أمه.. تلك الكلمة الرائعة والمعاني الجميلة، التي بها يتسع الكون في عيون الصغار. مذ أتى إلى هذه الحياة، علم أنها تحملت الكثير من أجله ومنحته كل ما يلزمه، من طيبة وحنان، ودفء البيت لمواجهة تلك اللحظات القاسية المجهولة، التي تتقدم باتجاهه، وهو يتقلب في الظلمات. كان غائبا عن كل التفاصيل والأشياء التي من حوله، لحظة إعلانها عن وجوده بين الفضاءات و الأمكنة، والعيون العابرة بقربه، تفتخر بين اللحظة والأخرى باسمه، و هو يجهله ويجهل نفسه بين أحضانها. كانت أمه بين جدران البيت، الذي بناه أبوه في الريف بالطوب ذراعا ذراعا، تشكل قصته، وتداعب متاعب العيش والزاد، بجوار ملامح العمر الهارب من ظلال المكان، المتكئ على قوس السماء، الصامد في وجه الشمس حدّ الثبات، كانت تصنع أحلام طفولته اليافعة، من قساوة الشتاء وحرارة الصيف الحارقة، مقسمة بين مشاعرها السارحة وأحاسيسها المدسوسة بين خفقان قلبها، وبين شؤون البيت الذي يحمل الكثير من المعاناة والتضحية، رغم أنه بسيط لكنه يحتاج للكثير من الجهد المحلق بالمرح كان البيت الذي سقاه أبوه بماء يديه، وجعل منه قصته الخالدة للعابرين، لأحفاده الذين أتوا من بعده، لكل الأماكن الحالمة بالذكريات، أروع وأجمل ما في قبله وفي ساعة يومه. كان قد بنا تلك الفصول، بقرب أصابع الجبال التي ألف الصعود عليها، لينثر قصصه باتجاه فرح الطبيعة، لتخبأها مرآته الصافية، فتتذكره قلوب الطيبين الصادقة. كانت أمه تعرف كيف تتقن طهي ذكرياتها الهاربة من فضاء الحنين، والمدسوسة بين ثغور النسيان، تعرف كيف تضعها على موقد قلبها المليء بألوان الفاكهة وتضاريس المكان، والحكايا المتسربة في ثنايا الليالي الباردة، بين أصابع الشتاء. كانت تذكر منابع الفرح، التي مرت بها، و شهدتها فيما مضى بكل أسف، لتعيد نسج خيوط الكلام في أرصفة الزمن العتيق، صارت ترى بمرآة الحنين المسندة على شواطئ قلبها المتعب، والعامر بالصفاء. لكنها رغم وهن جسدها، هي أقوى من كل نسيان ينخر في فصول الحلم، وشساعة الرؤى، هي تحفظ عن ظهر قلب الأطلال، و ما حولها من عبق المكان، تحفظ ظلال المساء وفرح الصباح، في جناح الفراشات بين الحقول الزاهية، تحفظ الجلسات الحميمية، والجهات السارحة بالعقول، والخطى العابرة في عقارب الساعة. كلما تنسلخ رؤاها عن العمر رويدا رويدا، تزداد مفعمة بالحنين، حتى تكاد تنتهي بها الحكايا إلى تجديد الزمن الفضاءات الطليقة، الآبار العتيقة المعبأة بسيول الشوق. وسعادة الجبال النقية، وأماكن الحنين الراسخة في أفلاك أفكارها، ومآرب العيش والحياة، محطاتها الآسرة، ما فتئت ترسمها بريشة حبها، ثم تمنحها للذكريات. كانت أمه تعرف كيف ترتب قلبها البسيط المرهق بالمشاق، كيف تفصل مشاغلها قبل أن يحل المساء، وتلتفت للوجوه المتعبة بطول البكاء. كانت تدير معالمها المتحولة في الفراغ، حسبما تقتضيه الظروف المحيطة بها، غير أنها ترتب كل الأمكنة، التي يستظل بها المتعبون ويحتاجها العابرون. أدرك أن ذاكرته التي مازالت عالقة في مخيلته، تستعيد شريط الأحداث العابرة مثل حلم انقطع عن النيام، مثل سحاب مرّ و رمى مزنه لأرض جرداء، رسم فيها صورا زاهية، وأعاد الحياة والفرح للعيون و للعصافير مثل قوس قزح ثم نام. أمه منبع يجري في سيول الحياة، وأفق يتسع لكل جناح يحلم بمعانقة السماء. (*) نعاس صالح / شاعر وكاتب