محكمة مسعد قديما تمثل سيرة السيدة "بن فتاشة التالية بنت سي علي" نموذجا عن المجتمع المحافظ لأولاد نايل وعدم تساهله فيما يتعلق بقضايا الأسرة خصوصا في فترة الإحتلال الفرنسي. هذا الأخير فرض تنظيما قضائيا غريبا عن أبناء المنطقة وزجّ فيه بالقضايا الأسرية التي كانت تجد لها الحل وفقا للشريعة الإسلامية عن طريق "الجماعة" والأئمة ... ولهذا كان تعيين امرأة في وظيفة "باش عدل/ مساعد قاضي" يمثّل إذعانا لإدارة المحتل الفرنسي لأخلاق وعادات سكان المنطقة وحفظا للحرمات وسترا لأسرار العائلات والأسر. الباش عدل "التالية بنت سي علي" هي سيدة نائلية فاضلة من عرش أولاد يحي بن سالم، فرقة أولاد سعد بن بوزيد. ولدت سنة 1881 لأبيها سي علي الباش عدل المشهور وجدّها هو القاضي في العهدين العثماني والإحتلال الفرنسي سي محمد بن فتاشة "1790-1891"، وشقيقها هو "سي عمر" (1903-1972) الذي يمثل ذاكرة عرش أولاد يحيى بن سالم وضابط حالتهم المدنية ومرجع تاريخهم وحدود مضاربهم. حباها الله بقوة الشخصية فكانت تقف على الحق دون مواربة أو تهرب. متدينة وملازمة الصلاة والذكر وتحفظ القليل من سور القرآن نالتها من التردد على (محضرة الفتاتشة) في (رحبة) مسعد أين كان يُدّرس والدها (سي علي) ... عاشت وكبرت "التالية" في هذه "الرحبة" التي كانوا يملكون أغلب منازلها وأيضا بساتينها في منطقة (شادن) بغابة مسعد. فعاشت مع أربع إخوة وهُم "سي عمر" الأخ الوحيد، و"الشايعة" جدة عائلة لعياضي، و"عائشة" جدة عائلة حليس، و"زينب" جدة عائلة حرفوف. تزوجت من "عبد الله بوشويرب" ابن "محمد بن عبد الله" الرجل الثري والملقب ب "ترباي الجراد". ذاقت "التالية" الترمّل إثر اغتيال زوجها في الڨعدة بمسعد على يد قطاع طرق في طريق عودته من "زاغز" بقافلة تجارة. وقد أنجبت منه ولدين هما "علي" و"أحمد وهيه" وثلاث بنات هنّ "الزهرة أوخيّه، فاطنة طيطا، أم الخير" ... ربّتهن أمهن "التالية بنت سي علي" أحسن تربية وأعدّتهن أحسن الإعداد للمجتمع فكان يتسابق الرجال للزواج بهن حتى أنشدت فيهن الڨوالة "الزهرة بنت بن حمزة" نشدا جاء فيه: شيعاتكم زادوا فيّ *** يزّوجوا بالميات والسيدة (التالية) مثال آخر عن ما هو متعارف على المرأة الجلفاوية محافظة على نفسها وأهلها وذريتها وبالتالي المجتمع مصداقا لقول المولى عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6 .[دأبت على تعففها وصرف نظرها عن إعادة الزواج بعد بقائها أرملة متكفلة بأولادها وبناتها ليقول فيها كبير شعراء أولاد يحي بن سالم أحمد بلمريني: تربّي ليتام تڨعد مكروسة *** وما تمشي مشي الخطى ما تخدم عار فبعد اغتيال زوجها وفاجعة وفاة والدها في غرداية, وجدت التالية نفسها تصارع على عدة جبهات، وعانت من العوز وضيق الحال. تلك المرأة الحديدية كافحت لتربية أولادها بامتهان أعمال كثيرة منها نسيج البرنوس الأبيض ليلا وفي النهار كانت تطحن "العفص" والقهوة و"راس الحانوت" وكذلك (فتل) الكسكس وتحضير (لحم الشريح) أو كما تعوّد تسميته الفتاتشة ب (القديد). العلاقات الأسرية والمجتمعية ... عاشت (التالية) حياة الرفاهية في بيت والدها تخدم الجميع وتقف على كل كبيرة وصغيرة لسداد رأيها وقوة شخصيتها. كان بيت والدها الخوجة لا يكاد يفرغ من الضيوف لاسيما أنه كان قريبا من القايد (علي غراب بن الطيب) فكانت له علاقات متشعبة ومتنوعة مع العديد من الشخصيات. في ظل هذه البيئة صُقلت شخصية السيدة (التالية) التي صارت صاحبة واجب مع الجميع وفي جميع المناسبات طوال حياتها لما كانت تعيش في بيت والدها ولا تفوت سانحة للوقوف إلى جانب الجيران والأقارب والمعارف ولا تبخل بأي مساعدة. لقد أكسبjها تلك الخصال الكريمة صداقات مع أهل الحي من كل الفئات. وصارت شخصية مؤثرة لما تجالس النسوة بحديث في كل الشؤون خاصة لما تسرد عليهم قصصا تاريخية أخذتها من مجالسة كبار عائلتها. ومن بين العائلات التي ارتبطت بالسيدة "التالية" نذكر عائلة القاضي التاوتي عن طريق أمهم السيدة الفاضلة (صخرية) إبنة (محاد بن عبدالله) الملقب ب (مول الشرشارة) من عرش (أولاد بن علية). توطدت أواصر المحبة مع (صخرية) التي أنجبت ولدين مارسا فيما بعد مهنة القضاة: (عبد الرحمن التاوتي) أصبح قاضيا خلفا لوالده في مسعد ثم غادر إلى غرداية؛ بينما أخوه (عبد الغني التاوتي) فقد سافر واستقر في فاس بالمغرب. لقد كانت هاتان السيدتان محلّ قسم لما تحلف بعض النساء فيقلن "وحقّ التالية وصخرية بنات العلما ربّايات ليتامى". كما ارتبطت بصداقة عائلة عائلة الحريزات الميزابية (بوهون وباكير) عن طريق ولديها "علي وأحمد وهيه" الذين أخذا عن "الحريزات" مهنة الخياطة وتعلما اللهجة الميزابية والفرنسية نطقا فقط. وقد تحسّنت أحوال العائلة بعد أن أصبح الإبن (علي بوشويرب) أمهر الخياطين رفقة (خياط أولاد نائل) وكان الخياط المفضل للباشاغا أحمد. ونتيجة لذلك إشترى "علي بوشويرب" حصة أمه من الميراث وكتبها باسمها لتتنازل هي وأخوها "سي عمر" على كامل الحوش لتوسعة مسجد (الزنيني) المجاور له. كما ارتبطت السيدة (التالية) بعلاقة مودة واحترام مع عائلة "سي أحمد شكالي" المنحدرة من عرش (أولاد العور) عن طريق السيدة "خديجة بنت الباشاغا"، زوجة سي أحمد شكالي. وكان ولداه "محمد" و"حسن" مقربين من "التالية" كثيرا لحبها مداعبة الصبيان. و كانت ترعى مصالح العائلة دوريا في الأمور الكبرى كالولائم وشراء الذهب مرافقة المكلف بالشراء نظرا لخبرتها وخوف التجار اليهود منها لمنصبها وذكائها وشخصيتها. فكانت كذلك تجتمع مع النسوة ويستمعن لحكاياتها التاريخية في تلك المناسبات. أما عائلة القاضي عطا الله فكانت علاقتها بهم عن طريق زوجته "بنت القويني" التي كانت تأنس لحديثها وحكاياتها فتوطدت العلاقة بينهما. كان إلمام السيدة "التالية بنت سي علي" بقضايا عصرها يثير العجب والاستغراب والدهشة. وقد خدمت هذه العلاقة كثيرا القاضي فكان يرسل لها عن طريق زوجته للاستشارة حول بعض القضايا المرتبطة بميدان خبرتها. وكانت تثني على القاضي لاهتمامه ومتابعة قضاياه حتى خارج أوقات عمله ... لقد كانت فعلا متفقهة بفضل مجالستها كبار عائلتها تناقش وتأخذ عنهم العلم وتسأل وتطلب التفقه في الدين وأحكامه ... وهو ما أهّلها لتحجز لنفسها مكانة مجتمعية في القضاء الأسري بمسعد ... الباش عدل ... لقب "باش عدل" أطلق على هاته السيدة التي تعين وتساعد القاضي والمتقاضين لتفادي الإحراج لطرف أو إلحاق أي ضرر معنوي بطرف آخر. ويعود سبب اختيارها من القضاة إلى رصيد العائلة العلمي والفقهي وعمل أبيها "سي علي" ككاتب لقاض قبل أن يصبح خوجة لقائد عرشه. كما أفادتها العلاقات التي ربطتها ببعض الأسر سواء عن طريق الجيرة أو عن طريق المصاهرة مما جعلها مرجعا لنساء زمانها فيما يتعلق بأحكام الشريعة فصارت على اطلاعها على أحوال وأوضاع محيطها سواء البدو الرحل أو أهل القصور. كان مجال عمل السيد "التالية بنت سي علي" في قضايا النساء والطلاق والحضانة والزواج والنزاعات على التبني وغيرها من شؤون الأسرة. وتجدر الإشارة هنا أنه لانعدام الفحوصات والخبرات الطبية ولما تعجز السيدة الباش عدل عن الدفع بأي رأي، وهذا في حالات نادرة، وكذلك لا يستقر القاضي على قرار جازم خوفا من ظلم قد يقع، فإنه يُطلب من الخصوم القسم على المصحف. كان يحدث ذلك مع (سي عطا الله بن أحمد) الذي عرف عليه الصرامة والانضباط والعدل في أحكامه صاحب الصوت الذي يسد الآفاق يرافقه في ذلك الباش عدل "سي الصادق". السياسة ... كان لانخراط "علي وأحمد" في السياسة متاعب جمة لهما ولأمهما السيدة "التالية" على الصعيدين الفسي والصحفي خوفا على مصيرهما أمام إجرام المحتل الفرنسي. فالإبن أحمد وهيه" وبعد رجوعه من العاصمة وقضاء أسابيع في السجن بسبب حمل وتعليق منشورات سنة 1946 لازمه مرض باطني أودى به. أما (سي علي) فكان لا يفوت الاجتماعات السياسية في بيت (محاد الصغير مومن) زوج أخته "صخرية" التي ماتت بسبب تسمم غذائي ... فقد عاد من أحد الاجتماعات وقد فقد السيطرة على نفسه فمزّق أوراقه ومنشورات بطاقات وعقودا ومبالغ مالية وبقي على تلك الحال إلى وفاته سنة 1996. الوفاة ... توفيت السيدة "التالية بن فتاشة" عن عمر ثمانين سنة بعد مرض خفيف ودفنت بمقبرة مسعد بنفس طقوس جدها "القاضي سي محمد" فأقيم "العشاء" ليلة وفاتها وبعد صلاة العشاء رتّل "الطلبة" سورا من القرآن الكريم داعين لها بالرحمة ولأهلها بالصبر، رحمها الله وجعل الجنة مثوى لها ولسائر موتى المسلمين. نماذج عن قضايا أسرية حضرت فيها السيدة "التالية" ... لا تحضرنا هنا كل القضايا التي شهدتها السيدة التالية بنت سي علي، رحمها الله تعالى، نظرا لبعد ذلك الزمان عنا وعدم توثيق الرواية الشفوية. وقد وصلتنا ثلاث قصص تمثل نموذج عن دورها في القضاء الأسري. القضية الأولى: في جلسة عقد قران بمحكمة مسعد برئاسة القاضي "سي عطا الله" ونودي على أطراف الزواج ... القاضي: هل تتزوجين؟ الفتاة: انعم سيدي... (كانت تبتسم وتقوم بحركات عشوائية طفولية غير آبهة بمن حولها) القاضي: تتزوجي هذا الرجل؟ الفتاة: انعم سيدي؛ وهنا أكثرت من الضحك أمرها القاضي بأن تغادر إلى (الحوش) ونادى على السيدة الباش عدل التالية بأن تتبعها ... بعد بعض أسئلة خاصة جدا من التالية إلى الفتاة صاحبة العشر سنوات؛ إتخذت قرارها. رجعت إلى القاضي وأطلعته على ما توصلت إليه ليدعم اقتراحها فورا وذلك بتأخير هذه الزيجة. لا تستغرب أيها القارئ الكريم فقد كان زواج بعض البنات في الماضي يتم حتى قبل أن تبلغ العشر... بعد مضي ما يقارب السنتين رجعت البنت وبدت عليها مظاهر النضج. ولما سألها القاضي، تغّير لونها وقد غمرها حياء شديد لتشير بالموافقة عن طريق إيماءة. تلك هي المرأة المسلمة المجبولة على الحياء مصداقا لقوله تعالى: (فجاءته تمشي على إستحياء( ]القصص:25 [ لماذا استدعى القاضي السيدة التالية؟ وما كانت أسئلتها للفتاة؟ لماذا حُقق مع الفتاة على إنفراد؟ ما سلف كان إحدى القضايا الواقعية التي شاركت في حكمها ( الباش عدل التالية بنت سي علي). وقد تفادى القاضي إحراج الجمع حفاظا على قدسية التقاليد العائلية وإرساء لمبادئ الحشمة والحياء. فالحياء يحول دون المعاصي، قَالَ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ"الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ)"(رَوَاهُ البخاري ومسلم في صحيحيهما). فالحياء رفعة وسمو في الأخلاق، وذاك ما تميز به المجتمع النائلي عامة والمسعدي خاصة في كل مناح الحياة. وكان الحفاظ على هذه السمة واضحا جليّا في تسيير شؤون القضاء. فقضايا الأسرة لما لها من حساسية وتأثير وأهمية حرص القضاة المسلمون على إدارتها وفق ما يقتضيه الشرع وتقليد وأعراف أهل المنطقة. كانت مبادئ الحرمات محترمة جدا حفاظا على قدسية الحياء في الفتاة والمرأة لما تقف لتدافع عن حقوقها أو تطالب بإنصافها ... يقول أبو تمام: لا والله مَا في العيَش خيرٌ *** ولا الدنيا إذا ذهَب الحياءُ يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ *** ويبقى العُودُ ما بقي اللحاءُ وما دامت على قدر من الحشمة، كان القاضي إحقاقا للحق وجنوحا للحياد وسعيا للعدل يلجأ إلى بعض النساء المشهود لهن بصفات الإستقامة والمصداقية والمنبت الطيب. هن المتمرسات العارفات بأوضاع العائلات ليقمن بالبحث والتحري والسؤال. فكانت الواحدة منهن بمنزلة المحققة والطبيبة والقابلة بكل مسؤولية وأمانة. القضية الثانية: في ظاهرة أخرى من ظواهر الاستهتار من قبل البعض في أمور بناء الأسرة والزواج وقيمة الولي الحقيقي، وقعت هذه الحادثة: حضر الشهود والعريسان وبدى على الطفلة آثار البكاء. وبدأ الكاتب يحضر في الورقة لتشير التالية للقاضي بحركة فاتجه خارج الغرفة ... وقالت بعد أن رأت شيئا مريبا في الفتاة "الطفلة تتفكر والدها في الزواج وتتفكر أمها في النفاس". رجع القاضي إلى الجلسة وسأل الفتاة: "وين راه أبوك؟" تلعثمت الفتاة و لم تجد الإجابة ... لقد كان لنباهة السيدة التالية اكتشاف غياب والد الفتاة لذا أخبرت القاضي بالأمر فأبطل الزيجة وطالب بإحضار الولي الشرعي. القضية الثالثة: حدث مشكل بين عائلتين في قضية تبني إثر طلاق. فلما حضر المتخاصمان أنكرت الطليقة الحمل. فاضطر القاضي لاستدعاء السيدة (التالية). دخلت معها في غرفة مجاورة رفقة امرأة أخرى كانت تساعدها في مثل هذه القضايا تدعى ( التالية بنت سالم لطرشية). بعد ربع ساعة عادت للقاضي وأخبرته أن المرأة حامل في شهرها الثالث. لكن المرأة استمرت في النكران والباش عدل تؤكد بلا شك وباليقين الأمر. وبعد أخذ ورد طلب القاضي من السيدة القسم ففعلت! وطلب منها في الأخير أن تكمل عدتها وتنتظر مدة معينة قبل أن تعيد الزواج. لكن بعد ستة أشهرأنجبت المرأة ولدا. زارتها الباش عدل (التالية) بعد أن أخبرتها القابلة بالأمر. فهي لا تترك الأمر بل تتابعه لكي لا تدع مجالا للشك ومن أجل راحة ضميرها. ** بقلم الأستاذ بن فتاشة مبروك: أستاذ انجليزية متقاعد من قطاع التربية، أستاذ متعاقد سابقا بجامعة الجلفة، مهتم وباحث في تاريخ منطقة مسعد. عقد شراء منزل الورثة لمنحه كتوسعة لمسجد الزنيني، سنة 1946