نعيش هذه الأيام حمى الانتخابات، وهي نوبة جديدة لنوبات قديمة عشناها وعلقنا عليها آمالا عريضة ولكن سرعان ما أُسقط في أيدينا عندما انفضت كما ينفض العرس وتنتهي الوليمة و يتفرق الجمع ليعود كل واحد منا إلى شؤونه الروتينية وتبقى دار لقمان على حالها. والسؤال المطروح لماذا يعود الناس من جديد للصناديق وللرقص على أهازيج ممجوجة وشعارات مستهلكة يعاد تسخينها كما يتم تسخين طبق قديم فقد طعمه ومذاقه. لعل التفسير الوحيد لذلك أننا قزمنا حياتنا السياسية في صناديق الاقتراع ومواسم الانتخابات التي تحمل لنا كل مرة (أسماء) جديدة أو متجددة من داخل الأحزاب أو خارجها لتصطف على قوائم (مغلقة) فشلت الديمقراطية في الجزائر من إمكانية فتحها وعرض كل اسم منها على الشعب قبولا ورفضا تقديما أوتأخيرا، فيتم (طبخ) ترتيب القوائم في الكواليس والغرف المغلقة حيث تتحرك خفافيش وسماسرة الصناديق وهي تحمل اكياس (الشكارة) من مال حلال أوحرام حيث تُشترى الذمم وتباع في سوق النخاسة الانتخابية، وفي أحسن الحالات تبرم بها الصفقات ضمن بورصة المصالح والمآرب التي تُحرك من خلالها النعرة القبلية وتوقظها من سباتها العميق عندما يحين وقت توزيع المناصب عبر خارطة الدوائر والبلديات التي تغلق وتفتح من طرف أصحاب التجلة المقربين من مصادر القرار السياسي على أعلى هرم الأحزاب في عواصم البلاد الكبرى. نحن بعيدون إذا كل البعد عن ذلك العرس الانتخابي الذي تتنفس فيه السياسة الحقيقية عبر ذلك السجال الراقي والمتفتح حيث تنشر صفحات البرامج الحزبية بكل شفافية ويقين لتستمد قوتها من مناضليها الغيورين على أحزابهم الذين انتموا إليها وتدرجوا في سلمها وشقوا طريقهم المشروع نحو المجالس المنتخبة يحملون معهم زادا نضاليا صقلته الأيام والتجارب وحملته طموحاتهم المشروعة وأحلامهم الجميلة في بناء غد أفضل لوطنهم الجزائر. إن الانتخابات السياسية النزيهة مجرد امتداد طبيعي لعمل حزبي منهجي دائم، واستمرارية طبيعية لنشاط سياسي طويل النفس يتنافس فيه الجميع دون إقصاء أو تهميش أو استغلال، لا مكان فيه لعبادة الأشخاص وتقديس الأسماء، يصون كرامة كل فاعل سياسي مهما قلة مكانته الاجتماعية ورقعته القبلية، لأن عصر (العصبيات الخلدونية) لم يعد لها وزن في ظل الدولة الوطنية العصرية التي تتعامل مع الأفراد على أساس المواطنة العادلة حيث المعيار هو التوازن بين الحقوق والواجبات بعيدا عن الألقاب والنعوت ولا يقاس فيه وزن الإنسان بعدد القصع والولائم والزردات التي يتهافت عليها تجار (الأصوات) ومتعهدو (الصناديق) يبرمون فيها الصفقات والولاءات. السياسة الفعلية هي شعور دائم بالهم الاجتماعي وحيرة عميقة بمصير الفقراء والمحرومين والأرامل واليتامى وانشغال بوضعية الشباب العاطل وحيرة النساء العوانس اللواتي فقدن بصيص الأمل في الحياة الكريمة والأسرة المستقرة التي ذهبت ضحية الظلم الاجتماعي والتهميش والمحسوبية والرشوة وكل أدوات الفساد. السياسة الصادقة هي التضحية من أجل إسعاد الآخرين ورسم البسمة وبصيص الأمل على وجوههم، إنها ذلك العمل النبيل والنكران الجميل للذات، إنها أكثر من صناديق الاقتراع لأنها قبلها وبعدها وخارجها ولأنها أكثر من وعود كاذبة وأَيمان مغلظة سرعان ما تتبخر بعد نهاية العرس وانطفاء أضواء التجمعات الحاشدة والمؤتمرات المتلفزة والندوات الساخنة، ليتضح بأنها ليست أكثر من (ظواهر صوتية) تُعمق الهوة بين ما تقول وما تفعل فأنستها حمى الانتخابات قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، سورة الصف. وفي انتظار ذلك اليوم الذي تكون فيه الانتخابات عرسا سياسيا لأسماء نزيهة وضمائر حية ونفوس طاهرة لا تحتاج لنعرة قبلية أو تزكية فوقية أو ضمانات مسبقة أو توصية شخصية أو حسابات جهوية أو تكتلات ظرفية أو أرصدة بنكية بالعملة الصعبة أو المحلية أو صفقات ليلية. وفي انتظار أن تكون الانتخابات أكثر من مراهنة لبعض المغامرين الذين ينصُبون صناديق الاقتراع كالشباك لاصطياد الشهرة والنفوذ والزعامة والجاه، في انتظار كل ذلك سيبقى النزهاء يمارسون السياسة الحقيقية بالكلمة الجريئة والمواقف المشرفة والغيرة التلقائية على القيم الجزائرية النبيلة، والقيام بالواجب المهني والاجتماعي أينما كانوا بعيدا عن الكراسي والمسؤوليات وأضواء هذه الانتخابات في انتظار أن تعود الانتخابات.