إن ما صرف النظر لعثمان بن عفان عن تلك التصرفات المريبة التي باتت تحاك من حوله هو ذلك الأمن المنشود الذي خلفه من سبقه من الخلفاء الراشدون و أحقيتهم في الخلافة دون منازع ، وليس يعني أن عثمان مسلوب الإدارة أو انه لا أحقية له ، لكنها الفتنة تعمي الأبصار و تذهب بالألباب و تحيف بذوي الحسم و الجلد والكياسة ،و لنا في إسقاط تاريخي معاصر في هذا الشأن على ما كان عليه بورقيبة وما بعد سقوطه أيضا ، فأمل الشعب التونسي عند سقوط بورقيبة أن تتغير أحواله ، وينتقل من حالة الشلل التى أصيب بها أواخر أيام الدكتاتور بورقيبة- إلى حالة يثق فيها بنفسه وقدراته ، ويتمتع بحريته حيث يصبح قادراً على التفكير والإنتاج، وأن الوعود كانت خصبة في شتى الاتجاهات . ما الذي كان يشكو منه الشعب التونسى ، وكان يكبله عن تحقيق ما يطمح إليه ؟ إنه الوضع النفسي والاقتصادي. و خصصنا العاملين النفسي و الإقتصادي حتى نرى مدى جدوى دعوى التغيير كورقة مطروحة على الأجندة الوطنية ، ومدى فاعليتها في موزانة الأمر بين الحاكم و المحكوم ، و سوف يرى القارئ بلبه الحصيف دور الجانب السيكولوجي في تأزيم و تضييق بؤر الحوار و سد كل منفذ للتغيير الصحيح و كذا حساسية التوتر الإقتصادي و تذبذبه و تأثيره بالغ الأهمية في العامل الأول. أما الوضع النفسي فيتمثل في عبادة الذات التى كانت سمة بارزة في سلوك بو رقيبة، وإضفائه على نفسه من الصفات والقدرات والمواهب ما لا يطلق إلا على الآلهة. وقد حاول الحاكم السابق خلال ثلاثين سنة أن يفرض على الشعب التونسي هذا الأسلوب من عبادة الشخصية ، ويعمل على أن يجعل كل شيء يدور حوله ، وكان يعتقد أنه يعرف مصلحة التونسيين أكثر منهم أنفسهم. وشيئاً فشيئاً أنبتت حوله حاشية تجسد فيها نفاق وفساد لا يوازيه إلا نقص في الكفاية ، وعدم اكتراث بحاجات الشعب الحقيقية. وهل هذا ما كان عليه الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حاشاه أن يوصف بشئ من ذلك . وأما الوضع الاقتصادي بتونس فكشأن الدول التي تسود فيها نظريات حكم الفرد ، أو نظريات الحزب الواحد ، فلابد أن تواجه ضعفاً وركوداً اقتصادياً سببه قتل الطموح والمبادرة في النفوس ، وعدم الأمان والاستقرار الذي هو شرط أساسي للازدهار الاقتصادي ، وحكم بو رقيبة كان مزيجاً من تسلط الفرد وتسلط الحزب الواحد بل إنه جمع أسوأ ما في هذين الأسلوبين، وهكذا عندما بدت بوادر التململ من هذا الجو الذي وجد الشعب التونسي نفسه فيه لم يكن من علاج لهذه البوادر غير القبضة الحديدية. ولكن هذه السياسة ليست علاجاً بل هي مسكن. وهكذا كان التغيير الذي حدث في تونس في لحظة حاسمة ، عندما وصل الطاغية إلى أقصى درجة من الطغيان ، فتقدم بن علي وقطف ثمرة الحالة التى أوصل بو رقيبة تونس إليها ، ولو لم يفعل هو لقطفها غيره. ليعذرني القارئ مرتين أولا أني خصصت هاهنا الكلام بشئ من التفصيل حول تونس لما له من أثر جسيم و وقع معنوي على وجدان و نخوة كل مسلم عربي أصيل يغار على هويته ، و ثانيا لأني ربطت كل ذلك بعهد عثمان و ما يليه من أحداث سوف نأتي على تقصي إسقاطاتها رويدا رويدا إن شاء الله وإني مطنب لا محالة في سرد فلسفة التغيير على ضوء القراءات التغيرية المترادفة و المكملة لبعضها البعض. فالشعب التونسي شعب مسلم عريق في إسلامه ، يشكل الإسلام في كيانه نسيجاً ليس من السهل تجاهله وتجاوزه ، وعلى الرغم من التخريب الفكري والثقافي الذي أحدثه بو رقيبة خلال فترة حكمه الطويلة إلا أنه لم يزد على أن جعل الشعب التونسي يطوي جوانحه على كراهية مستكنة لجرأة هذا الدعي ووقاحته على الإسلام الذي هو عقيدة الشعب التونسي ، لم يفهم بو رقيبة كأمثاله من المتسلطين بغير حق - أنه عندما كان يقف الساعات الطوال أمام مكبرات الصوت والمنابر الإذاعية المحروسة يحقّر أحكام الإسلام وينتقي ما شاء من تعاليمه وشعائره كالصلاة والصوم ، ونظرته إلى المرأة ، ويجعل من ذلك مجالاً لسخريته وتهجمه وهرائه الذي يجبر الشعب على سماعه وحفظه ، لم يفهم أنه كان يهين عقيدة الشعب الذي يحكمه ، والذي يهين عقيدة الشعب لن يحوز على ثقته ولا محبته ، لقد كان حفنة من المتملقين المنافقين المنتفعين يحيطون به ويزينون له فعله القبيح هذا ويرضون فيه حب العظمة والنفوذ الذي اشتهر به ، بالإضافة إلى الأقلام التي لا يهمها الإسلام من قريب أو من بعيد داخل تونس وخارجها التى كانت تكيل له المدح على وقاحته التي يسمونها شجاعة ، وجرأته على الباطل التى يسمونها ألمعية ، ولكن البلاد لا تجني من أهواء الطغاة والمنافقين والمنتفعين الانتهازيين سوى ما جنت تونس من سياسة ذلك المسمى بو رقيبة. ../... يتبع (*) طليبي محمد / دراسات عليا في التاريخ