ليس من المستغرب بعد كل هذا الدمار الذي حدث بسوريا أن يلجأ نظام دموي كنظام بشار الأسد إلى صناديق الاقتراع،ليكشف بذلك عن مرحلة جديدة من مراحل حكم الحديد والنار والتطهير بكل أشكاله. هذه المرحلة قادها الأسد بجدارة على مدى السنوات الفائتة،وأيقن خلالها أن الإرادة الدولية لا تحرك ساكنا ضده لمنعه من قتل الشعب السوري والتنكيل به. بالتالي فإن لعبة الصناديق ما هي إلا مناورة جديدة يهدف النظام من خلالها إلى قوننة القتل وجعله شرعيا من خلال صناديق الاقتراع،التي تعطيه الضوء الأخضر والتفويض الشعبي - كما يعتقد هو - للاستمرار في حرب الإبادة السافرة التي يقودها ضاربا عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والإنسانية. إعلان الأسد عن خوضه الانتخابات في منافسة مع غيره من المرشحين،تكشف اللثام أيضا عن شكل مختلف من الاستهتار بدماء ومصير الشعب السوري المغلوب على أمره في ثورته. وبالتالي كان فوز الأسد أمرا محتوما ومعدا مسبقا وبأغلبية الناخبين كعادة كل الأنظمة الديكتاتورية،التي تتقن هذا النوع من السياسات. كل المعطيات والمؤشرات دلت على أن الأسد سيخرج من تجربة الانتخابات هذه على أنه الخيار الأنسب للاستمرار بالحكم - أي الاستمرار باختطاف البلاد والمضي بها نحو مرحلة قاسية من حكم الحديد والنار. بل ومما لا شك فيه بأنها ستكون مرحلة أكثر قسوة من الحالة الأمنية التي كان يعيشها السوريون قبل اندلاع الثورة السورية،وفتح باب الدم السوري على مصراعيه. فلم يحدث عبر التاريخ أن خرج نظام ديكتاتوري من مواجهته لشعبه بالسلاح والقمع ليصبح أكثر إيمانا بالديمقراطية والمشاركة الشعبية وتداول السلطة واحترام الحريات،بل يجد الشعب عادة نفسه مهددا بوضعه ضمن قوائم طويلة من المطلوبين والمطاردين والمشتبه فيهم من قبل الأجهزة الأمنية تحت شعار الحفاظ على الثورة وحماية الأمن القومي للبلاد. انتخابات الخيار الأوحد بعد كل هذا الدمار لا تخلق الشرعية على المستوى الدولي،خصوصا إن كان الهدف منها إطلاق يد النظام نحو المزيد من إراقة الدماء في المستقبل،كما أنها لا تمنحه على مستوى الداخل السوري صفة القائد الشرعي المطلق بحكم مسرحية صناديق الاقتراع التي اخترعها هو ونظامه. ولعله ليس من المستغرب لو لجأ بعد ذلك لارتداء الأوسمة تكريما له كقائد ضرورة وكبطل قومي أنقذ سوريا من قبضة الإرهاب وفقا لمقاييس الحرب التي تكون عادة أحادية الجانب. وهنا يعيد الأسد موال الديكتاتوريات على مدى التاريخ،والتي يتحول قادتها بعد حدث ضخم بحجم الحدث السوري،إلى فراعنة يحكمون بمنطق ”أنا ربكم الأعلى”. احتفاء النظام السوري بمسرح العرائس الذي أخرجه بشكل فاضح،ونقل صور الزحف نحو صناديق الاقتراع والتطبيل لها على أنها خيار الشعب السوري ينطوي على الكثير من التدليس والتزوير للحدث السوري برمته،لأن كل ما يحدث لا يغير من الواقع السوري المحزن قيد أنملة. هذا بعد أن أصبح التعقيد سمة ملازمة لمجريات الأمور يوما بعد يوم وبشكل متزايد،ليأتي هذا في ظل معارضة مفككة لم تستطع أن تحقق الهدف المرجو من وجودها سياسيا وعسكريا من جهة،وحيرة النظام العالمي من جهة أخرى أمام واقع الشعب السوري،وعجزه عن اتخاذ التدابير العملية لإنقاذه من آلات الإجرام والقتل أو التخفيف من معاناته بالحد الأدنى. فالشعب السوري الذي اختلط عليه الحابل بالنابل،وجد نفسه على مدى ثلاث سنوات ملقى على قارعة طريق المجهول لمواجهة شكل فريد من إجرام الديكتاتوريات والفوضى،دون أن يرى بصيص أمل للخلاص في آخر نفق الخوف الذي دخله. وهو بالتالي لا يملك غير خيار ”الرضى من الغنيمة بالإياب” ليشتري ما بقي من عمره،ومستقبل أولاده من نظام لا يقيم وزنا لكمية الدماء التي يريقها كل يوم،ولا يتوانى عن التدمير الشامل لمقدرات الشعب وحياته. حتى جعل الشعب بين خيارات ثلاثة فقط وهي إما الأسد أو الأسد أو الموت بكل الأشكال.. يخطئ النظام السوري حين يعتقد أن الشعب السوري قد فقد ذاكرته،أو أنه يستطيع من خلال الصناديق غسل الأدمغة بإلغاء الجريمة ومحوها،وتحويل علاقته التي تلطخت بدماء الأبرياء مع الشعب إلى علاقة تقبل التفاهم وترضى بحجم الجريمة والعقاب. فالعلاقة اليوم هي علاقة مبنية على ميزان عدالة مائل إلى جهة الجلاد على حساب الضحية. وهو الفضاء الاجتماعي الذي لا يقبل إلا بالحديث بلغة الثأر والقصاص للمظلوم من الظالم. وهنا على الأسد أن يتذكر أن لنفوس الأيتام والأرامل المكلومين بعدد كبير من موتاهم،القدرة على إعادة دورة الحدث السوري من جديد إلى نصابه،بعد ثلاث سنوات عجاف تركها الأسد عالقة بذاكرة الناس - إلى أن يشاء الله - لم يرَ خلالها هذا الشعب فسحة أمل بحياة الحد الأدنى.