وهران: مسرحية "الصمود" تستحضر محطات خالدة من الثورة التحريرية المظفرة    جثمان المجاهد بلقاسم بزة يوارى الثرى بمقبرة خنشلة    الجزائر العاصمة: انهيار بناية قديمة ببلدية القصبة دون تسجيل أي خسائر    الصين تثمن الدور الهام للجزائر في تعزيز السلام بالمنطقة والعالم    خنشلة.. معركة " أغروط أغقالت "… محطة فارقة في الولاية التاريخية الأولى    معرض جماعي لأعمال جزائرية تشكيلية حول طبيعة وثقافة الصين    تكريم ثلاث شركات جزائرية ناشئة لابتكاراتها في مجال الصحة الإلكترونية    كرة القدم المدرسية: تأهل المنتخب الجزائري للذكور إلى البطولة الإفريقية    كرة القدم: "الفاف" تعلن انطلاق محاضرات المتربصين لنيل شهادة "كاف أ"    صدور القانون الأساسي الخاص بالموظفين المنتمين للأسلاك الخاصة بالتربية الوطنية    "الأونروا": 660 ألف طفل فلسطيني في غزة بلا تعليم و88% من مدارس القطاع مدمرة    أبو الغيط يشيد بمبادرة الجزائر لعقد جلسة "هامة" من أجل تدعيم العلاقة بين الجامعة العربية ومجلس الأمن    هلاك شخص وإصابة آخرين في حادث مرور بولاية الوادي    إيرلندا: إلغاء المئات من الرحلات الجوية بسبب عاصفة اجتاحت البلاد    سعيود يشيد بالدور الفعال للمؤسسات الناشئة في الرقي بقطاع النقل    بلمهدي: الجزائر حريصة على ضمان تكفل أفضل بالحجاج خلال موسم الحج    بوغالي يترأس اجتماعا تحضيريا للملتقى البرلماني حول التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر ابان الاستعمار    الصحافة الدولية تتناول بشكل واسع تحرير الجزائر لرعية اسباني    الهلال الأحمر الفلسطيني: استبدالنا بوكالة الأونروا شائعات صهيونية    البطولة الوطنية لفوفينام فيات فوداو:انطلاق المنافسات بمشاركة 517 رياضيا يمثلون 87 ناديا    فلسطين:أطفال غزة يقتلون ويجوعون ويتجمدون حتى الموت    الابتكار في الصحة الالكترونية: الجزائر تحتضن الطبعة الإفريقية الأولى من "سلاش'س دي"    المغرب: فشل الحكومة في الحفاظ على صحة المواطنين يحول داء الحصبة إلى وباء    طاقة ومناجم: السيد عرقاب يبحث مع سفير جنوب إفريقيا سبل تعزيز التعاون الثنائي    السيد بللو يشرف على افتتاح يوم دراسي جزائري-إيطالي حول تثمين التراث الثقافي    هكذا يقضي سكان غزّة أيام الهدنة..    شطر من منفذ الطريق السيار جن جن العلمة يوضع حيز الخدمة    مُتسوّلون برتبة أثرياء!    سياحة: 90 مشروعا سياحيا سيدخل قيد الاستغلال هذه السنة    الوقاية من الحمى القلاعية: تلقيح 400 ألف رأس من الأبقار والأغنام قبل نهاية يناير الجاري    الجزائر تترأس جلسة إحاطة بشأن موضوع التعاون بين مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية    صدى عالمي لجائزة الجزائر للقرآن الكريم    ممثلا الجزائر يستهدفان كأس الكاف    الرعية الإسباني المحرّر يشكر تبّون والجزائر    منظومة الضمان الاجتماعي في الجزائر قائمة على مبدأ التضامن بين الأجيال    وزير الداخلية"إبراهيم مراد" مخطط شامل للنهوض بولاية بشار وتحقيق التنمية المتوازنة    مجلس الأمة: المصادقة على نص القانون المتعلق بتسيير النفايات ومراقبتها وإزالتها    بللو: نحو تعاون أوسع في مجال الفنون بين الجزائر وإيطاليا    رسالة من الرئيس تبون: وزير الاتصال يلتقي رئيس ناميبيا لتعزيز التعاون    وهران : ترحيل 27 عائلة إلى سكنات جديدة ببئر الجير    اللحوم الحمراء الطازجة في رمضان ستبلغ أقصى مبلغ 1900 دج    الكوكي مدرباً للوفاق    الصحافة الفرنسية تسج قصة جديدة ضمن سلسة تحاملها ضد الجزائر    الثورة الجزائرية الوحيدة التي نقلت المعركة إلى عقر دار العدو    متابعة أشغال مشروع قصر المعارض الجديد    ديون الجزائر لدى المستشفيات الفرنسية.. حملة اعلامية جديدة تسوق البهتان    لباح أو بصول لخلافة بن سنوسي    استفزازات متبادلة وفينيسيوس يدخل على الخط    تطبيقة إلكترونية للتبليغ عن مواقع انتشار النفايات    حاج موسى: أحلم باللعب في الدوري الإنجليزي الممتاز    القلوب تشتاق إلى مكة.. فكيف يكون الوصول إليها؟    تاريخ العلوم مسارٌ من التفكير وطرح الأسئلة    السينما الجزائرية على أعتاب مرحلة جديدة    "كاماتشو".. ضعيف البنية كبير الهامة    وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بكر بن حماد التاهرتي" شاعر المغرب الأوسط الذي مدح الخليفة المعتصم في بلاطه ونافس فطاحلة شعراء العهد العباسي
عاش في القرن الثالث هجري

ليس بدعا إذا ما قلنا أن الجزائر كانت ولازالت ولادة للكثير من الرجال والفطاحل، الذين خبرهم الزمان وأعلى من قاماتهم ورفع من عليائهم حتى كاشفوا القمم، ولعل تاريخ الجزائر القديم مليء بالدرر والعباقرة من الشخصيات الذين طاروا في سماء التميز ، فكان بكر بن حماد التّاهرتي1 واحدا من العبقريات المدخورة في بيئة المغرب العربي، هاته الشخصية التي قال عنها الأستاذ رابح بونار أنها "أنبغ شخصية في الشعر الغنائي بالمغرب العربي عامة ولا نجد نظيرها في عمق تفكيرها وأصالتها البيانية وامتلاكها لموهبة شعرية محترمة إلا في الأندلس التي أنجبت الغزال وابن عبد ربه"2
ويحق لمؤرخي الأدب بأن يصرحوا بأن ظهور بكر بن حماد في القرن الثالث الهجري أي بعد فترة قليلة من الفتح الاسلامي هو أكبر مفخرة للأدب العربي المغربي وأنصع دليل على سمو عقليات أهله وقدرتهم على التمكن والتميز والإبداع.
فقد اعتبر بكر بن حمّاد من الشعراء المغاربة البارزين الذين نظموا الشِّعر العربي رغم حداثتهم باللُّغة العربيَّة حتى عد حجة أدباء عصره.. فهو من الَّذين أسّسوا مدرسة شعريَّة زهديّة في المغرب تضاهي المدرسة المشرقيّة في بغداد التي بلغت ذروتها بقيادة أبي العتاهية المعروف بشاعر الزهد ، في وقت كانت "تاهرت" عاصمة الرستميين تشبه بل وتقارن بقرطبة و بغداد و دمشق وغيرها من عواصم الشّرْق اللاّمعة، وهي التي كانت تدعى ب"عراق المغرب" و "بلخ المغرب"3 كما أخبر بذلك سليمان الباروني.4
حياة حافلة بالعلم مليئة بالحوادث
هو أبو عبد الرحمن بكر بن حماد بن سمر أو سهل5 بن اسماعيل الزناتي أصلا و التاهرتي نشأة، نسبة إلى تاهرت وهي تيارت الحالية بالجزائر والتي كانت عاصمة للرستميين، من شعراء الطبقة الأولى في عصره، وهو إلى ذلك فقيه عالم بالحديث ورجاله.
ولد بتاهرت سنة 200ه ، التحق سنة 217ه بالقيروان التي كانت مركزاً علمياً مرموقاً آنذاك، وأقام فيها يقرأ الفقه والحديث والعلوم الأخرى في مساجدها، على أيدي مشاهير علمائها كالإمام عبد السلام بن سعيد التنوخي المعروف بسحنون وعوف بن يوسف، ثم انتقل منها إلى مصر فالبصرة بالعراق ، فأخذ عن الشيوخ من أمثال الإمام الحافظ مسدد بن مسرهد الأسدي البصري شيخ أئمة المصنفين الاثبات وأول من صنف المسند بالبصرة و إسحاق بن راهويه وبشير بن حجر و عمرو بن مرزوق وابن الاعرابي تلميذ الأصمعي والراوية العباس بن الفرج الرياشي و زهير بن عباد الرواسي و أبي حاتم السجستاني و غيرهم كما اتصل بفحول الشعراء كشاعر الهجاء دعبل الخزاعي والشاعر الأديب علي بن الجهم و حبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام وصريع الغواني مسلم بن الوليد وغيرهم ففاوضهم و أخذ عنهم وهو ما كان له تأثير كبير على تفتيق موهبته الشعرية وصقل ذوقه الأدبي.
فقد كان من رواة الحديث مع ما اشتهر عنه من الشعر والأدب والفصاحة والبيان فلم تكن مجالسه لتخلوا من المناظرات العلمية في شتى صنوف العلم والأدب.
بعد دخوله بغداد عاصمة الخلافة العباسية اتصل بكر بن حماد بالخليفة المعتصم بالله ومدحه بشعره فأكرمه ، وكانت بينه وبين دعبل الخزاعي حوادث ، فحين هجا دعبل الخزاعي المعتصم بقصيدة يقول فيها:
ملوك بني العباس في العد سبعة *** ولم تأتنا عن ثامنهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة *** خيارا إذا عدوا و ثامنهم كلب
وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة *** لأنك ذو ذنب وليس له ذنب 6
هنا تولى ابن حماد الرد على دعبل الخزاعي حيث استعدى الخليفة عليه واضطره إلى الهروب خوفا على نفسه، حين قال في قصيدة يهجو فيها دعبل:
أيهجو أمير المؤمنين ورهطه ***ويمشي على الأرض العريضة دعبل
أما والذي أرسى ثبيرا مكانه *** لقد كانت الدنيا لذاك تزلزل
ولكن أمير المؤمنين بفضله *** يهم فيعفو أو يقول فيفعل
وكانت الأبيات ذات تأثير على نفس الخليفة، وكان أبو تمام شاعر البلاط الرسمي يتجافى عن ذلك، فجاء إليه وقال له: قتلته والله يا بكر وعاتبه على ذلك فقال مجيبا له:
وعاتبني فيه (حبيب) وقال لي *** لسانك محذور وسمك يقتل
وإني وإن صرفت في الشعر منطقي *** لأنصف فيما قلت فيه وأعدل
عاد بكر بن حماد إلى المغرب العربي فاستقر بمدينة القيروان ، إلى غاية 274ه أين تصدر لإملاء الأدب والعلم، وعقد مجالس الرواية و السماع، يشرح فيها الحديث الشريف بطريقة بارعة بجامعها الكبير، فارتحل إليه الكثير من أهل إفريقيا والأندلس، وكان منهم محدث الأندلس في عصره "قاسم القرطبي"7 و إلى جانب تلاميذه فيها من أمثال قاسم بن عبد الرحمن التميمي التاهرتي، وكان بكر بن حماد يكتب له في كل يوم أربعة أحاديث ويقول لا تأتيني إلا وقد حفظتها، و ابنه عبد الرحمان التاهرتي بن بكر بن حماد رحل إلى الأندلس و جلس للتدريس في قرطبة، حيث اشتهر بدروسه في الحديث الشريف و التفسير أين حدث عن أبيه....و تلميذه أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام التميمي، علامة محدث من القيروان صاحب كتاب "المحن" و " طبقات علماء إفريقية" وابن اللباد، كما سمعوا منه دواوين شعراء المشرق، و كان يملي قصائده الشعرية الرائعة حيث كان مجلسه حافلا بطلاب العلم على اختلاف مذاهبهم.
غير أن المقام بمدينة القيروان لم يدم طويلا فلم يصفو العيش لشاعرنا بها، إذ وشى به بعض منافسيه لدى الأمير إبراهيم بن أحمد بن الأغلب لشعر قاله فيه، فخاف بكر وخرج فاراً من القيروان إلى مسقط رأسه تاهرت بصحبة ابنه عبد الرحمن سنة 295 هجري وعندما وصلا إلى قلعة بن حمة على مشارف تاهرت تعرض لهما اللصوص، فقتلوا ابنه عبد الرحمن وجرح بكر بن حماد جراحات بليغة حيث كانت لهاته الحادثة بالغ الأثر في نفسية بكر إلى أن توفي شهر شوّال 296ه في قلعة بن حمة شمال تاهرت و دفن في داره في أرشقول مدينة تيهرت8 ، وفي نفس السنة التي توفي فيها بكر بن حماد سقطت فيها الدولة الرستمية بيد العبيديين، وقد ترك وراءه مجموعة كبيرة من الأشعار الرائعة في كافة الفنون الشعرية في الزهد والهجاء والرثاء والوصف و غيرها جمعت لاحقا في ديوان شعري كبير سمي ب"الدر الوقاد في شعر بكر بن حماد التاهرتي"9
نماذج رائعة لأشعار راقية
استطاع الشاعر بكر بن حماد أن يقدم لنا نماذج شعرية غاية في الجمال والإبداع، تنوعت بين المدح والرثاء والهجاء والوصف و الزهد والوعظ والاعتذار، أظهرت هاته النماذج تصوراً دقيقاً لآلامه وأحزانه وشوقه بل حبه وعزته وهي تعبير صادق يختلج عاطفة جارفة لشاعر متميز خبر دربة الحياة وخاض في كل الفنون، ومن بين هاته النماذج الساحرة نورد منها:
ثار بكر بن حماد على الإمام أبي حاتم يوسف الرستمي ثم عاد فاعتذر إليه عن اشتراكه في الفتنة التي ثارت بقصيدة يقول فيها:
و مؤنسة لي بالعراق تركتها *** و غصن شبابي في الغصون نضيرُ
فقالت كما قال النواسيّ قبلها *** عزيز علينا أن نراك تسير
فقلت جفاني يوسف بن محمّد *** فطال عليّ الليل و هو قصير
أبا حاتم ما كان ما كان بغضة *** و لكن أتت بعد الأمور أمور
و أكرهني قوم خشيت عقابهم *** فداريتهم، و الدائرات تدور
و أكرم عفو يؤثر الناس أمره *** إذا ما عفا الإنسان وهو قدير10
أما في الرثاء فله قصيدة حزينة مؤثرة تعد من عيون الشعر العربي في الرثاء على فراق ابنه عبد الرحمن الذي قتل سنة 295 ه على مشارف مدينة تاهرت والتي يقول فيها11:
بكيت على الأحبة إذ تولوا *** و لو أني هلكت بكوا عليَّا
فيا نسلي بقاؤك كان ذخرا *** وفقدك قد كوى الأكباد كيَّا
كفى حزنا بأنني منك خلو *** وأنك ميّت وبقيت حيَّا
دعوتك بابنيَّ فلم تجبني *** فكانت دعوتي يأسًا عليَّا
وقال يرثي ولده عبد الرحمان أيضا 12:
وهون وجدي أنني بك لاحق *** وأن بقائي في الحياة قليل
بلى ربما دارت على القلب لوعة *** فيرجعها صبر هناك جميل
وأن ليس يبقى للحبيب حبيبه *** وليس بباق للخليل خليل
و لو أن طول الحزن مما يرده *** للازمني حزن عليه طويل
كما رثى مدينة تاهرت بعد أن خربها العبيديون ( الفاطميون) سنة 296ه فقد استولوا عليها و عاثوا فيها فسادا و أحرقوا مكتبتها الضخمة "المعصومة" التي تضم أكثر من ثلاثمئة ألف مجلد في شتى العلوم والفنون في قصيدة تعد آخر ما قاله من شعر13:
زرنا منازل قوم لم يزورونا *** إنا لفي غفلة عما يقاسونا
لو ينطقون لقالوا: الزاد، ويحكم *** حل الرحيل فما يرجو المقيمونا
الموت أجحف بالدنيا فخربها *** وفعلنا فعل قوم لا يموتونا
فالآن فابكوا فقد حق البكاء لكم *** فالحاملون لعرش الله باكونا
ماذا عسى تنفع الدنيا مُجمِعها *** لو كان جمع فيها كنز قارونا
أما في الهجاء فإلى جانب هجائه لدعبل الخزاعي في حضرة الخليفة العباسي المعتصم فقد هجى عمران بن حطّان الخارجيّ المتوفي 84 ه الذي أثنى على عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهي القصيدة التي قيدتها كتب التاريخ والأدب وانتشرت في كل مكان والتي يقول فيها14:
قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ *** هدمت ويحك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ *** وأوّل الناس إسلاماً وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما *** سنّ الرسول لنا شرعاً وتبيانا
صهر النبيّ ومولاه وناصره *** أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له *** مكان هارون من موسى بن عمران
إلى أن يقول:
فلا عفا الله عنه ما تحمّله *** ولا سقى قبر عمران بن حطّانا
لقوله في شقيٍ ظلّ مجترما *** ونال ما ناله ظلما وعدوانا
" يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها *** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا "
بل ضربةٌ من غويٍّ أوردته لظىً *** فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنّه لم يرد قصداً بضربته *** إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
كما يروي لنا في قصيدة أخرى ما دار بين علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن ملجم الذي كان يعد سيفه لقتله يقول فيها 15:
وهزّ عليٌّ بالعراقين لحيةً *** مصيبتها حلّت على كلّ مسلم
فقال: سيأتيها من الله حادث *** ويخضبها أشقى البريّة بالدّم
فباكره بالسيف شلّت يمينه *** لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم
فيا ضربةً من خاسرٍ ضلّ سعيه *** تبوّأ منها مقعداً في جهنّم
ففاز أمير المؤمنين بحظّه *** وإن طرقت فيه الخطوب بمعظم
ألا إنّما الدنيا بلاءٌ وفتنةٌ *** حلاوتها شيبت بصابٍ وعلقم
وإلى جانب ذلك كله برع بكر بن حماد في شعر الزهد والوعظ والتصوف فنظم أشعاراً راقية وهو الذي اشتهر بهذا النوع من الشعر حتى شُبه بأبي العتاهية بعد أن نحا فيها منحى الزهد والتأمّل والتذكير بالموت ، ويقول في مطلع قصيدة "السفر من غير زاد" 16:
تبيت على فراشك مطمئنا *** كأنك قد أمنت من المعاد
أما في قصيدة بعنوان "وقفة بالقبور" 17 فنراه أبدع أيما إبداع في وصف المقابر وحال الأموات بها حين يقول:
قف بالقبور فناد الهامدين بها *** من أعظم بليت فيها وأجساد
قوم تقطعت الأسباب بينهم *** من الوصال وصاروا تحت أطواد
راحوا جميعا على الأقدام وابتكروا *** فلن يروحوا ولن يغدو لهم غاد
والله لو ردوا ولو نطقوا *** إذا لقالوا: التقى من أفضل الزاد
إلى أن يقول:
وكلنا واقف منها على سفر *** وكلنا ظاغن يحدو به الحادي
في كل يوم نرى نعشا نشيعه *** فرائح فارق الأحباب أو غادي
الموت يهدم ما نبنيه من بذخ *** فما انتظارك يا بكر بن حماد
وفي الخلاصة تعكس أشعاره تجربته الزهدية التي عبر فيها عما يختلج في نفسه وبهذا يكون بكر بن حماد صاحب قدم السبق في إدخال مثل هذا النوع من الشعر إلى المغرب الأوسط متأثرا برحلته إلى المشرق ونهله من شعراء القوم هناك على شاكلة الشاعر المتألق أبي العتاهية ، حيث نجده في قصيدة أخرى يذكر نفسه فيها بالموت و ينهاها عن الصدود والإعراض ويجلدها بمشاهد القبر الموحش حين يقول 18:
لقد جمحت نفسي فصدت وأعرضت *** وقد مرقت نفسي فطال مروقها
فيا أسفي من جنح ليل يقودها *** وضوء نهار لايزال يسوقها
الى مشهد لابدّ لي من شهوده *** ومن جزع للموت سوف أذوقها
ستأكلها الديدان في باطن الثرى *** ويذهب عنها طيبها وخلوقها
مواطن للقصاص فيها مظالم *** تؤدي إلى أهل الحقوق حقوقها
ثناء العلماء على بكر بن حماد:
اشتهر بكر في علم الحديث النبوي الشريف ومعاصرته لعلماء أفاضل وهنا يورد تلميذه أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام التميمي في كتابه "المحن" في باب "أخبار المحنة في خلافة مأمون" حيث ينقل أخبار وآراء و أقوال علماء السنة عن طريق بكر بن حماد عن شيوخه، واعتصام بكر بن حماد وجماعته بأقوال أهل السنة والجماعة ورفضوا رأي المعتزلة وتعاليمها، أين يقول في صفحة 460: "وذكر عمر عن بكر بن حماد أن الهمداني امتحنه المأمون في القرآن وأنه احتج على المأمون بآيات من كتاب الله فثبت الهمداني بعد أن أقعد في النطع مكتوفا ورفع السيف على رأسه فما انثنى ولا أجاب ثم نجاه الله عز وجل مما أريد به..." 19
وحدثني بكر بن حماد قال حدثنا أبو نجدة قال حدثنا كثير بن سليم قال لقيت أنس بن مالك بواسط القصب فسمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذه الأمة أمة مرحومة جعل الله بأسهم بينهم فإذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل رجل منهم رجلا من المشركين أو قال من أهل الكتاب فيقال يا مسلم هذا فداؤك من النار.20
قال عنه البكري: "أنه كان ثقة مأمونا حافظا للحديث"21
وقال عنه ابن عذارى: "كان عالما بالحديث وتمييز الرجال وشاعرا مفلقا"22
قال عنه ياقوت الحموي في معجم البلدان : "بكر بن حماد أبو عبد الرحمن ، كان بتيهرت وهو من حفاظ الحديث وثقات المحدثين المأمونين"23.
وختاما يمكن القول أنه ورغم ما وصلنا من شعر بكر بن حماد في مختلف موضوعاته التي تم جمعها في ديوانه المسمى "الدر الوقاد"24 ، إلا أنه أجاد في سبك قصائده التي نظمها في فنون عدة تنوعت بين ضروب الشعر من رثاء ووصف ومديح وهجاء وشعر للتأملات مؤكدا من خلالها على تميزه بصورة لافتة في شعر التصوف والزهد، مشكلا بذلك مدرسته الشعرية الخاصة به.
الهوامش:
1- مدينة تاهرت وتذكر بتيهرت أيضا وهي مدينة تيارت حاليا
2- رابح بونار، المغرب العربي تاريخه وثقافته ، دار الهدى عين مليلة، الجزائر، ط3، 1999، ص87
3- بلخ المغرب: بلخ: مدينة ببُخارَى، اشتهرت بالرّواجِ العِلمي و التنوّع الثقافي.
4- شمسية غربي، العصر الرُستمي العاصمة: تيهرت أو تيهارت من 160-299ه http://thakafamag.com/?p=9116
5- عمر فروخ، تأريخ الأدب العربي في المغرب والأندلس، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ج4، ص151
6- عبد القادر بن سالم ، فوائد مختلفة و تحف مستطرفة ، دار الجلفة إنفو للنشر ، ط1 ، 2018، ص 62
7- قاسم بن أصبغ البياني القرطبي، صاحب "مسند مالك" المتوفي سنة 340ه
8- عمر فروخ، تأريخ الأدب العربي في المغرب والأندلس، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ج4، ص151
9- الدر الوقاد في شعر بكر بن حماد التاهرتي هو ديوان شعري من111 صفحة مقسم إلى خمسة أقسام طبع سنة 1966 جمعه وشرحه محمد بن رمضان شاوش.
10- عبد الرحمن بن محمد الجيلالي، تاريخ الجزائر العام ،منشورات دار مكتبة الحياة بيروت ،ج1 ، ط2، 1965، ص ص242 -243
11- الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد. محمد بن رمضان شاوش. المطبعة العلوية، مستغانم، الجزائر، ط 1، 1966 ، ص ص 87-88
12- عبد المالك مرتاض، الأدب الجزائري القديم دراسة في الجذور، دار هومه، الجزائر ، ط4، 2016، ص 216
13- الدر الوقاد، ص 90
14- علي فكري، الخلفاء الراشدون ، أحسن القصص مكتبة رحاب، الجزائر ، ج3، ص 190
15- النويري ، نهاية الأرب في فنون الأدب، 5/380، الموسوعة الشاملة، http://www.islamport.com/b/5/adab.html
16- الدر الوقاد، ص 76
17- الدر الوقاد، ص 80
18- الدر الوقاد، ص 78
19- المحن، لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمام التميمي تحقيق: د/ عمر سليمان العقيلي، دار العلوم، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1984م، ط1 ، ص 460
20- المرجع السابق، ص56
21- عبد الرحمن بن محمد الجيلالي، تاريخ الجزائر العام، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت ،ج1 ، ط2، 1965، ص 241
22- المرجع السابق، ص 241
23- عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر من صدر الاسلام حتى العصر الحاضر، مؤسسة نويهض الثقافية، بيروت، لبنان ، ط2، 1980
24- علي إبراهيم كردي ، بكر بن حمَّاد التَّاهرتي حياته وشعره، وزارة الثقافة السورية، دمشق، سوريا، 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.