لقد أتينا على مثال عصري في الحلقة الفارطة من تونس المعاصرة و كيف آل بها الحال و نأى بها الوضع بعيدا جدا إلى دهاليز الظلم و التعسف و الجور في أقسى صوره و أعتى جبورته ، ولكن للحق صولات وصولات .و ماربك بغافل عما يفعل الظالمون . و إني أدعو القارئ الكريم ذي اللب الحصيف أن يجمل وعيه ليدرك مكامن التوتر في المجتمعات و الشعوب إزاء أنظمتها ، و إني أدعوه إلى أن يحتز الشبهة إحتزازا بتتبع و ترصد الحق فيما تخطه الأنامل. فمهما كان الحاكم عادلا قائما على شؤون أمته أو ظالما غاشا رعيته سالبا إياها الأحقية فإنه لا مناص من وجود زمرة التوتر وهي الزمرة التي تتعارض مصالحها و برنامج الحاكم ويجوز أن نسمهم بالمتصديين في المياه العكرة في ظل حكم ديكتاتوري . من خلال المخطط المبين أعلاه نرى أن زمرة التوتر و التي عبارة عن طغمة تضم مزيجا من التوجهات الليبرالية منها و المتطرفة ذات النزعات الراديكالية ، بحيث تجتمع نخب هذه التوجهات في تجمعات و تنظيمات منها ماهو حكومي ومنها ماهو خاص قد يأخذ منحى إقتصادي مثلا، و هذه النخب تتمايل وجهات نظرها وفق ما يخدم مصالحها فنجدها تعمل مع الجهاز الحكومي في سلاو ووفاق دائم لكنها في ذات الوقت تعمل على الأفق الشعبي يعني مسك العصا من المنتصف ، و خطورة زمرة التوتر أن لا أحد يمكنه التكهن بمدى جدوى مصداقيتها من جهة ولا مدى فاعليتها في الذود عن المصلحة الوطنية كطابع يأخذ أولية الأوليات .و حتى ندلل على كلامنا بشئ من المنطق التاريخي و كمثال على زمر التوتر نأخذ ما حصل على عهد عثمان رضي الله عنه، فجمع ليس بالقليل من الناس تهيبوا بادئ الأمر منازعة عثمان و تنحيته عن الخلافة كونه أتى أمورا على غير ماكان عليه أبو بكر و عمر رضي الله عنهما، ثم نراهم يبدون غير الذي كانوا عليه فتجمهروا جماعات و اتفقوا على أمرهم في الكيد للخليفة والذي حرك نوازع الثورة في نفوسهم و قواه هو تسامح عثمان رضي الله عنه معهم فعرفوا أنه ليس بمانعهم عنه فوقع من قتله شر ما الله به عليم . إذا زمر التوتر تكون كامنة بادئ الأمر حيث تراها تتغزل بالنظام و تجيد بحكمه و أهليته التي لا تقبل النقاش في تسيير شؤون الدولة ، و تبصرهم حينا آخر يقفون في صعيد واحد مع مطامح الشعب وهو بين هذا و ذاك يترصدون لأي من الفريقين تميل الكفة ومنه يكون الموقف الحاسم لهذه الزمرة في ترشيد فاعليتها في سبيل تحقيق مصالحها . و ثمة أمر ينجرّ عن تمكن هذه الزمرة من تحقيق مآربها في تنحية حاكم ما أن نجدها هي الأخرى تتخذ ذات المسلك وذلك بتبين فحوى التغيير الذي أتى به زين العابدين بعد تنحيته لبورقيبة مما يقوى نظريتنا حول ما أسميته بزمرة التوتر. فالرئيس التونسي الجديد أعلم الناس بالذي أوصل الحالة في تونس لما وصلت إليه من تأزم ، وهو عليم أيضاً أن الباحثين عن الشرعية في الشعوب التي عقيدتها الإسلام - لابد لهم من احترام هذه العقيدة ، لذلك فقد قدر الشعب التونسي كل التقدير الخطوات التي بدت مخالفة للمنهج السابق ، فبينما كانت دعاية النظام في العهد البائد لا تألو جهدا أن تحقر كل مظاهر التمسك الجماعي بالإسلام ، وارتباط تونس بعمقها العربي الإسلامي ، وتربطها ربطا متعسفا بأوربا وبالفكر الغربي ، باسم التطور والمدنية ، وتنعت أصحاب الاتجاه الإسلامي بأقبح النعوت أثرا عند الجمهور من مثل : الظلاميين ، المتطرفين ، الذين يريدون إعادة تونس إلى ظلامية القرون الوسطى... بينما كان ذلك وأكثر منه هو أسلوب الدعاية .. فرح الشعب التونسي من عودة كلمات تقدير الإسلام والهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي ، والنية للنظر في تحسين المناهج التربوية بما يعيد الاعتبار للعروبة والإسلام في المجتمع التونسي. ورافق هذا التقدير الكلامي خطوات فعلية ، فقد توقفت ملاحقة الإسلاميين واعتقالهم ، وأفرج على مراحل عن الأعداد الكبيرة ممن اعتقل منهم على عهد الحاكم السابق ، وقد نظر الشعب التونسي بأجمعه إلى هذه الخطوات نظرة التقدير، واعتبرها تغييرا ذا بال في مجال الحقوق الطبيعية التى كانت مهانة ، حتى الناس الذين ظلمهم النظام السابق وألصق بهم شتى الافتراءات لم يبخلوا بإعطاء هذه الخطوات ما تستحقه من اعتبار ، وأحاطوها بالآمال العريضة التى بدت في بعض الأحيان ومنذ وقت مبكر مغرِقة في التفاؤل. إلى هنا أصبح في تونس نظام جديد وشعب ذو أمل جديد ، نظام يتخذ من التغيير الذي حمل قمة الإنجاز، ويثمّن هذه الخطوات تثمينا مسرفا ويطالب بالثناء والاعتراف بالجميل ، ولكن الشعب اعترف بهذا الجميل وقام بواجب الشكر ، وهو ينتظر ممن قاموا بتلك المبادرة فتحركت الرمم في أجداثها ، وانتعشت الآمال التى كادت تموت - أن يزيلوا القيود الفعلية التي تبعث الخوف والرهبة ، وتجعل الشعب دائما خائفا يترقب ! . بل إن الشعب التونسي أصبح يحس أن ما حصل عندهم يشبه ما حصل في ألمانياالشرقية على إثر سقوط (إريك هونيكر) حيث تسلل جهاز المخابرات السيئ الذكر (ستازي) ليخلفه ، ولكن مع فرق بسيط وهو أن النظام الجديد في تونس نجح في التسلل حيث فشل (ستازي) وبدأ التونسيون يكتشفون أن الخدمات الشفوية للإسلام لها هدف آخر ، وأن ما حصل من إفراجات هو أقصى ما يمكن تقديمه من أمور فعلية. ويبدو غريبا جدا لمن إستقرئ السياسة في تونس على عهد زين العابدين -خصوصا بداية حكمه قبل أن يفتضح أمره- تصرف الحكومة تجاه بعض الحالات ، فبينما تعترف هذه الحكومة للشيوعيين وباقى اليساريين والعلمانيين بشرعية العمل السياسي ، وتعطي هؤلاء من الاهتمام أكبر من حجمهم في صحافتها وإعلامها ذي البعد الواحد ، تراها تضن بأي اعتراف قانوني لكل ذي توجه يشم منه اسم الإسلام ولو مجرد شم ، فأي تغيير حصل!. ../... يتبع (*) طليبي محمد / دراسات عليا في التاريخ