تاهرت - ومعناها باللسان الأمازيغي اللّبُؤة - مدينة عريقة، وقد بلغت أوج ازدهارها عندما صارت عاصمة لأول دولة »جزائرية« بعد إشراق نور الإسلام على هذه الربوع، وهي الدولة الرسمية، التي أسست في منتصف القرن الثاني للهجرة (1). * ومن مظاهر ذلك الازدهار انتشار اللغة العربية، والعلوم الدينية، يدل على ذلك ما أوردته الروايات التاريخية من أن الإمام - السلطان - عبد الوهاب بن عبد الرحمن، الذي تولى السلطة في عام 171ه، اشترى كتبا من البصرة - وكانت وَقْر أربعين جملا - فلما قرأها قال: »الحمد لله الذي علمني كل ما فيها من قبل، ولم أستفد منها إلا مسألتين، ولو سئلت عنهما لأجبت فيهما قياسا كما رُسِمتا فيها (2)«، ومن المعروف أن الإمام عبد الوهاب لم يُشرّق ولم يُغرّب طلبا للعلم. * كما يدل - أيضا- على ذلك الازدهار تلك المرأة التي »قضت ليلة كاملة في المناقشة في مسألة من شواذ علم الفرائض(3)«، ويدل - أيضا- على ذلك الازدهار تلك المكتبة العظيمة المسماة »المعصومة« التي قيل إنها كانت تضم »ثلاثمائة ألف مجلد في شتى العلوم والفنون(4)« * أما اسم بكر الوارد في عنوان هذه الكلمة فهو بكر بن حماد التاهرتي، الذي ولد بتاهرت حوالي سنة 200 ه، ودرس بها مدة، ثم تنقل بين الحواضر الإسلامية، ومنها القيروان، التي تلقى العلم فيها عن الإمام سحنون، صاحب المُدوِّنة، وبغداد، التي تتلمذ فيها على ابن مُسَدَّد، وعَمّرو بن مرزوق، وأبي حاتم السجستاني، وابن الأعرابي. وما منهم إلا له مقام معلوم في ميدانه. * وممن تعرّف عليهم في بغداد وصاحَبَهم الشعراء أبو تمام، وعلي بن الجهم، ومسلم بن الوليد، ولا يصاحب هؤلاء إلا من هو في مستواهم، ولهذا وصفه ابن عذاري بأنه كان »شاعرا مفلقا (5)«، مما مكنه أن ينافس فطاحل الشعراء في مدح الخليفة العباسي المعتصم، »فواصله بصلات جزيلة (6)«. * عاد بكر بن حماد إلى المغرب الإسلامي، وعلّم فترة في جامع القيروانبتونس، ف »حمل عنه أبناء إفريقية رواية الحديث، وكذا دواوين شعر المعاصرين الذين اجتمع بهم في رحلته إلى المشرق، ولذلك يُعدّ من كبار نقلة العلم والأدب إلى المغرب (7)«. حتى أُطلق عليه لقب »الشاعر (8)«، وهو لقب لم ينله إلا قليل من كبار شعراء العربية قديما وحديثا. * يبدو أن بكر بن حماد كان يتردد في أثناء استقراره بالقيروان على مدينته تاهرت، وقد ذُكر أنه اتُّهم بالمشاركة في ثورة يعقوب بن أفلح - في سنة 282 ه - ضد ابن أخيه الإمام أبي حاتم يوسف، وقد اعتذر بكر بن حماد للإمام أبي حاتم بأنه أرغم على المشاركة في تلك الثورة، ومما جاء في اعتذاره: * أبا حاتم ما كان ما كان بُغْضَة * فأكرهني قوم خشيت عقابهم * وأكرم عفو يؤثر الناس أمرَه * ولكن أتت بعد الأمور أمور * فداريتهم والدائرت تدور * إذا ما عفا الإنسان وهو قدير * وآخر مرة عاد فيها بكر بن حماد من تونس إلى تاهرت كانت في سنة 295ه، بعدما خشي أن يبطش به الأمير الأغلبي زيادة الله الثالث، فخرج بكر خائفا يترقب صحبة ولده عبد الرحمان من رقادة، ولكن الموت الذي فرّ منه في رقادة لقيه في طريقه إلى تاهرت، حيث خرج عليهما لصوص بالقرب من تاهرت، فقتلوا الولد، وجرحوا الوالد، الذي لم ينشب أن أسلم روحه في سنة 296ه * ومن روائع شعر بكر بن حماد تلك القطعة التي رثى بها ولده عبد الرحمان حيث يقول: * بكيت علي الأحبة إذ تولوا * فيا نسْلي بقاؤك كان ذخرا * كفى حزنا بأنني منك خِلْوٌ * ولم أك آيسا فيئست لما * فليت الخلق إذ خُلقوا أطاعوا * تُسَرُّ بأشهر تمضي سراعا * فلا تفرح بدنيا ليس تبقى * فقد قطع البقاءَ غروب شمس * ولو أني هلكت بكوا عليا * وفَقْدك قد كوى الأكباد كيا * وأنك ميت، وبقيت حيا * رميت الترب فوقك من يديا * وليتك لم تك يا بكر شيّا * وتطوى في لياليهن طيا * ولا تأسف عليها يا بنيا * ومطلعها عليّ يا أُخيّا * وقبيل وفاة بكر بن حماد وقع حادث كبير آخر، اهتزت له نفسه، وتفطر له قلبه، وهو خراب مدينته تاهرت على يد العبيديين في سنة 296ه، فأصبحت خرابا كأن لم تغن بالأمس، وشُرّد أهلها ظلما وعُتُوّا وكان من آخر ما جادت به قريحة بكر بن حماد قطعة رثى بها هذه المدينة التي لم يخربها نصراني أو يهودي أو مجوسي، ولكن خربها - للأسف - »مسلمون«، زكوا أنفسهم، وزعموا أنهم أشياع أهل البيت، ومما جاء في قطعة بكر عن خراب تاهرت: * زرنا منازل قوم لم يزورونا * لو ينطقون لقالوا: الزاد، ويحكم * الموت أجحف بالدنيا فخربها * فالآن فابكوا فقد حق البكاء لكم * ماذا عسى تنفع الدنيا مُجمِعها * إنا لفي غفلة عما يقاسونا * حل الرحيل فما يرجو المقيمونا * وفعلنا فعل قوم لا يموتونا * فالحاملون لعرش الله باكونا * لو كان جمع فيها كنز قارونا * ومن أجمل ما قاله بكر بن حماد قصيدته التي رد بها على الشاعر عمران بن حطان، الذي مدح ابن ملجم قاتل الإمام علي، كرم الله وجهه، حيث جاء فيها: * قل لابن ملجم، والأقدار غالبة * قتلت أفضل من يمشي على قدم * وأعلم الناس بالقرآن ثم بما * صهر النبي، ومولاه، وناصره * وكان منه على رغم الحسود له * ذكرت قاتله والدمع منحدر * إني لأحسَبُه ما كان من بشر * أشقى مراد (9) إذا عدت قبائلها * فلا عفا الله عنه ما تَحَمَّله * هدمت ويلك للإسلام أركانا * وأول الناس إسلاما وإيمانا * سنّ الرسول لنا شرعا وتبيانا * أضحت مناقبه نورا وبرهانا * مكان هارون من موسى بن عمرانا * فقلت: سبحان رب الناس سبحانا * يخشى المَعاد، ولكن كان شيطانا * وأخسر الناس عند الله ميزانا * ولا سقى قبر عمران بن حطّانا (10) * لقد سألت بعض العارفين لتاهرت إن كانت في المدينة مؤسسة علمية أو ثقافية تحمل اسم بكر بن حماد، فقيل لي: إن هناك إكمالية تحمل اسمه، وأرى ذلك قليلا في حقه، لأنه كان »شاعر المغرب العربي (1)« في عهده. * لقد تذكرت بكر بن حماد وغيره من الأعلام الذين أنجبتهم تاهرت، مثل الإمام أفلح بن عبد الوهاب، وابن الصغير، وأحمد بن فتح التاهرتي عندما قرأت في جريدة الشروق اليومي (8 - 6 - 2008) أن تاهرت - تيارت - نظمت »صالونا« للحصان، ولم تنظم صالونا للإنسان، وأن هذا الصالون الحصاني لم يعرف فيما أُعِدَّ عنه وعن ولاية تاهرت من مطبوعات إلا »لغة فولتير« وقد برّر فلاسفة التبرير المعقّدون أن اصطفاءهم الفرنسية لغة للصالون الحصاني يعود إلى »حضور عدد قليل من الضيوف غير العرب«، وغير العرب في اصطلاح القوم هم الفرنسيون، الذين ينحني أمامهم بعض »الجزائريين« حتى يعفروا أنوفهم وجباههم بالتراب، ولو قيل لهم اسجدوا للرحمن لا يسجدون. * يبدو أن برودة تاهرت الطبيعية التي وصفها بكر بن حماد، واعتبر فرحة أهلها بالشمس »كفرحة الذّميِّ بالسبت«، قد انتقلت إلى بعض الناس في تاهرت، فأفقدتهم حرارة الانتماء إلى تلك المدينة المجيدة، وإلى الجزائر التليدة، ففضلوا كَمْشَة من »الضيوف الفرنسيين على تاريخ مدينة، وعلى كرامة شعب، وعلى دستور دولة، فاستحقوا أن يطلق عليهم لقب »كَرْب« ومن وجد لقبا أبلغ فلينشره في الناس. * ------------------------------------------------- * 1) عن الدولة الرسمية أنظر كتاب الدكتور إبراهيم بحّاز : »الدولة الرسمية« * 2) محمد دبوز: تاريخ المغرب الكبير ج 3 ص 373 * 3) محمد شاوش: الدرُّ الوقّاد من شعر بكر بن حماد ص 37 * 4) دبوز.. مرجع سابق 3 / 387 * 5 - 6 - 7) حسن حسني عبد الوهاب: ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية ج 1. ص 256 * 8) مبارك الميلي: تاريخ الجزائر في القديم والحديث ج2 ص 70 * 9) مراد، اسم القبيلة التي ينتمي إليها عبد الرحمن بن ملجم * 10) عمران بن حطان، شاعر من الخوارج مدح عبد الرحمن بن ملجم * 11) محمد الطمار: تاريخ الأدب الجزائري.. ص 37