّفت إليه، و جلست معه، و استمعت منه. و قد خرج منها مثلا لا حصرا المُدرّس المُربّي الصُّوفي الفاضل صاحب المقام العالي صاحب الزّاوية عليّ الجُروني الخالدي، و المُقرئ المُحدِّث الأديب الرّجّازة الفقيه اللُّغويّ النّحويّ العالم الجليل السّلفيّ نُعيم (بالتّصغير) بن أحمد بن عليّ النُّعيمي الحركاتي، ثُمّ النّايلي، و الفاضلان الأديبان النّائليان البشير عاشور و قريبه قدّور، من أولاد حركات، و المُفتي مُحمّد بلّوط الخالدي، المعروف بالمحّي. و جاور بها الفاضل المُجاهد الكبير زيّان بن المبروك عاشور الحركاتي، ثمّ النّايلي، و المُدرّسان الشّرعيان المشهوران النّائليان مُحمّد العابد بن عبد الله، و قريبه مُصطفى بن قويدر، من أولاد ساسي، و الفقيه الحافظة الرّاوية الإخباريّ عبد المجيد بن مُحمّد بن عليّ بن حبّة السُّلمي، و الفقيه المُبرّز قدّور زهانة الرّحماني الهلالي، المعروف بحمّة قدّور. في حين يُلاحظ نقص في المكتبات الّتي تُعنى ببيع الكُتب، لاسيما منها المُتعلّقة بفنون الشّريعة الإسلاميّة؛ من عقائد (كلام و فكر) و حديث و تفسير و مُصطلح و أُصول و أحكام (فقه) و فرائض و سير و تراجم و طبقات و فرق و مذاهب، و بغيرها ؛ من عُلوم اللّسان العربي، و من تاريخ[13] و جغرافيّة و منطق و فلسفة، و غيرها. و أتمنّى من القائمين عليها أن يهتمّوا لهذا الأمر و يعتنوا به غاية العناية، بالإضافة إلى مُعالجة تواصلها مع الجهات المُجاورة لها، و بخاصّة منها بولاية الجلفة؛ بتوفير ما يلزم لهذا الشّأن، حتّى لا تكون بمنأى و بمعزل، لتُعطى لها مكانتها التّاريخيّة و الثّقافيّة و العلميّة المُستحقّة، و حتّى الاقتصاديّة، فهي بحقّ و حقيقة إرثٌ إسلاميٌّ عربيٌّ أصيلٌ غنيٌّ، تزخر به الجزائر. هذه كلمةٌ مُقتضبةٌ على مدينة سيدي خالد علّها تُفيد و تُنير، و إن دعتنا الحاجة و الحاجة تُقدّر بقدرها إلى التّوسّع و الإفاضة فيها، فإنّا حاضرون. و بالله التّوفيق، و صلّى الله و سلّم على سيّدنا مُحمّد، في كُلّ وقت و حين، و على آله و صحبه أجمعين. (*) الكاتب و الباحث "أبو محمد سعيد هرماس" له العديد من الشهادات و الإجازات العلمية، و صدر له عدد من المؤلفات... لتفاصيل عن سيرته الذاتية راجع موضوع: من هو الشيخ أبو محمد سعيد هرماس..؟ هوامش 1 آية ذلك المسجد العتيق و هو أوّل مسجد بها في ما نعلم الّذي يعود تأسيسه إلى القرن الرّابع الهجريّ (04 ه)، ثمّ بعده مسجد الفاتح عُقبة بن نافع الفهريّ الأُمويّ القُرشي (ت 63 ه / 683 م)، و لا أقصد مسجده الأوّل بمدينة سيدي عُقبة ؛ إنّما المُراد التّسمية فقط. 2 و هو من أهل الفترة، و دعوى أنّه نبيّ غير مُؤسّسة و لا تسلم من مطعن، و قد عالج تاريخه و حياته جمهرة من الحُفّاظ و المُحدّثين و المُؤرّخين المُسلمين، و اختلفوا في نُبوّته و دعوته و في تاريخ مجيئه من اليمن و نُزوله بهذه الجهة بالشّمال الأفريقي، و في تاريخ وفاته أيضا؛ فقال بعضهم تُوفّي سنة 435 ه، و عاش 230 عاما، و قال آخرون كان مجيئه بعد نبيّ الله عيسى (عليه و على نبيّنا أفضل الصّلاة و السّلام)، بنحو 300 عاما، و أفاد غيرهم أنّه تُوفّي قبل عام الفيل بخمس سنوات، و أنّه مُضريّ. و الّذين قالوا أنّه نبيّ من بني إسماعيل، استندوا إلى ما رُوي عن النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم) قوله في شأنه : (ذاك نبيّ ضيّعه قومه) . رواه أبو بكر البزّار، و إلى ما قاله ابن يُونس؛ قال سماء بن حرب سُئِل عنه النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم) فقال: (ذاك نبيّ ضيّعه قومه) . قال الحاكم هذا حديث صحيح، و إلى ما رواه أبو القاسم الطّبري عن ابن عبّاس (رضي الله عنهما) قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم) فبسط لها ثوبه و قال : (بنت نبيّ ضيّعه قومه)، أو قال : (مرحبا بابنة أخي)، و الصّحيح و المُوافق للتّقاطع التّاريخي أنّ الوافدة على رسول الله (صلّى الله عليه و سلّم) هي من حفيداته. و قالوا أيضا أنّه كان يدعو النّاس إلى دين عيسى (عليه السّلام)، و أنّ له مُعجزات؛ منها أنّه أطفأ نار الحرّتين الّتي ظهرت في بني عبس ببلاد العرب، و أباد العنقاء بدعائه، الّتي ظهرت بنجد والحجاز، و كانت تأكل الوُحوش و تختطف الصّبيان. قال الزّركلي صاحب الأعلام : النّار هي النّفط لا ريب، و الرُّواة مُجمعون على أنّ خالدا دخل نارا فانطفأت ... . اه . و الله أعلى و أعلم . قال الله تعالى : (و لقد أرسلنا رُسُلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك) . غافر / 78. 3 قال الله تعالى : (و آية لهم الأرض الميتة أحييناها و أخرجنا منها حبّا فمنه يأكلون و جعلنا فيها جنّات من نخيل و أعناب وفجّرنا فيها من العُيون ليأكلوا من ثمره و ما عملته أيديهم أفلا يشكرون) . يس / 33 و 34 و 35 . 4 بعضهم لا يعدّ أولاد جلال من منطقة الزّاب، و قد تعرّض إلى هذا الأمر بشيء من التّفصيل البحّاثة الأستاذ الكريم الفاضل فوزي مصمودي في كتابه الزّاب .. المُصطلح و الدّلالات . طبع 2013 . دار عليّ بن زيد للطّباعة و النّشر . حيّ المجاهدين . بسكرة . الجزائر. 5 أعتقد أنّ لها علاقة قرابة بعائلة الباي الّتي كانت صاحبة نُفوذ و سُلطة أيّام العُثمانيين بقسنطينة (عاصمة الشّرق الجزائري) في وقت مضى. 6 لقد كُتب على لوحة التّعريف بها، المُعلّقة بجدار المقبرة المدفونة فيها، بمقربة من مقام خالد بن سنان، أنّها تُوفّيت سنة 1879 م، و أظنّه خطأ؛ لأنّ تاريخ وفاتها كان سنة 1295 ه، بما يُوافقه بالتّأريخ النّصراني 1878 م، و عُمرها 23 عاما . و الله أعلى و أعلم. 7 من عرش الذّواودة الهلاليين الرّحّالة. 8 هو مُحمّد بن قيطون (غيطون أو جيطون) الصّغير البُوزيدي الشّريف، المولود بتاريخ سنة 1843 م، بمدينة سيدي خالد. قرأ و تعلّم بزاوية سيدي عليّ الجُروني الخالدي، الّتي راج بها التّعليم العتيق ردحا، ثمّ انزوى، و كان تأسيسها بالتّوازي مع انطلاقة زاوية أولاد جلّال (المُختاريّة) الشّهيرة، و يكون ذلك في حُدود سنة 1815 م، أو قبلها، أو بعدها بشيء؛ لأنّ تأسيس الزّاوية المُختاريّة يعود على الرّاجح إلى سنة 1812 م. و الله أعلى و أعلم . أقرض الشّعر صغيرا، و تعلّق به تعلّقا كبيرا، و صار من كُبرائه بالجهة الصّحراويّة و الشّبه الصّحراويّة. تُوفّي سنة 1907 م، و عُمره أربعة و ستّون بالتّأريخ النّصراني. 9 أقول ذلك حكاية لا إقرارا . 10 سُمّي ملحونا للّحن الّذي فيه؛ أي غير مُعرب (مُخالف لقواعد الإعراب). و قيل للّحن الّذي يُرافقه؛ أي الإيقاع الموسيقي. و الله أعلى و أعلم. 11 و هذه بعضها : المسجد العتيق، و مسجد عُقبة بن نافع، و مسجد خالد بن الوليد، و مسجد مُعاذ بن جبل، و مسجد مُوسى بن نُصير، و مسجد عليّ الجُروني، و مسجد نُعيم النّعيمي، و مسجد عبد المجيد بن حبّة، و مسجد أحمد بصطامي (بسطامي)، و المسجد الشّرقي، و مسجد التّقوى، و مسجد الهجرة، و غيرها ..... و القائمة مُتواصلة . 12 من مواليد 1928 م بمدينة الدّبيلة، بوادي سوف، بالجنوب الشّرقي الجزائري. مارس التّعليم الحُكومي زمنا، إلى أن أُحيل إلى التّقاعد سنة 1992 م، و لا يزال على قيد الحياة، و هو حاليا نزيل مدينة عنّابة، و يُشرف على الطّريقة التّابعيّة رأسا، و له دُروس و مواعظ و خُطب و توجيهات عديدة، مُسجّلة في أكثر من ألفي (2000) شريط. 13 الشّريعة الإسلاميّة اهتمّت بالتّاريخ، و برز عبر العُصور الّتي مرّت عليها الأُمّة الإسلاميّة، مُؤرّخون فُذوذٌ ؛ على غرار ابن خيّاط (ت 240 ه)، و ابن قُتيبة (ت 276 ه)، و اليعقوبي (ت بعد 292 ه)، و الطّبري (ت 310 ه)، و المسعودي (ت 346 ه)، و ا بن يُونس (ت 347 ه)، و الخطيب (ت 463 ه)، و ابن عساكر (ت 571 ه)، و ابن الجوزي (ت 597 ه)، و ابن الأثير (ت 630 ه )، و أبي شامة (ت 665 ه)، و البِرزالّي (739 ه)، و الذّهبيّ (ت 748 ه)، و ابن كثير (ت 774 ه)، و ابن خلدون (808 ه)، و المقريزي (ت 845 ه)، و ابن تغري بردي (ت 874 ه)، و السّيوطي (ت 911 ه)، و ابن العماد (ت 1089 ه)،..... و غيرهم . عُنوا بالتّاريخ وفق المنظور الإسلامي، و بذلك أُضيف إلى علوم الإسلام علمٌ، عُرف بالتّاريخ الإسلامي. و قد تميّز مُعظم مُؤرّخي المسلمين، بالجمع بين الرّواية و الدّراية؛ استنادا إلى ذلك العلم الرّائع الّذي يُمثّل آية العبقريّة الإسلاميّة، و هُو علم الحديث و ما يتبعه من علم الرّجال.