من خلال نظرة كونية تكاملية لعالم إبداعي متميز وإسقاطات فنية نوعية غارقة في التصور الحديث استطاع الكاتب والشاعر أحمد عبد الكريم أن يشكّل في موضوع لم يطرق سابقا أثر اللون كعنصر تشكيلي وكمعطى بصري وجمالي على التنوعات الشعرية منها القديمة على وجه الخصوص، حيث تناول الشاعر والكاتب أحمد عبد الكريم في هذا الإصدار الحديث " اللون في القرآن والشعر " الصادر عن منشورات جمعية البيت للثقافة والفنون بالجزائر 2010 . موضوعا مهما ينطلق أساسا من تقرير حقيقة كشفية منبعها "أن المعلّقة هي منجز تشكيلي ظهر مبكرا في بيئة عربية جاهلية تعتمد على الشفاهية ، وهو أمر ذو دلالات كبيرة لم ينتبه إليها كثير من الدارسين".. يقول في مقدمته أن " الحس التشكيلي والشعري المزدوج هو الذي حكم ذائقتي أو شغل جزء كبيرا من اهتمامي وأدى بي إلى البحث عن كل ما هو تشكيلي لوني في الشعر ، وكل ما هو شعري في التشكيل .... بل أكثر من ذلك انعكس ذلك على تشكيل الصورة الشعرية عندي كشاعر.." وقد عرف عن الشاعر أنه يستند إلى روح وصور شعرية قائمة على تجسيد نماذج فنية تستجلي خصوصية البناء التشكيلي، ترتبط ارتباطا وثيقا باختيارات قائمة على ترميز المطلق، ومن ثم فلا غرابة أن يقدم المعطى الفكري والنظرة الفنية الشعرية بكل إسقاطاتها عملا تكوينيا يحمل سيمة التجديد والاختلاف، كما يحمل انفلاتا من خطوات أي منهج مستعينا برؤية خامية لفضاء هذا التصور، ويؤكد ذلك في قوله من خلال المقدمة "إن الدراسات المثبتة في هذا الكتاب، والتي لا أدعي أنها تتبع منهجا ما، او أنها ذات طابع نقدي أو منهجي صارم، بقدر ما هي تأملات وتفكيرات لا تتأسس على منهج ولا تقوم على خطة محكمة، ولذلك قد يكون طموحها أكبر مما حققته، وربما يبقى مشروعي عن الحس اللوني في الشعر العربي الذي كرست له كثيرا من جهدي ووقتي، مشروعا مؤجل الاكتمال إلى حين"، لكننا نرى من خلال هذا التصريح الموثق والواثق لغة مختلفة لاستكشاف حقيقة ما، وإن كانت تختلف عن جزئية عنوان الكتاب الذي يوحي بدراسة نقدية مؤسسة تتبع منهجا دقيقا ومحكما، وربما السبب على حد تعبير الكاتب "أن الكتاب يضم مجموعة من الدراسات كتبت في فترات متباعدة ، ولكن ليس هناك ما يفرقها بقدر ما هناك ما يجمع بينها ، إذ تتناول كلها ، كل بحسب النص أو الشاعر الذي تعرضت له ، حضور اللون في الشعر العربي وتحليل الشواهد للوصول إلى مدى تفضيل الشاعر لهذا اللون أو ذاك" لذلك فقد جاء تقسيم الكتاب مبينا تماوج اللون في اللغة القرآنية واللغة الشعرية ، فالبداية كانت تتناول معاني الألوان في الشعر والقرآن مستنبطا بذلك الكتاب كل المجسمات والتخيلات اللونية بين الشعر والقرآن، أما القسم الثاني فقد خصصه الكاتب لشعريات اللون، وارتأى أن يتقاطع في استكشافاته مع المتنبي باعتبار صيته الواسع وحضوره القوي فكتب "المتنبي عاشقا للون الأسود" مبينا التصوير الفني اللوني في شعر المتنبي، فقرر أن "كل الألوان عند المتنبي تنزاح نحو الأسود الذي هو حالة انعدام الألوان عند الفيزيائيين المصريين" وقد استشهد بقوله: له منظرٌ في العين أبيض ناصعٌ ولكنه في القلبِ أسودُ أسفعُ ومن هنا يقدم مشاهد وألوان في شعر المتنبي تحيل دائما إلى الفكرة التي استنشقها استبيانه الإبداعي الفني. وفي عنوان آخر يقدم الكاتب "ذكرى اللون الأحمر في نونية أبي العلاء المعري" متقاطعا هذه المرة مع رؤية طه حسين لأدب أبي العلاء كمطية نحو استنهاض الكاتب لمقرر النونية عنده، يقول "فيها يصف ليلة اصطبغت بكل مشتقات اللون الأحمر من شفقي، وأرجواني وأصهب وزعفراني بما تحيل عليهِ هذه الألوان من عنفوان وتمرد وامتلاء بدم الحياة، فكأنها في لاوعيه أطياف الألوان المفقودة"، وفي عملية استكشاف أخرى أطلق عليها "بشار بن برد وألوان البصيرة" تطرق فيها إلى موضوع الحس اللوني عند بشار بن برد مبينا تلك الحساسية التشكيلية والملكة الخلاقة التي استند إلى مخيلة متفجرة رغم أن الشاعر ولد ضريرا ف"السمع يكفي غيبة البصر". وقد جاء القسم الثالث في الكتاب وهو "شاهد اللون" معتمدا على عنوان رئيسي هو "بلاغة اللون في أسرار البلاغة للجرجاني"، ومن خلال هذا العنوان ندرك ذلك التوغل الذي يشتغل عليه الكاتب من بناء للإشارات اللونية التي وردت عند الجرجاني عن أهمية الصورة البصرية وفضلها وتجلياتها المختلفة عند كثير من الشعراء مركزا بشكل ملفت على شعر ابن المعتز الذي يبدو تأثير الألوان كبيرا في شعره نظرا لأن شعره مليء بالصور اللونية المأخوذة من الطبيعة . وفي القسم الرابع دراسة أخرى خصصها للبحث في مقامات الواسطي كمعادلات تشكيلية لمقامات الحريري النصية ، والتي شكلت تجربة تأسيسية في التشكيل العربي أو لقاء مبكرا بين ما هو أدبي لغوي وما هو تشكيلي . و كان آخر أقسام الكتاب يتناول تجارب جديدة لبعض الفنانين التشكيليين العرب في مقاربة الشعر بالاعتماد على عناصر التشكيل، و كيف يتحول النص الشعري إلى منجز تشكيلي بصري يعتمد على اللون من ضمن ما يعتمد عليه من عناصر. وفي قسم الملاحق يتضمن الكتاب ملحقين أولهما مقتطف من كتاب "مفرّح النفوس " لمؤلفه بدر الدين المظفر ابن قاضي بعلبك وهو الجزء الخاص بالألوان وتأثيرها، الذي جاء في الباب الثالث، عن اللذة المكتسبة للنفس من طريق حاسة البصر. و ملحق آخر هو حكاية من قصص " ألف ليلة وليلة " وهي حكاية: " الجواري المختلفة الألوان، وما وقع بينهن من المحاورة ". لقد جاءت هذه الدراسات المثبتة في هذا الكتاب لتكسر حاجز الصمت الإبداعي الكشفي، وترتقي من بناءات تقليدية إلى تحوّلات تجديدية تقتفي أثر الممكن في اللاممكن، وذلك بتفكيك ثوابت التقليدية ، يقرّ المؤلف بأنها لا تتبع منهجا ما، أو أنها ذات طابع نقدي أو منهجي صارم ، بقدر ما هي تأملات قد يكون طموحها اكبر مما حققته وهذا التصريح يكفيه عناء النقد والنقاد حيث ستكون ركيزتهم الأولى هي المنهج، ويبقى مشروعه عن الحس اللوني في الشعر العربي الذي كرس له هذا الكتاب، مشروعا مؤجل الاكتمال ومفتوحا على كثير من المشاغل منها المعلقة كمنجز تشكيلي أو تجليات اللون عند الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي من خلال كتابه التجليات الإلهية وديوانه ترجمان الأشواق ...
سيرة الكاتب
- أحمد عبد الكريم شاعر وكاتب جزائري من مواليد 16 أوت 1965م. أصدر: - كتاب الأعسر(سيرة) عن منشورات الجاحظية عام 1995. - تغريبة النخلة الهاشمية (شعر)عن منشورات الجاحظية عام 1997. - معراج السنونو (شعر) عن منشورات رابطة كتاب الاختلاف عام2002. وصدرت ترجمتها إلى الفرنسية في إطار سنة الجزائر بفرنسا منجزة من طرف الشاعر عاشور فني بعنوان :ascension de l'hirondelle - عتبات المتاهة (رواية ) عن منشورات رابطة كتاب الاختلاف 2008. - موعظة الجندب (شعر ) منشورات دار أسامة 2008.