سي بن علية فتيلينة بسم الله الرّحمان الرّحيم. الحمد لله على أفضاله، و الصّلاة و السّلام على سيّدنا مُحمّد و صحبه و آله(1). و بعد : ممّا اشتدّت الحاجة إليه في هذا الأوان الّذي نعيشه هُو التّنويه و الإشادة بما قدّمه أهل القُرآن(2)، خدمة للدِّين ؛ في تثبيت و ترسيخ ثوابته و تعاليمه و هديه. و للعربيّة ؛ في تعليم قواعدها و إعرابها و ثقافتها، و تيسير تعبيراتها و تعابيرها، و تقريب أساليبها و بيانها. و للوطن ؛ في جمع أهله و ساكنيه على كلمة سواء، و تعزيز أواصر التّرابط و الإخاء و المحبّة بينهم. و تشتدّ أكثر إذا كان هؤلاء أهل القرآن قد عاشوا و لا يزالون في بيئة خانقة قاتلة، تتخطّفهم يد الغُربة و الإهمال و الضّيق و المشقّة و العَنت و شظف العيش، و قد جعلت كثيرا منهم مَرْكُوزِين مَرْكُولِين مَحْقُورِين، و قد أحاطت بهم مَواخر (مواخير) الإلهاء و الإغراء و الرِّيبة، من كلّ جهة، و قد تجلّت هذه الصُّور المُلبّدة بالغمام و الضّباب، بمنطقتنا الجلفة الشّاسعة، و شاهدنا ذلك و سمعنا عنها من طريق غير واحد..و نحن و غيرنا من الغيارى شمّرنا ساعد الجدّ، و ألقينا عصا الأسى و الحسرة، و عزمنا إن شاء الله أن تكون لنا و لِغيرنا مُشاركة طيّبة، في إرساء دعائم بيئة صالحة يعلو فيها صوت العلم، و يجد فيها شُداة المعارف و الثّقافات وَصلهم و بُغيتهم و منالهم و مَراقيهم، و تكون فيها تقاليد و أدبيات ثابتة و محفوظة و مُتّبعة. و من الّذين يجب التّنويه و الاحتفاء بهم، و قد عاشوا في هذه البيئة، و عايشوا بعض ما مرّ بها من أحداث و وقائع، و تعرّفوا إلى شيوخ أفاضل كانوا بها رمزا للتّعليم القُرآني و الشّرعيّ، و استفادوا منهم و أفادوا عنهم، و كانوا من حُفّاظ كتاب الله و مُدرِّسيه ؛ الشّيخ فتيلينة بن علية. و قد اقتبست شذرات من حياته و آثاره بطريقة مُختصرة، بالرّغم من أنّ أمثاله من أهل القُرآن الصّادقين، لا تُحصر حياتهم و آثارهم في سطورٍ، و إنّما للإحاطة بها لابدّ من كتابة أسفار. نقول هو : بن علية (بنعلية) بن عبد النّبيّ بن الحاجّ بن عزيّز بن بلقاسم بن أحمد بن سليمان بن شيبوط بن عبد القادر بن محمّد (فتحا) بن عبد الرّحمان بن سالم بن مُليك بن يحيى بن يحيى بن محمّد (نايل) الإدريسي الحسني الشّريف، سليل بيت عربي عريق، حسيب نسيب، يستمدّ الشّرف و السِّيادة، من انتمائه إلى العترة النّبويّة الشّريفة. كان ميلاده في شهر أوت، من عام 1934 م، قُرب مدينة حاسي بحبح. التحق بالكُتّاب، عند الشّيخ مُحمّد بن حُوريّة القندوز القويني النّايلي، دفين الهامل. و تعلّم عليه القراءة و الكتابة، و حفظ أجزاء من القُرآن الكريم، ثمّ ارتحل سنة 1951 م، إلى زاوية الهامل، الّتي ظلّ بها مُقيما، إلى غاية نهاية سنة 1953 م، حيث أنهى حفظ القُرآن كاملا. و عند عودته لموطنه الأصليّ شرع سنة 1954 م، في مُلازمة شيوخ الفضل و العلم الّذين كانوا موجودين في ذلك الحين بمدينة الأدب و الشّعر حاسي بحبح، و الأخذ عنهم و التّلقّي منهم ؛ فقرأ الآجرّوميّة و القطر و الألفيّة و الرِّسالة و المُختصر الفقهيّ شرحا، على الشّيخ بنعزّوز بن المختار بن محمّد القاسمي الشُّرفي(3) (ت 1984 م)، و قرأ ابن عاشر شرحا أيضا، على الشّيخ مُولاي عبد الله المغربي الأصل(4)، الّذي وفد على المدينة المُومى إليها آنفا، قبل سنة 1920 م، و امتهن الفلاحة و الغِراسة، عند باش آغا (بَشَاقَا) الشّريف القويني النّايلي، و أصهر إلى أولاد العقّون، من أولاد بُو عبد الله، من أولاد سي محمّد (بالفتح)، و كانت وفاته عن سنّ عالٍ، ما بين سنتي 1963 م، و 1969 م، و أُقبر في حوش النّعّاس (دار الشّيوخ). و ما بين سنتي 1961 م، و 1962 م(5) حضر بانتظام دُروس الشّيخ لزهاري بن السّعيد بن أحمد جرو الدّنيدني النّايلي (ت 1982 م)، في العربيّة و الفقه، و جالس كُلّا من الشّيوخ ؛ المكِّي بن المُختار بن مُحمّد القاسمي الشُّرفي (ت 1967 م)، و بوبكر بن عمر مسروقي العلواوي (ت 1981 م)، و بوبكر بن يحي بن قويدر العلواوي (ت 1975 م)، و مُحمّد لزهاري بن المكّيّ القاسمي الشُّرفي (ت 1997 م)، و أفاد عنهم جميعا. عانى التّعليم القُرآني بداية من سنة 1954 م، بمقارئ مدينة حاسي بحبح. و في سنة 1965 م انتقل مُدرِّسا إلى زاوية اللّفيعة (لَمْشَاه)، بالزدارة (الصدارة)، بزاقز الشّرقي ؛ بطلب من شيخها وقتئذ الشّيخ بنعلية (بن علية) المُتوفّى 1991 م، و دام بها حتّى سنة 1971 م. و لِنفس الغاية النّبيلة و المهمّة الشّريفة، توجّه سنة 1977 م، إلى زاوية بن عرعار، بزاقز الشّرقي، و هي أقدم زاوية على الإطلاق في ما نعلم بولاية الجلفة كُلّها، و يعود تاريخ افتتاحها إلى عامّ 1780 م، و ظلّ فيها إلى نهاية سنة 1980 م، أين عاد بصفة مُستقرِّة، لمدينته الّتي تربّى فيها، و لم ينقطع عن وظيفته الّتي أحبّها و جعلها شعاره و دثاره و أدّاها بشرف و أمانة، حتّى غاية 2007 م. و قد تخرّج به و تأدّب على يديه طلبةٌ كُثرٌ. و توازيا مع ذلك فقد أمّ النّاس في الصّلوات الخمس، و صلّى لهم التّراويح سنين عديدة. و الشّيخ بنعلية فتيلينة على تصوّف فيه من تهذيب الأخلاق و التّأدّب بجميل الآداب الشّيء الكثير، كان ثمرة مُلازمته لأهل العلم و الفضل الّذين أدرك بعضهم و جايل بعضهم الآخر، و قد توارثوا هُم بينهم هذا الأمر خالفًا عن سالفٍ(6). و هو يتمثّل قول الإمام الفقيه ابن الحاجّ العبدريّ(7) (ت 737 ه) : ليس التّصوّف لبس الصّوف ترقعه... و لا بكاؤك إن غنّى المُغنّونا و لا صياح و لا رقص و لا طرب... و لا اختباط كأن قد صرت مجنونا بل التّصوّف أن تصفو بلا كدر... و تتّبع الحقّ و القرآن و الدّينا و أن تُرى خاشعا لله مُكتئبا... على ذنوبك طول الدّهر محزونا و له فواضل و فضائل، و قد كانت تربطه بالشّيخ الفاضل الأريب مُحمّد بن سعدة العيفاوي النّايلي، المعروف بالكُتبيّ (ت 2009 م)، علاقة مُتميّزة، مبنية على المحبّة و الصّدق و محض النّصيحة، و لطالما أثنى عليه هذا الأخير خيرا، و ذكّر بمحاسنه و مفاوزه، و أوصى بزيارته و صُحبته. و قد حضر مجالسة لمرّات مُتكرِّرة(8)، كان فيها مُستمعا مُنصتا، لا يُحرّك لسانه بِبِنْتِ الشَّفَة ؛ هيبة و احتراما و تقديرا. و كان مجلس الكُتبيّ مجلس أدب و وقار، لا لغو فيه و لا استغراق في الضّحك. و لا يزال مُثابرا على قراءة القُرآن من حِفْظِه إلى ساعتنا هذه، و له بعض الجلد على مُطالعة و تصفّح الكُتب، الّتي تُعنى بالعربيّة و التّفسير و الفقه المالكي، و قد اقتنى في ذلك مكتبة تفي بالغرض و تُؤدّي المطلوب، و هو يحفظ بعض اللّطائف و الشّرائد و النُّتف غيبا، و له بعض الأخبار و السّماعات، بالإضافة إلى دربه اللّاحب في التُّقى و الورع و الانقطاع للعبادة(9). و هو حقيقة من القوم الّذين لا يشقى بهم جليسهم... نحسبه كذلك و الله حسيبه. و لا نزكّي على الله أحدا. هذا ما قرأته في لوحة التّرائي الّتي نُصّبت خصِّيصا للتّعريف بهذه الشّخصية، و من رأى غير ما أوردته في مقالتي هذه، فذلك حسبه و مدركه من العلم. قال الشّاعر : و إذا خَفِيتُ على الغَبيّ فَعَاذِرٌ... أنْ لا تَراني مُقْلَةٌ عَمْيَاءُ(10) و الحمد لله الّذي تتمّ به الصّالحات، و الصّلاة و السّلام على سيّدنا مُحمّد، و على آله و صحبه الّذين سبقونا بجميع الكمالات. هوامش 1 قدّمنا الصّلاة على الصّحب على الصّلاة على الآل ؛ حتّى لا يختلّ السّجع، و في ذلك خلاف للمُتعارف عليه ؛ لأنّ تقديم الآل هو الوارد في الكيفيات المرويّة، فهي ثابتة بالنّصّ. و قال آخرون الصّلاة على الصّحب جاءت من طريق القياس. هذا على اعتبار أنّ الآل هم أقارب النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم). أمّا إذا فُسّر الآل بالأتباع، فقد دخلت الصّحابة (رضي الله عنهم جميعا) في ذلك، و كانت فيه تورية. و الله أعلى و أعلم. 2 عن عُثمان بن عفّان (رضي الله عنه)، عن النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم)، قال : (خيركم من تعلّم القرآن و علّمه.). رواه البُخاريّ و مُسلم و أبو داود و التّرمذيّ و النّسائيّ و ابن ماجة و غيرهم. و عن أنس (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه و سلّم) : ( إنّ لله أهلين من النّاس، قالوا : من هم يا رسول الله (صلّى الله عليه و سلّم) ؟ قال (صلّى الله عليه و سلّم) : أهل القرآن هم أهل الله و خاصّته.). رواه النّسائي و ابن ماجة و الحاكم، و قال المُنذريّ : إسناده صحيح. و صحّحه الألبانيّ. و عن ابن عبّاس (رضي الله عنهما)، عن النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم) أنّه قال : (أشراف أمّتي حملة القُرآن و أصحاب اللّيل.). رواه الطّبرانيّ و البيهقي و ابن أبي الدنيا و ابن عديّ و حمزة السّهميّ و الخطيب البغدادي. و ضعّفه الهيثمي و المُنذري و المُناوي و الألبانيّ. قال الحافظ المُناوي (رحمه الله تعالى) : حملة القرآن هم حفّاظه الحاملون له في صدورهم، العالمون تلاوته العاملون بمقتضاه، و أصحاب اللّيل هم الّذين يحيونه بأنواع العبادة. اه. 3 نسبة إلىى شُرفة البوازيد من ولد بُوزيد بن عليّ الإدريسيّ الحَسني. و الله أعلى و أعلم. 4 و على غِراره كثيرون استوطنوا بعض مُدن منطقة الجلفة ؛ الإدريسيّة و الشّارف و حاسي بحبح و مسعد (بصفة أخصّ). منهم الشّيخ ابن عبد الملك المغربي، المعروف بسي بن عبد الملك، الّذي وفد على منطقة الزّواقز، بالجهة الظّهراويّة، عبر طريق الشّمال، الّذي أشرنا إليه في مقالنا المُعنون ب " طُرق المغاربة المُتنقّلين إلى المشرق العربي عبر ولاية الجلفة "، و المنشور عبر جريدة الجلفة إنفو، بتاريخ 19 جويلية 2016 م. و ذلك في بداية القرن العشرين، أو قبلها بقليل. و قد درّس عُلوم العربيّة و الفقه، بزاوية اللّفيعة (لَمْشَاه)، بالزدارة (الصدارة)، بزاقز الشّرقي، سنة 1905 م، كما حدّثني بذلك الشّيخ بن مشيه بن مشيه (حفظه الله)، المُشرف الحالي على الزّاوية المُومى إليها. و بعض هؤلاء المغاربة اندمجوا اندماجا تامّا في التّركيبة الاجتماعيّة لهذه المُدن. و الله أعلى و أعلم. 5 لقد أخبرني مُؤخّرا، في لقاء جمعني معه، بمسكنه الخاصّ، صباح يوم الاثنين 09 شوّال 1438 ه، المُوافق 03 جويلية 2017 م، أنّ الفترة المُمتدّة من سنة 1954 م، إلى سنة 1962 م، و هي سنوات ثورة التّحرير المُباركة، كان قد قضاها قراءة و تلقّيا و إِقراء. و الله أعلى و أعلم. 6 هذا لا يعني أبدا إقرارنا لمشرب التّصوّف بجميع أطيافه و طبقاته و طُرقه، و لكن ذكرنا ذلك من باب الحكاية و الوصف و ذكر الجميل. و الله أعلى و أعلم. 7 نسبة إلى بني عبد الدّار، على غِرار العبديّ نسبة إلى عبد القيس . و يُقال العبقسيّ. و الله أعلى و أعلم. 8 من بين الّذين كانوا مُلازمين لهذه المجالس ؛ عبد الحميد الملّاخ، و بن قمّازة، و بلعقارب (رحمه الله)، و بومقواس عامر. و قد حضرت بعضها. و الله أعلى و أعلم. 9 قال الشّاعر : أنست بوحدتي و لزمت بيتي... و طاب الأنس لي و صفا السُّرور. 10 قال بعضهم : معنى ذلك ؛ إذا خفي مكاني على الجاهل فلم يعرف قدري و لم يقرّ بفضلي فأنا عاذرٌ له ؛ لأنّ الجاهل كالأعمى، و المقلة العمياء إن لم ترني كانت في عذر من عماها ،كذلك الجاهل. اه. و الله أعلى و أعلم.