الحمد الله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد: إن الفرنسي روجي غارودي شخصية هامة في التاريخ الفرنسي المعاصر، فهو المؤرخ، والمفكر، والسياسي. عركته الأيام وحنكته التجارب فحمل على عاتقه البحث عن الحق والحقيقة، فخاض في الماركسية، وفضح الرأسمالية، وأغلظ على الصهيونية فشد عليها الوثاق، وفي الثلث الأخير من عمره وجد في الإسلام ضالته وارتكن إليه ودافع عنه وكشف الأباطيل عمن يدعون أنهم حماة الحق. والذي نحن بصدده هو علاقة هذا الفرنسي بالجزائر عموما، ومنطقة الجلفة بوجه الخصوص في بداية العقد الرابع من القرن العشرين. نبذة وجيزة عن حياة روجي غارودي 1913-2012م: ولد روجي غارودي الفيلسوف الفرنسي في مرسيليا بفرنسا عام 1913م ، من أب ملحد وأم كاثوليكية، و هو على مذهب البروتستانت، تخصص في بحوث الحضارة والتاريخ والأدب وعلوم الإنسان، درس بجامعة مرسيليا و جامعة ايكس أون بروفانس، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ودرّس الفلسفة سنة 1937م، وأُسر في الحرب العالمية الثانية، ثم نقل إلى معتقل "عين اسرار" شمال مدينة الجلفةبالجزائر بين سنتي 1940 – 1942م، وفي سنة 1945م انتخب نائبا في البرلمان، حصل غارودي على درجة الدكتوراه الأولى سنة 1953م من جامعة السوربون والدكتوراه الثانية سنة 1954 م من جامعة موسكو، كما أنه أول مترجم فرنسي لمؤلفات الزعيم السوفياتي لينين- فلاديمير إيليتش أوليانوف- 1870-1924م، وفي سنة 1970م طُرد من الحزب الشيوعي الفرنسي لانتقاده للاتحاد السوفياتي، وأسس مركز الدراسات و البحوث الماركسية. كما أنه قابل العديد من الشخصيات العالمية أمثال فيدال كاسترو، و هواري بومدين ... توفي رحمه الله تعالى في 13 جوان 2012م وله من العمر تسع وتسعون (99) سنة، كما أنه ترك نتاجا فكريا لا بأس به. مؤلفاته: أمريكا طليعة الانحطاط، ملف اسرائيل، أحلام الصهيونية وأضاليلها، الأساطير المؤسسة للسياسية الاسرائيلية، كتب عن كارل ماركس، من تعتقدون أنني أكون؟، فكر هيجل، الحرية، النظرية المادية للمعرفة، ماركسية ضد العصر، حوار بين الحضارات، البديل، الإرهاب الغربي، إنذار إلى الأحياء، كيف صار الإنسان إنسانًا، محاكمة الصهيونية الإسرائيلية، فلسطين مهد الرسالات السماوية، الإسلام وأزمة الغرب، مستقبل المرأة وغيرها، جولتي وحيدا حول هذا القرن، المسجد مرآة الإسلام، وعود الإسلام، الإسلام دين المستقبل. إسلام روجي غارودي ... العلامة الأولى بعين السرار: لقد تداخلت في حياة المفكر روجي غارودي عدة توجهات دينية وأخرى سياسية كالإلحاد، والمسيحية ثم الشيوعية، كما أنه كشف الستار عن الصهيونية؛ وهذا من خلال مؤلفاته الكثيرة التي تتناول هذه الأمور، لكن بفهمه الواسع والخوض في غمار البحث، استطاع أن يصل إلى الحقيقة الكونية والأسمى؛ هي أن الإسلام هو دين الخلاص، فقد أعلن غارودي إسلامه شهر رمضان الموافق ل02 جويلية 1982 م في المركز الإسلامي لجنيف بسويسرا. و من بين الأسباب التي انجذب إليها روجي غارودي إلى الإسلام هي حياة المسلمين العاديين، إخلاصهم لدينهم ومبادئهم، واحترامهم للإنسان؛ حيث يروي بنفسه القصة التالية: "عن الرصيد الأبرز في حياتي و الذي صاغ وجداني وهيأني للدخول إلى الإسلام بدأ يتشكل في معسكر عين اسرار بالجلفة". ويضيف في احد الحوارات التي أجريت معه: "لقد عشت في بداية الحرب العالمية الثانية تجربة فريدة من نوعها، لأن قوات الاحتلال الألماني قبضت على المجموعة الأولى للمقاومة الفرنسية حين سقطت باريس، وصدر الأمر بنقلها إلى معسكر الجلفة في جنوبالجزائر وكنت أحد أفراد هذه المجموعة". أما الحادثة الهامة المتعلقة بإسلامه، وتأثير سلوكيات الجزائريين عليه في المعتقل فقد ذكرها في سياقين أحدهما أكثر تفصيلا في كتابه "كلمة رجل":" وفي الرابع من مارس كنا زهاء 500 مناضل من المعتقلين والمسجونين لمقاومتنا الهتلرية، وكنا هُجّرنا إلى "الجلفة" في جنوبالجزائر ، وكانت حراستنا بين الأسلاك الشائكة في معسكر الاعتقال مدعومة بتهديد رشاشين، وفي ذلك اليوم بالرغم من أوامر قائد المعسكر، وهو فرنسي، نظمنا مظاهرة على شرف رفاقنا من قدامى المتطوعين في الفرق الدولية الإسبانية، وقد أثار عصياننا حفيظة قائد المعسكر، فاستشاط غضبا وأنذرنا ثلاثا بأنه سيأمر بإطلاق النار إذا لم نعد على الفور لخيامنا، ومضينا في عصياننا، فأمر حاملي الرشاشات وكانوا من جنوبالجزائر بإطلاق النار، فرفضوا، وعندئذ هددهم بسوطه المصنوع من طنب البقر، ولكنهم ظلوا لا يستجيبون، وما أجدني حيّا إلى الآن إلا بفضل هؤلاء المحاربين المسلمين، وقد أوضح لنا أحدهم سبب ذلك: إن ما ينافي شرف المحارب من الجنوب أن يطلق رجل مسلح النار على رجال عُزّل. وانطلاقا من هذه التجربة، يضيف غارودي، أخذت منذ إطلاق سراحي، في الجزائر، ثم في تونس بدراسة الدين الإسلامي... و في حوار آخر يقول: "وكانت هذه أول مرة أتعرف فيها على الإسلام من خلال هذا الحدث المهم في حياتي." فالرجل لم يسلم بمحض الصدفة بل جاء إسلامه بعد بحث طويل في الحضارات وديانات العالم كله، كما ساهم وبقوة في الوقوف ضد تحريف الغرب لصورة الإسلام. وخاتمةً القول؛ فإن دور معتقل عين السرار والبيئة التي عاشها السجناء في بداية الأربعينيات 1940-1942م كانت أحد الأسباب التي تعتبر اللبنة الأولى من نوعها في إسلام المفكر و السجين الفرنسي روجي غارودي؛ لما وجده من عقلية السكان المسلمة في التعامل مع الأعزل، علاوة على أنه ذو مكانة علمية مرموقة، فقد اهتدى للإسلام بالبحث والنظر؛ وميزة الاهتداء لا يبعثها الله عز وجل إلا في قلوب الباحثين عن الحق. (*) الأستاذ صلاح الدين بن عبد الرحمان هزرشي / ماستر تخصص تاريخ حديث ومعاصر مارس 2009: إصدار جديد للمفكر الكبير روجيه جارودي…و قصة بداية إسلامه من الجلفة جوان 2012: حادثة الجلفة أفضل من عشر سنوات ب"السوربون" / "روجيه جارودي" يغادرنا بعد عطاء و جهاد كبير