ببالغ الحزن والأسى تلقينا نبأ إنتقال المغفور له بإذن الله المجاهد محمد بجقينة يوم أمس عن عمر ناهز 76 سنة، لقد كان المرحوم من أبناء الجلفة الذين لبوا نداء الواجب الوطني وإلتحقوا بصفوف الثورة التحريرية المباركة. مولده، تعليمه ونشأته في بادية بوذيب قرية الشارف ولد المجاهد محمد بجقينة في أحد أيام سنة 1942م، من أسرة ميسورة الحال، عائلة كريمة متمسكة بشدّة بالعادات والتقاليد مع أسرته الكبيرة الأب وأعمامه الإثنين وجدته التي قامت بتربيته، تربى على التقوى والسلوك الحسن، إلتحق بالكتاب مثل أقرانه لحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية، وزاول دراسته بقريته، وفي سنة 1953م ولحرصه على طلب العلم إنتقل إلى الأغواط ليدرس عن عمته في المدرسة الحرة "إبن باديس" لمدة عامين، وكان يدرس باللغتين العربية والفرنسية، واصل رغم القيود الإستعمارية حول تعليم الجزائريين، ليتحول فيما بعد إلى مدينة الجلفة وإنخرط بمدرسة الإخلاص درس مبادئ الفقه والعلوم، وتعلم الحرفَ والثورية وحب الوطن وحفظ الاناشيد المعروفة آنذاك، وبمرور الزمن تحسّن مستواه بحيث كان يستطيع قراءة الصحف وكتابة الرسائل . الإلتحاق بصفوف جيش التحرير ومهمته الأولى في مطلع سنة 1960م، وعند بلوغ محمد سن السابعة عشر أحس بالمسؤولية وتهيكل في صفوف جبهة التحرير الوطني، وهذا عندما كان المجاهدون يترددون على عمه علي بن الطيب بجقينة بإعتباره مناضلا كبيرا وتتوفر لديه المعلومات عن الثورة والثوار، وعائلته التي سخرت وسائلها وإمكانياتها لخدمة الثورة وتقديم الدعم والسند للمجاهدين، ففي يوم من الأيام وبينما هم على مأدبة عشاء، أخبر المسؤول '' البار المبخوت'' برغبته في الإلتحاق بركب الجهاد، فأعطاه موعد للإلتقاء به وحدّد له الوقت واليوم، وتمّ اللقاء وأخذه معه إلى جبل حواص وقدمه للمسؤولين كمجند جديد، وتعرّف على الجنود والإطارات واضعا نفسه تحت قيادة جيش التحرير، الذي منحه إسم ''الدراجي''، وبعد شهر من التدريبات كُلّف بعملية فدائية بمدينة الجلفة وقد تم وضع قنبلة يدوية الصنع على خصره وأرسل إلى الجلفة بلباسه المدني، لكنّ المهمة لم تتم لظروف معينة، فأرسل له أحد المكلفين بالإتصال يخبره بوقف العملية وضرورة إلتحاقه بالجبل. تواصلت التدريبات بعدها على السلاح وحرب العصابات، ومنحوه سلاحا ولباسا عسكريا، وقد اكتسب خبرة وتجربة في الميدان العسكري، من خلال احتكاكه بالمجندين، شارك بجقينة في عدّة عمليات تخريبية وإشتباكات وكمائن كان آخرها إشتباك مع القوات الفرنسية بجبل حواص في يوم من أيام شهر سبتمبر 1960م حيث ألقي عليه القبض وإنتهت بذلك مسيرته الثورية. دخوله السجن بالجلفة ..ظلم وقهر وحرمان والذاكرة تأبى النسيان يقول المجاهد محمد بجقينة في لقائنا معه ذات يوم أنه :''.. في سنة 1960 م وإثر تمشيط القوات الفرنسية لجبل حواص الذي كنا نتواجد به ولم يمضي على تجنيدي سوى 06 أشهر في جيش التحرير قبض علينا أنا وجندي آخر من بلاد القبائل -الذي سمعت فيما بعد أنه نقل إلى الجزائر- وفي الحال تمّ وضع السلاسل في أيدينا وتقطيع الشارات الموجودة على أكتافنا. ومن ثم تم اقتيادي إلى سجن المكتب الثاني "دوزيام بيرو"، حيث كانوا يقومون باستجوابي كل يوم عن هويتي وعملي في صفوف الجيش والمواطنين الذين يمدوننا بالمؤونة، وخاصة عن المجاهدين والقادة العسكريين، فقد كانوا يأتون بصورهم ويسألونني عنهم وعن مكان تواجدهم وهل التقيتهم شخصيا وهكذا .. كانت الاستجوابات تتم يوميا تحت شتى أنواع التعذيب ، من ضرب وشتم ، و كهرباء، وظروف معيشية صعبة فلا أكل ولا شرب واستمر الحال بي لمدة 10 أيام، وبعد أن عرفوا كل المعلومات المتعلقة بي من طرف حركي يعمل لديهم واتضح لهم أنني لا أشكل خطرا كبيرا لهم نقلت إلى سجن روس العيون بالجلفة (Ctt) وهناك وجدت عددا كبيرا من المعتقلين. كان النظام فيه يختلف عن السجن الذي كنت فيه فلم يمارس عليّ التعذيب الجسدي، كان عبارة عن غرف عديدة وفي كل زنزانة يمكث سجينان، كما يوجد به سيلون (1 متر طول) يوضع فيه المعاقبين قيد التحقيق ويمنع عنه الزيارت التي كانت كل 15 يوم، ويؤخذون كل يوم إلى "دوزيام بيرو" للتعذيب والاستنطاق ويرجعونهم في المساء في حالة يرثى لها. معتقل "كان موران" بقصر البخاري... رحلته إلى الأعمال الشاقة بعد أن مكث مدة 06 أشهر بسجن رؤوس العيون، حول ملفه إلى المحكمة العسكرية بصفة ''معتقل حرب''، وبعد الانتهاء من التحقيق نقل ومجموعة من المجاهدين إلى معتقل "كان موران" بقصر البخاري ولاية المدية، الذي يعتبر من أكبر معتقلات الإستعمار الفرنسي أثناء ثورة التحرير، وهنا بدأت مرحلة أخرى من العذاب النفسي، رفقة خيرة أبناء المنطقة، هذا السجن كان الأكل فيه قليل ورديء جدا، بحيث كان يتناول ورفاقه المعتقلون حساء ورغيف خبز يابس واحد في اليوم يقتسم بين ثلاثة أشخاص، أما الزنزانات فيصفها بكونها قاعات لا تتعدى مساحتها المتر مربع وهي خالية من أي فراش أو غطاء. كان المعتقلون يرتدون الزي العسكري ومجبرين كل صباح على القيام بأعمال شاقة مهينة ومقرونة بالسب والشتم والضرب والعزل، كاستخراج الرمل والحجارة وحفر القنوات و العمل في ورشات البناء ومن الصباح الباكر وبدون إنقطاع إلى المساء، وقد فُصل المعتقل عن العالم الخارجي بحرمانه من أي وسيلة للإعلام وبأي حرية للكلام مع الزائرين الذين لا يسمح لهم إلا بعد فترة من الزمن. وبقي وضعه على هذا الحال إلى غاية وقف إطلاق النار. وفاته.. شاءت الأقدار أن يفارقنا إلى مثواه الأخير يوم أمس الثلاثاء الموافق ل27 مارس 2018 المجاهد، والأب الحنون، والجار الطيب "محمد بجقينة" المعروف في الثورة بإسم ''الدراجي''، وأحد الذين صنعوا تاريخ المنطقة بتضحياتهم، وبهذه المناسبة الأليمة نتقدم بأصدق التعازي إلى كافة الأسرة الكريمة ، سائلين المولى عزّ وجل أن يسكنك جنة الخلد والرضوان مع الشهداء والصديقين، متضرعين الله أن يلهمنا وذويك جميل الصبر والسلوان . إنا لله وإنا إليه راجعون...