على بعد مسافة قصيرة من توديع هذا الضيف الكريم، نحتاج لوقفة تأمل للدروس والعبر التي يمكن الاحتفاظ بها بعد رحيله المؤقت. فبالإضافة للمعاني الروحية والاجتماعية والأخلاقية التي ينبغي أن تتدعم لدينا كمسلمين عاما بعد عام ينضاف منذ سنين قريبة بعدا عالميا لقيمة هذا الشهر ومكانته. فبفضل الثورة التواصلية الكبيرة وما ترتب عنها من تقارب في المسافات الزمانية والمكانية بين المجتمعات البشرية، أصبح شهر رمضان حديث الساعة واهتمام العديد من الدوائر الإعلامية والسياسية والعلمية عبر العالم. فالكم الهائل من (الصائمين) لأزيد من مليار ونصف مسلم موزعين على مختلف القارات، يمثل بالنسبة لمنظومة القيم الاستهلاكية التي تتصدر المشهدين السياسي والاقتصادي حالة شاذة بل ومتحدية لها. فالصوم يعتبر تجربة دينية عميقة لترويض غرائز الإنسان ودفعه لإعادة النظر في علاقته بذاته بكبح العوائق الحسية التي تهدد عمقه الروحي، وبالتالي تسعى إلى تحجيم دوافعه الاستهلاكية وتغليب منطق (الفطنة على البطنة) تأسيا بمعنى الكفاف والعفاف الموروث من قيمنا التاريخية. ولكن ولكي نكون منصفين فإن هذه المنظومة الاستهلاكية العالمية لم تبق مع الأسف حكرا على غير المسلمين بل تمكنت من اختراق (دفاعاتنا) الثقافية لنصبح منافسين وبجدارة للمجتمعات الغربية الأكثر خبرة وأقدمية في هذا المجال. ويكفي الجلوس قليلا أمام أي قناة عربية لتجد نفسك تحت قصف إشهاري مكثف لمختلف البضائع المحلية والمستوردة، وخاصة في هذا الشهر الفضيل. ناهيك عن الترسانة (الفنية) من البرامج التي تترصد الأسر بعرض كم هائل من المشاهد المنفلتة والوجوه المغرية والحركات المستفزة والعبارات الساقطة والمدروسة بشكل يناقض كل ما يدعو إليه هذا الشهر الكريم وتحت عنوان (رمضان يجمعنا). يتضح إننا فشلنا في حماية هذا الشهر من التجاذبات العولمية التي اخترقت أكثر المراكز مناعة في حياتنا والتي تتمثل في خصوصياتنا الثقافية وتمكنت من تمييعها وتشكيلها لتكون (مواكبة) لمؤثرات الثقافة المفرطة في المادية، حتى أصبحت تنافسنا في (صيام) هذا الشهر تماشيا مع حاجياتها وأولوياتها بعدما وقفت على الفوائد (الصحية) للصيام. وهذا ما يفسر الاهتمام العلمي للعديد من المصحات والمستشفيات الغربية بفوائد الإمساك عن الأكل والشرب لفترات طويلة، للعلاج من عديد الأمراض ولكن في تقليد مُشوّه للصيام الذي كان له الأثر السلبي عندنا عندما تردد صدى هذه الأبحاث العلمية في وسائلنا الإعلامية ووسائطنا الاجتماعية التي كانت تنتظر (مباركة) خبراء التغذية والرشاقة والعلاج حتى تستشعر القيمة الحسّية لهذا الشهر بعيدا عن القيم الروحية التي تراجع الاهتمام بها في إعلامنا بشكل ملحوظ ومقصود مقارنة بما كان عليه قديما. فبالفعل رمضان أصبح يجمعنا ولكن على موائد الأكل المتخمة برعاية الشركات العالمية للتغذية المعلبة والمشروبات (الغازية) الغازية لأطباقنا التقليدية البسيطة التي نشتم فيها عبق الماضي وطعم المطبخ الأسري الجميل، الذي يمثل الكفاف المادي والعفاف الأخلاقي في أصدق معانيه. ومما زاد في تكريس هذا المناخ الاستهلاكي في رمضاننا هذا انتشار الوباء الخطير الذي كانت المساجد ضحيته الأولى عندما رددت مآذنها على مسامعنا عبارة (صلوا في رحالكم) أي في بيوتكم التي اقترنت بتشميع الأبواب التي كانت تفتح للجموع. فكانت دور العبادة هي المؤسسات الأولى التي أغلقت في وجه مرتاديها دون أن تسعى السلطات لتوفير الشروط اللازمة والممكنة الوقائية منها والصحية لفتحها بخلاف دول أعجمية أخرى كمساجد تركيا وإندونيسيا التي أشرف رئيسها بنفسه على تعقيمها شعورا منه بأن شعبه أحوج ما يمكن في هذه الظروف للصلاة والتضرع في المساجد للخروج من هذه الجائحة، علما بأن بيوت الله أماكن للطهارة الحسية والمعنوية ولا يرتادها إلا من كان على قدر من النظافة، كما أنها مجهزة بمرافق يمكنها توفير كل متطلبات الوقاية وبالتالي توظيفها كمرفق شبه صحي لمواجهة هذه الجائحة التي انتشرت في أماكن مختلفة كالبيوت والمستشفيات والمتاجر والأسواق التي تعج بقدر كبير من الناس الذين يصعب إلزامهم بشروط التباعد وعدم المصافحة بخلاف المساجد التي تخضع لشروط التأطير والتوعية أكثر من غيرها. ناهيك عن دورها في رفع المعنويات وتثبيت الناس على التماسك والنظام وتقديم الدعم الإرشادي والتوجيهي خدمة للمصلحة العامة في هذه الظروف الصعبة، وعوض أن يرفع شعار(رمضان يجمعنا) في المساجد اختطفته القنوات لتعيد تشكيله بحسب (فقهها) الإعلامي المنحرف بقيادة (المجنون رسمي رامز جلال) رائد (تلفزيون الواقع) في الوطن العربي ، وهو النسخة المطورة والمعدلة أو (المبهدلة) لبرنامج (الكاميرا الخفية) الذي عاثت في قنواتنا الجزائرية فسادا وانحرافا ودائما تحت شعار (رمضان يجمعنا)، الذي تم اختطاف معناه الحقيقي ليصبح عنوانا للعربدة والبلطجة الإعلامية التي تقتحم الأسر العربية المسلمة دون استئذان أو سابق إنذار بكل وقاحة في غياب تام لأي سلطة ضبط للسمعي البصري التي تفتقر هي في ذاتها لأدنى شروط الضبط. وأخيرا سيبقى رمضان يجمعنا على طاعة الله ومحبة رسوله ويجمعنا على حب الفقراء والشعور بمعاناتهم ويجمعنا على موائد الحلال الطيب والكلمة الحسنة وذلك في انتظار أن نجتمع على كلمة سواء لغلق برامج الفتنة والفساد التي تفرق ولا تجمع، وفي انتظار ذلك تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصحة فطوركم.