النزول بالمحط و إرسال فارس الاستطلاع عند نزول القافلة بالمحط وقت الظهيرة يتم إرسال فارس من فرسانها من أجل الاستطلاع و تحديد المسار الذي ستسير عليه القافلة في اليوم الموالي حيث يعود هذا الأخير قبل موعد الإفطار و في جعبته أخبار عن حال الطريق و الوضعية العامة حول الكلأ و كذا الأقوام الذين التقى بهم و ما خبره منهم مع العلم أن الفارس يكون من بين ثقاة شيخ القافلة و كذلك ممن لديهم معرفة جيدة بالطرق و الاتجاهات و أسماء الأماكن. نصب الرواق و تحضير الإفطار عندما يقرر شيخ القبيلة الاستراحة وقت الظهيرة يتم بسرعة نصب خيمة صغيرة جدا و هي جزء من "البيت" و تسمى "الرواق" الذي يعد بمثابة مطبخ يستعمل في إعداد الطعام و القهوة. و بعد نصب الرواق تقوم بعض النسوة باقتلاع بعض حشائش الإستبس اليابسة كالشيح و العجرم و الحلفاء و يتم استعمالها لإيقاد النار التي يطهى عليها الطعام كما يتم أيضا استعمال فضلات الأغنام "البعر" و الذي يتم تخزينه و تجفيفه بكميات كبيرة و يكون ضمن ذخيرة المرحول بكميات كبيرة تقدر بالقناطير و تطلق عليه تسمية "الوقيد". تشرع النسوة في تقاسم المهام فهاته تقوم بطحن القهوة بواسطة عملية "الدق" داخل مهراس من الحطب و الأخرى تحضر الخبز التقليدي "المطلوع" الذي لم يكن يحضر آنذاك باستعمال الخميرة و إنما توضع فيه كمية ضئيلة (قرصة) من الشب مكانها.في حين تعكف الأخرى على تحضير اللبن و استخراج الدهان منه بعد أن تم مخضه على ظهر الجمل طيلة أيام مسير المرحول، كما يعهد إلى امرأة أخرى بعملية سلخ و تقطيع الشاة التي ذبحها للتو الرجل. أما مائدة الإفطار فتتكون عادة من "الشنين" اللبن و "تمكشة" تمر أي قليل من التمر و الشربة "الحساء" و "الحميس" و "المشوي" إذا كان عند أهل المرحول ضيوف أو كون أصحاب المرحول أنفسهم قد نزلوا بمحط قريب من قوم آخرين الذين يؤدون بدورهم واجب الضيافة معهم التي لا تعتبر ضيافة أصيلة إلا عندما تنحر فيها شاة من خيار الغنم. و يتم تحضير شربة الإفطار من عجائن تقوم النسوة بصناعتها بالسميد و الزيت و تقطع بواسطة الغربال على شكل رقائق تشبه السباغيتي و هي ما تعرف باسم "المقطفة" عند أصحاب الولايات الشمالية. و تحضر الشربة مع ما يعرف ب الخليع أو "الشرنيح" و معناه اللحم المجفف أو القديد الذي يحضر بتشريح اللحم و تعريضه لبخار الماء ثم معالجته بالخل و التوابل أو ما يسمى ب "رؤوس الحوانيت" و يوضع الخليع داخل خيط على شكل سلسلة طويلة ثم يوضع للتجفيف في الظل و بعد ذلك يخزن الخليع و عجائن الشربة المجففة داخل المزود و عند تحضير وجبة الإفطار تأخذ منه المرأة "مخلبا" أي كمية معينة لتحضير الإفطار. أما " الحميس" بكسر الحاء و هو نوع من أنواع "الزواجة" فيتكون من البطاطس المقطعة إلى رقائق صغيرة و مثلها شرائح صغيرة من لحم الضأن. و يتم تحضير طماطم الصلصة عن طريق تشريح الطماطم و وضع الملح عليها ثم وضعها في مكان مهوى من أجل التجفيف و عندما تحتاجها المرأة في الطبخ فإنها تعمد إما إلى عملية طحن الطماطم المجففة أو وضع جزء مجفف بأكمله داخل القدر. و نفس الأمر بالنسبة لصنع "العكري" أو ما يسمى ب "الحمار" - بفتح الميم و تشديدها- و هو أحد أنواع التوابل المصنوعة تقليديا حيث تقوم المرأة بتجفيف الفلفل بنوعيه إما الحار أو الحلو و يعلق على شكل سلسلة طويلة داخل خيط ثم تقوم بطحنه إلى نوعين عكري حار و عكري حلو و الذي يدخل في تحضير عدة أنواع من الأطعمة التقليدية. أما فيما يتعلق بالهرماس فانه يحضر هو الآخر بواسطة تجفيف فاكهة المشمش حيث تشرح هذه الأخيرة و تترك للتجفيف نسبيا ثم يوضع عليها الملح و تعرض مرة أخرى للتجفيف بصفة كاملة و تستعمل المرأة الهرماس في صنع بعض أنواع المرق و كذلك لصناعة "المردود". و تعطي هذه المواد الغذائية المجففة للنسوة هامشا من الحرية في أعمالهن و بالتالي الانشغال بأمور أخرى كتربية الأولاد و تحضير ملابس الشتاء "كالقشابية" و "البرنوس" و "الخف" و كذا صناعة الخيمة أو ما يعرف ب "الفلجة". من سهرات البدو الرحل بعد الإفطار و مباشرة بعد الإفطار تشرع بعض النسوة في رفع الرواق من أجل الاستعداد لمواصلة المسير أما الرجال فينصرفون إلى السهرة و السمر و يتحلقون حول "سامر" من النار و يتبادلون الأحاديث حول ما شاهدوه في الطريق و كذا ما حمله لهم فارس الاستطلاع من أخبار و التناقش حول الطريق التي سيتبعها الركب و المراعي التي سترعى فيها الماشية كما أن السهرة يحضرها الأطفال الصغار برفقة آبائهم حتى يتعلموا منهم و يأخذوا عنهم فنون الكلام. أما إذا كان من بين أفراد القافلة من يقول الشعر فان السهرة ستكون أكثر خصوصية لما ينشده الشاعر من أشعار حول مواضيع شتى من حياة البدو الرحل القاسية و تزداد السهرة نكهة إذا كان هناك القصاب الذي أحيانا يقول له الرجال العبارة الشائعة "حوس بينا" أي خذنا و تجول بنا في معالم القصبة التي تحاكي بنفخات القصاب فيها تلك التعابير عن قساوة الحياة البدوية المتسمة بالحل و الترحال و المعاناة المختلفة كالأمراض و الفاقة و قطاع الطرق و الشوق و الحنين و النوستالجيا الى الأهل و الأحباء و الخلان و غير ذلك فضلا عن المعاني السامية التي لا يتنازل عنها "ناس البر" كالشرف و الكرم و حسن الضيافة و الغيرة على العرض و نصرة المظلوم. و يحدث أحيانا أن تلتقي قافلتان في المحط فيتم التعارف و أداء صلاة التراويح جماعة في خيمة أحدهم و إن كان من بين أفراد القافلة من لديه نصيب من العلم الشرعي فانه يلقي عليهم درسا أو موعظة دينية.كما يكون أحيانا لقاء قافلتين فرصة للنسب بينهما إذا ما وقع إعجاب أو رغبة في ربط مصاهرة و مازال لدي إلى الآن أقرباء في الغرب الجزائري بفضل تلك المصاهرة. و أثناء ذلك تكون النسوة قد أكملن حلب الأغنام و الماعز التي منعت صغارها (يعبر عن عملية فصل الصغار عن أمهاتها بالفعل "قيدد") من رضاعتها و تتم تلك العملية بربط هذه الأغنام و رؤوسها متقابلة و هو ما يعبر عنه ب "الدراس" و تكون عملية الحلب بسرعة لا تجيدها سوى المرأة الريفية ثم يوضع الحليب داخل "حلاب –بكسر الحاء-" مصنوع من الطين يوضع عليه الغطاء ثم يصب داخل "الشكوة " فيما بعد من اجل مواصلة المسير. بعد أن تقوم النسوة بجميع الأعمال التي تلي الإفطار يجتمعن هن أيضا فيما بينهن لتمضية السهرة تحت ضوء القمر و بين يدي كل منهن شيء تشتغل عليه فهاته تراها تمسك ب "المرباح" و هو أداة من الحطب على شكل مشط كبير صنعت أسنانه من أسلاك حادة تستعمل من اجل تنظيف صوف الأغنام مما علق به و الأخرى تغزل الصوف و تلك منشغلة برضيعها و أخرى تحضر القهوة للجميع في حميمية عائلية و نشوة و سعادة لا تضاهيها في الوجود سوى سعادة المرأة المؤمنة المقتنعة بالدور الذي تؤديه في سبيل سعادة زوجها و أبنائها ضاربة في ذلك أروع صور التضحية. عودة المرحول و صور من معاناة البدو الرحل بعد غياب طويل عن الأهل و الديار و بعد أن تكون فترة كراء "البلاد"- و هي أراضي الكلأ- قد قاربت على نهايتها يقرر كبير القافلة العودة إلى الديار فيتم جمع مرحول الإياب مثلما جمع يوم الرحيل و تنطلق المواشي بمعية بعض الفرسان قبلهم بمسير ثلاث أيام ليلتحق بهم الباقون و كلهم شوق إلى أخبار البلاد و العباد. يعود المرحول بعد غياب قد يصل إلى سنة أو أكثر و يجدون الكثير من المعالم قد تغيرت و معه أخبار جديدة عن أحوال الأهل و الأقارب فهذا قد زاد عنده الولد و ذاك قد زوج ابنه أو ابنته و هؤلاء قد انطلق مرحولهم إلى بلاد أخرى بحثا عن مصادر العيش لمواشيهم. و قد يحدث أن يفقد بعض أفراد المرحول أقرباءهم طيلة فترة الغياب و يحول بعد المسير و صعوبة الاتصال دون بلوغهم خبر النعي و هو الحال مع جدتي رحمها الله التي توفيت أمها شهرا بعد انطلاق المرحول و عندما عادت بعد دوران الحول وجدت أن أمها قد غادرت إلى الحياة الأخرى و قد تركت لها رسالة مفادها "أني راضية عنك و أعطيك دعوة الخير" فلا تجد أمامها إلا أن تصبر و تحتسب لأن الحياة القاسية التي عاشتها قد علمتها الصبر و الجلد أمام مصاعب الحياة كما أن في حياة البدو الرحل عبرة لمن يعتبر في هذه الدنيا و هنا يحضرني حديث النبي صلى الله عليه و سلم " مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها""رواه الترمذي"، و حال الإنسان في الدنيا كحال مرحول مر بمحط فأقام به نصف نهار و نصف ليلة ثم رحل في اليوم الموالي و هو المعنى الذي يفهمه جيدا أهل البادية. كما أن صعوبة الحياة البدوية قد علمت سكان البادية مجابهة الصعاب و التغلب عليها و التضحية في سبيل قهرها و لعل أروع صورة من صور التضحية هو حال المرأة البدوية ليلة العواصف و الأمطار حيث تراها في تلك الليلة إلى جانب زوجها خارج الخيمة و هي تمسك المعول بيدها و تحفر السواقي على جوانب الخيمة من أجل تصريف مياه الأمطار المتجمعة حواليها حتى لا تتسرب الى الداخل غير مبالية بالبرد ثم سرعان ما تسرع إلى الداخل و تقوم بإرخاء رباط أعمدة الخيمة لكي لا تقطعها الرياح ثم تعود من جديد إلى الخارج و تقوم بتثبيت الأوتاد حتى لا تقتلع العواصف الخيمة و ديدنها في ذلك هو راحة أبنائها و إعانة زوجها على مصاعب الحياة لا سيما في ليالي الشتاء الطويلة ،و في حال ما إذا أصيب أحد أطفالها بنزلة برد فان والدته تبيت الليل ساهرة تمرضه حيث تقوم بتحضير شراب ساخن من الأعشاب الطبية المسماة "الأجوار" و هي جمع جور و أثناء ذلك تربط على رأس الطفل "عصابا" بكسر - العين- واضعة له داخله العطر و القرنفل و غير ذلك من الأدوية التقليدية التي ما زالت تستعمل إلى الآن و أثبتت فعاليتها في العلاج. شهادة للتاريخ بقي شيء آخر و هو شهادة تاريخية لجدتي رحمها الله و هو أن المرحول و أهله قد لعبوا دورا كبيرا في محاربة الاستعمار لأن تنقل القافلة المستمر كان يساعد على نقل السلاح و نقل المؤونة للمجاهدين في كل مكان تحل به القافلة كما أن هناك من أفراد القافلة – تضيف جدتي- من حمل السلاح في المحط الذي كان نقيم فيه و قد ساعده ذلك في التواري عن المستعمر و أذنابه من الباشقات و الحركى الذين كان ينقلون للمستعمر الأخبار عن المجاهدين و الفدائيين لأن "حركي الدوار" لا يعرف أفراد المرحول. كما حكت لي جدتي عن الطعام الذي كان يحضر لكتائب المجاهدين حيث يتم نحر شاة و تحضير الطعام و "المطلوع" الذي تبيت النساء الليل بأكمله تقمن بإعداده ليصل العدد الثلاثمائة خبزة يحملها جدي فجرا مع قطع اللحم لوحدها دون المرق اتقاء التسمم. و قد حدث أن سيق أفراد مرحولنا من الرجال و الشباب - تقول جدتي- زمرا إلى مركز للتعذيب بعد أن شك المستعمر في تعاونهم مع المجاهدين حيث تم إطلاق الشباب اليافع في حين حكم على الرجال الكبار و من بينهم جدي رحمه الله بالسجن لمدة عشرة أشهر تعرضوا فيها لأبشع أنواع التعذيب بسجن البرواقية حتى كان جدي رحمه الله – تقول جدتي – لا يستطيع النوم على ظهره من آثار التعذيب و ما تزال بحوزتي إلى الآن وثيقة تثبت مدة سجنه و تاريخ الحكم عليه إلا أن مديرية المجاهدين لم تعطه صفة المجاهد لأن تلك الوثيقة في نظرها لا تعتبر وثيقة إثبات الجهاد ضد المستعمر. رحمهم الله أجمعين و جعل الجنة مدخلهم و جعلنا خير خلف لخير سلف.آمين.