عرضت السلطة منذ أيام قليلة مشروعا يتعلق بمسودة التعديلات المرتقبة حول وثيقة (الدستور الجزائري) وذلك استجابة لمطالب الحراك الشعبي والتطلعات التي ينتظرها الشارع الجزائري بعد الخروج من حكم (العصابة) وتوقيف العهدة الخامسة. وتمثل هذه المسودة رغبة السلطة الحالية في تعبيد الطريق نحو (جزائر جديدة) للخروج من الممارسات السياسية الموروثة من الحكم البائد وفتح المجال لآفاق جديدة يكون فيها الشعب هو مصدر السلطة بكل ما يحمله مفهوم الديمقراطية من معاني العدالة والحرية والمساواة. وتضمنت المسودة (مقترحات) تتعلق بمنظومة القضاء وطبيعة الحكم في علاقة الرئاسة بالحكومة ومكانة المجلس الدستوري وطبيعة صلاحياته بالإضافة إلى مسألة اللغة الوطنية وحرية المعتقد وعلاقة الجيش الجزائري بالسياسة الداخلية ومهامه خارج التراب الوطني. وغيرها من النقاط المتعلقة بقطع الطريق أمام المال الفاسد في مجال السياسة التي تخضع لمبدأ فصل السلطات والاكتفاء بعهدتين فقط بالنسبة للرئيس وأعضاء البرلمان سواء متصلين أو منفصلتين وغيرها من المواضيع ذات الصلة بالمحاور الستة التالية وهي: - الحقوق الأساسية والحريات العامة - تعزيز الفصل بين السلطات وتوازنها - السلطة القضائية - المحكمة الدستورية - الشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته - السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات ولم تتأخر ردود الفعل لدى مختلف الفعاليات السياسية والحزبية والحقوقية في التعبير عن مواقفها تجاه هذه المسودة بين معارض لها جملة وتفصيلا ومنتقد لبعض مقترحاتها ومؤيد لها، في حين مازالت أطراف أخرى مترددة في اتخاذ موقف نهائي منها. ولعل ما يجب الإشارة إليه أن السلطة الحالية التي عبّرت عن رغبتها في التغيير تتخذ من هذا الموقف مسوغا قويا لتوزيع هذه المسودة في هذا التوقيت للإسراع بالاستجابة لمطالب الحراك الشعبي وتوفير أسباب الاستقرار السياسي في أسرع وقت. وهي وثيقة معروضة للنقد رفضا وقبولا وإثراء وليست وثيقة نهائية وبالتالي فهي مساحة لتبادل الآراء والتعبير عن المواقف تتيح الفرصة للجزائريين بالمساهمة الفعلية في مستقبلهم السياسي دون إقصاء أو تهميش. إلا أن ما يلفت الانتباه لهذه (المبادرة) الرئاسية أنها جاءت في مرحلة استثنائية وحساسة لم يعرف لها المجتمع الجزائري مثيلا منذ الاستقلال تتعلق بمواجهة جائحة الكورونا التي تتهدد أمن وسلامة الجزائريين والتي تعتبر محكا حقيقيا وامتحانا قويا للسلطة الحاكمة في البلاد أياما بعد تنصيب الرئيس عبد المجيد تبون على رأسها. مما يقتضي التريث في الإفراج عن هذه المسودة التي اعتبرها البعض متسرعة وحتى مستغلة للظرف الاستثنائي خاصة بعد الوقف القصري للمسيرات بسبب الوباء. مما فتح المجال أمام تأويلات عديدة بوجود نوايا خفية للسلطة باللجوء إلى سياسة (الأمر الواقع) وتحقيق أهداف غير معلنة، مما أدى إلى رفض المسودة قبل الاطلاع عليها من طرف البعض وخاصة من يراهنون على (الحراك) لاستكمال المسار الديمقراطي وتحقيق مزيد من المطالب، وبغض النظر عن هذه التجاذبات السياسية التي تتبناها جهات قد تكون لها (اجندات) خاصة بها فإن منطق (المسودة) هو الذي يطرح تساؤلا بالنسبة للبعض بحيث أن السلطة تفرض على الجميع التفكير داخل (حدود) المسودة وليس خارجها وبالتالي يصبح إثراء المسودة مجرد ردود أفعال على مبادرة السلطة وهذا يقلص من مساحة الحرية ويختزل هذه العملية في منطق الحاكم والمحكوم ، في حين أن المواطن يتوق إلى جزائر جديدة بكل ما يحمله مفهوم التجديد من معنى. كما أن المسودة تفتقر لعامل مؤسساتي هام وهو عدم (شرعية) البرلمان الحالي الذي لفظه الحراك واعتبره مسؤولا على مآسي الجزائريين وعليه كان من الأصوب ديمقراطيا صياغة (المسودة) في إطار برلمان جديد بعد انتخابات تشريعية شفافة ونزيهة. كما سجلت العديد من المواقف اعتراضها على نقطة هامة في المسودة تتعلق بإخضاع بعض البلديات لقوانين (خاصة) الأمر الذي يفهم معه فتح المجال للفكر (الفدرالي) الذي يهدد الوحدة الوطنية كما عبر عن ذلك (عبد القادر بن قرينة) رئيس (حركة البناء الوطني) والذي أشار في نفس السياق إلى مسألة اللغة الوطنية خاصة بعدما اعتبرت الوثيقة إدراج اللغة الأمازيغية كقضية (صماء) أي غير قابلة للنقاش وبالتالي يصبح التساؤل حول الجدوى من إدراجها في المسودة مادامت قضية مفصول فيها. كما أن ملفا ثقيلا طرح في هذه المسودة يتعلق بالجيش الجزائري وإمكانية تدخله خارج الحدود الوطنية بموافقة البرلمان وضمن العمليات عسكرية تحت قبة الأممالمتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية وجامعة الدول العربية، وهذه مسألة تقتضي بدورها كذلك برلمانا شرعيا يتكون من إطارات ذات كفاءة عالية باستطاعتها مناقشة هذه القضايا الحساسة بكل شفافية لاتخاذ الإجراءات المناسبة التي تجمع بين دور الجيش الجزائري في حماية الوطن داخليا والمساهمة في حل النزاعات الإقليمية والدولية بما يحقق الأمن والسلام العالميين وفي كل الحالات ومهما بلغت التجاذبات فإنها مجرد مسودة أي أنها ليست وثيقة نهائية وبالتالي يجب التفاعل معها بكل جدية ومسؤولية دون إقصاء أو استكبار ولكن دون لامبالاة أو تسرع.