سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
التوفيق المطلوب بين الأصالة والمعاصرة نتمثّله في أن يعيش المجتمع إسلامه (الجزء الأول) حوار مع الشيخ "محمّد المأمون القاسمي الحسني" شيخ الزاوية القاسمية
الصورة عن موقع زاوية الهامل الحديث عن الزوايا الأصيلة ودورها في خدمة الدعوة الإسلامية، وتدريس العلوم الإسلامية، والعناية بالتربية الروحية، يقودنا إلى استرجاع محطّات مضيئة من ماضينا المجيد. فحاضرنا اليوم يجعلنا نغوص في الماضي، لنستلهم منه الدروس والعبر. فحين نقرأ رسالة الزوايا العلمية الفاعلة، نتعرّف على رجال أبرار أوقدوا القناديل المضيئة في النصف المظلم من حياة الإنسان؛ ذلك المخلوق الذي لا يرشد أمره إلاّ إذا انتبه في لحظة التجلّي فيكتشف نفسه، ويعرف دوره ورسالته في الحياة. حوارنا اليوم مع شيخ زاوية الهامل القاسمية، قلعة العلم والجهاد والوطنية، التي اشتهرت بتخريجها فطاحل العلماء وجحافل من طلبة العلم؛ وعرفت باحتضانها الثورات الجهادية، من مقاومة الأمير إلى ثورة التحرير؛ وهي التي كانت حاضرة في المعترك التاريخي مفعّلة للمشهد العلمي والثقافي والتربوي. كانت حاضرة في إعصارات الحياة الاجتماعية وعواصفها، وفي جميع المحطّات المؤثّرة في تاريخ الجزائر المعاصر؛ تحمل هموم الكبار وأمل الشباب؛ ومازالت تمدّ الإنسان الجزائري بالغذاء الروحي الصافي. تغذّي القلوب بغذاء القرآن، وتصلح النفوس بهداية الإيمان. شيوخها كانوا كبارا في علمهم وفي ورعهم، وعظماء في مبادئهم ومواقفهم يتميّزون بخلال حميدة، ومن أخلاقهم الكرم والتواضع والإحسان، وحبّ الخير للناس أجمعين. هو واحد من الوجوه الثقافية والعلمية في الجزائر وفي البلاد الإسلامية يحظى بالتقدير والاحترام في الأوساط الرسمية والشعبية. وقد حصل الكثير من الأوسمة والدروع والجوائز التقديرية. عرفت الزواية القاسمية بأنها تعمل دائما من أجل وحدة الأمّة الجامعة؛ فتسعى للمّ الشمل، ورأب كل صدع. إنّها المنارة التي أضاءت سبيل التائهين في دروب التاريخ؛ وهي الرباط التي عسسه لا ينامون في رحلات عبر محطّات التاريخ. وقد سعدنا حقا بإجراء هذا الحوار مع الأستاذ محمّد المأمون القاسمي الحسني، حفظه الله. هذا الشيخ الجليل الذي يعرف كيف ينفذ إلى الضمائر، ويملك زمام لغة التعبير، وهو القادر على جلاء الفكرة بسحر الكلمة، وهو حقا من شيوخ الزوايا القلائل الذين بلغوا ببصيرتهم وصرامتهم وواقعهم المفتوح حقولا متعدّدة من الفكر الموسوع وأتقنوا أسلوب التبليغ ولغة التخاطب. زرته في مقرّ الزاوية العامرة، وأجريت معه هذا الحوار الشيّق، انطلاقا من قوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما مّا ينفع الناس فيمكث في الأرض». ولعلّ من المفيد للقارئ أن أعرفه بالشيخ. فقد ولد في بلدة الهامل، يوم الجمعة، الفاتح ربيع الأول 1363ه ، 25 فبراير 1944م ونشأ في رحاب الزاوية، وسط شيوخها وعلمائها الأجلاّء. والده الشيخ مصطفى، وجده لأبيه الشيخ محمد بن الحاج محمد وجده لأمه الشيخ بلقاسم بن الحاج محمد رحمهم الله، كلهم تولوا مشيخة الزاوية؛ حفظ القرآن صغيرا وتلقّى علوم اللغة والفقه والتفسير والحديث والمنطق على أيدي شيوخ الزاوية وكبار علمائها؛ وأجيز منهم؛ كما أجيز من جامعة الجزائر في الدراسات العليا. تولّى التدريس في المعهد القاسمي من مطلع 1963م إلى مطلع 1971م، كان يحضّر شهادة الدكتوراه في اللسانيات، بإشراف الدكتور عبد الرحمن حاج صالح، حين دعي إلى وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، ليشغل فيها وظائف سامية، ويتولّى مهمّات مختلفة، قبل أن يتقاعد منها، ليصبح عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى، ورئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك البركة الجزائري. وهو واحد من الوجوه الثقافية والعلمية في الجزائر وفي البلاد الإسلامية يحظى بالتقدير والاحترام في الأوساط الرسمية والشعبية. وقد حصل الكثير من الأوسمة والدروع والجوائز التقديرية. س1. المشروع الحضاريّ المعماريّ للزاوية القاسمية انطلق في عهدكم. فما هي الأهداف الكبرى التي تتوخّونها من هذا المشروع؟ ج. أولا، أرحّب بك في رحاب الزاوية التي نهلت منها العلم. وأكبر فيك صبرك واجتهادك من أجل هذا اللقاء الذي سعيت إليه، منذ مدة؛ ويسّر الله اليوم أسبابه. وأرجو منه تعالى أن ييسّر جميع أمورنا، ويجعل أسبابها موصولة بحبله المتين. كما أعبّر عن تقديري لجرائد: الشروق والحوار والبلاد وصوت الأحرار، وموقع أصوات الشمال، إدارات، وصحفيين، وتقنيين، متمنّيا لهم السداد ودوام التوفيق. العولمة هي واقع فرض نفسه على العالم؛ ولا مناص من اعتبار منطق هذا الواقع الذي تشتدّ ضغوطه وتتعاظم مخاطره، يوما بعد يوم، ولكنّ ذلك ينبغي أن لا يثنينا عن السعي لتحقيق التفاعل الإيجابي مع الغير، والتفتّح السليم عليه، والاستفادة الحكيمة مما لديه، والإصرار على إظهار ما عندنا مما هو حقّ لا يمكن التغاضي عنه ولا المساومة فيه.. أما عن سؤالك، فأشير إلى أنّ هذا الصرح الحضاريّ قد أقام هياكله، وشيّد بنيانه مؤسّس الزاوية الشيخ سيّدي محمّد بن أبي القاسم. وجاء مشروع التجديد، ليكمل ما بناه، رضي الله عنه وطيّب ثراه. وهذا البرنامج يتضمّن توسعة الزاوية وتجديد هياكلها، وبناء معهدٍ عالٍ للعلوم الشرعية والدراسات الإسلامية، تراعى في مرافقه جميع الشروط والوسائل التربوية. ويكتسي هذا المشروع أهمية كبرى، نظرا إلى نتائجه المأمولة، وثماره المرجوّة، وامتداد أثره الإيجابي، في المستويين الوطني والإقليمي، إن شاء الله. يهدف المشروع إلى إحياء تراث علمي جزائري أصيل، باعتبار الزاوية تمثل تراثا حضاريا عميقا متجذّرا؛ وقد أصبح تجديدها أمرا ضروريا، للقيام برسالتها، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى علماء متخصّصين في العلوم الشرعية، ينهضون بأمانة العلم الشرعي؛ ويسهمون في تأهيل الأجيال لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل؛ وفق برنامج تربوي متكامل يستلهم من ذخائر تراثنا العلميّ الزاخر، في المجالات: الروحية والتربوية والثقافية؛ ويربط، برباط محكم بين العلم والعمل؛ ويجمع في انسجام وتوازن، بين الجانب التشريعي والجانب الروحي من تعاليم الإسلام، لترتبط الحياة الروحية بالحياة الاجتماعية؛ فذلك في تقديرنا هو المنهج الصحيح لبناء شخصية المواطن السوية المتوازنة، وإعداده للحياة المتكاملة، المبنية على مراعاة الجمع بين العمل بالإسلام واتبّاع آدابه، وبين الاجتهاد في الوصول إلى العمق الروحي للعبادات والأخلاق الإسلامية، والعمل لترقية حياة الأمة المعنوية والمادية. إنّ هذا ما ننشده، ونريد للزاوية أن تسهم في إنجازه، في انسجام وتعاون وتكامل، مع القطاعات المعنية؛ وفي طليعتها المؤسّسة المسجدية والهيئات الإسلامية، والمؤسّسات العلمية والتربوية. س2. تستعدّ الزاوية القاسمية لاحتضان مؤتمر دولي للطريقة الرحمانية الخلوتية. فهلاّ عرّفتنا عن أهدافه وأهمّ محاوره؟ ج. نحن اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، مطالبون بالتمسّك بمرجعيتنا الدينية الجامعة، باعتبارها ضمان وحدتنا وحصانتنا الذاتية. ومن هذا المنطلق، اخترنا للمؤتمر عنوانا هو: «الطريقة الرحمانية ودورها في تثبيت المرجعية الدينية، والمحافظة على مقوّمات الشخصية الوطنية». من بين أهداف المؤتمر إبراز تاريخنا العلميّ والثقافي والتعريف به بشكل منهجيّ؛ وكذلك تصحيح بعض المواقف، وإعادة النظر في كثير من الأحكام، فضلا عن تحقيق التواصل الحضاريّ، بالربط بين قيم الماضي وتطلّعات المستقبل، والبحث عن آليات لاستخدام الفكر التربوي والعلميّ وتوظيفه في حياتنا المعاصرة. أما محاور المؤتمر، فأهمّها: الأبعاد الحضارية للطريقة الرحمانية، في المجالات:التربوية والعلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. والإسهام في تثبيت مرجعية الأمة وتعزيز وحدتها الجامعة. وتحدّيات العولمة والتوفيق بين الأصالة والمعاصرة. وعلاقة الطريقة الرحمانية بالمحيط. علاقتها بالطرق الصوفية والهيئات والمؤسّسات الإسلامية. س3. بحديثك سيّدي، نعود إلى الزمن الجميل، ونحسّ أنه أطيب من نفس الربيع. وأنت رجل ثقافة وعلم، محفّز للهمم، ماذا تقول بشأن المنبر القاسمي، وقد صار حلقات بحثية تنويرية تطرحون من خلالها بعض الانشغالات الفكرية. وما هي المواضيع التي تشغل بالكم في الوقت الراهن؟ ج. حين أعلنا تأسيس المنبر القاسمي، قلت إنه يعتبر امتدادا لرسالة الزاوية العلمية والتربوية؛ حيث نستضيف لفعالياته نخبة من أهل العلم ورجال الفكر، وباحثين في مجالات: الشريعة والقانون، والتربية والثقافة والإعلام، والسياسة والاقتصاد والاجتماع؛ يتناولون، بالدّراسة، مواضيع تتّصل بالواقع الجزائري، بوجه خاص، وواقع الأمة الإسلامية، بوجه عام. إنّ الباعث على هذا المشروع هو إيماننا بأنّ نهوض الأمة وتقدّمها المنشود مرهون بحسن الإفادة من علمائها، وتفعيل دور النّخبة فيها، وتوفير الظروف المناسبة، للتّعبير عن أفكارها، وإظهار إبداعاتها؛ ومن ثمّ الإفادة من بحوثها ودراساتها، واستثمار قدراتها وطاقاتها. وهو ما نسعى للإسهام في إنجازه، والتّعاون مع الهيئات المعنية على تحقيق مقاصده وأهدافه. ولعلّ هذا المنبر الحرّ يكون إحدى الوسائل المساعدة على مقاومة الانهزام النفسيّ، وإيقاف التمزيق الفكريّ، ونبذ الاغتراب الثقافي؛ ويسهم في إثراء الساحة الفكرية، وإرساخ ثقافة الحوار المثمر، وتشجيع النقد البنّاء؛ وذلك بإتاحة مساحة مستقلّة، تعرض فيها الأفكار والآراء، دونما تعصّب أو تطاول أو إقصاء؛ وفقا لمنهج الاعتدال والوسطية؛ وفي جوّ يطبعه التسامح وتسوده الحرية. لا شكّ أنّ الأخلاق قد تدهورت، والقيم في نفوس الكثيرين انحسرت. والأسباب كثيرة، منها ما يتّصل بخلل في التربية وعقم التوجيه؛ ومنها ما يتّصل بالوضع الاقتصادي والاجتماعي.. أما الموضوع الذي سنتاوله بالدراسة في الحلقة القادمة، فسيكون إن شاء الله: «واقع اللغة العربية في الجزائر: الحاضر والمستقبل» وهو موضوع ما فتئ يشغل بالنا، ويستحوذ على اهتماماتنا، في ظلّ التبعية اللغوية والهيمنة الثقافية والحضارية للنموذج الغربي، التي ظلّت تشكّل تحدّيا لشخصيتنا الوطنية، وهوّيتنا الثقافية والاجتماعية. وقد كنت ضمّنت هذا الموضوع مذكّرة رفعتها إلى أولياء الأمور، عندما طلبوا رأيي، ضمن الاستشارات التي جرت بخصوص الإصلاحات المعلنة، في مجالات الحياة السياسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية. وقد ذكّرت في الجلسات الاستشارية، التي نظّمت عام 2011م، بأنّ اللغة العربية من أقوى عوامل وحدتنا، ومقوّم أساسيّ من مقوّمات شخصيتنا. وباعتبارها اللغة الجامعة لأبناء شعبنا، توحّد لسانهم وخطابهم، على اختلاف لهجاتهم وتباعد ديارهم؛ فإنّه يتعيّن تعزيز المادة الدستورية التي تنصّ على أنّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية والوطنية للدولة الجزائرية؛ وذلك بإدراج مواد دستورية، تلزم مؤسّسات الدّولة بالتعامل بها؛ وتوجب عليها العمل لترقية تعليمها، وتعميم استعمالها، في الإدارة والتعليم والإعلام والمحيط. س4. على ذكر الهيمنة الثقافية والحضارية، كنت حضرت حلقة في الزواية، وسمعتكم تتحدّثون عن معاني التواصل، وبيّنتم كيف ينبغي أن نحافظ على المبادئ والأصول، ونتمسّك بالثوابت؛ وفي الوقت نفسه، نعيش الواقع كما هو، ونتكيّف مع جديد العصر وحراك الحاضر. وحديثكم هذا هو ما حفّزني على إجراء هذا الحوار الشيّق. في هذا السياق، نودّ أن نعرف رأيكم، كيف لنا أن نحافظ على إرثنا الحضاريّ، ونعيش واقع عصرنا، دون أن نكون نسخة لغيرنا. وكيف لنا أن نواجه ظاهرة العولمة ونتحاشى آثارها السلبية؟. ج. هذا الموضوع سيكون أحد المحاور التي يناقشها المؤتمر القادم إن شاء الله. إننا هنا أمام إشكالية الأصالة والمعاصرة التي تواجهها مجتمعاتنا الإسلامية. أي بين التمسّك بالعقيدة والتراث الإسلامي والانتماء الحضاريّ، وبين مسايرة التطوّر والتغيير والتجديد، مما يفرضه منطق العصر. والتوفيق المطلوب بين الأصالة والمعاصرة نتمثّله في أن يعيش المجتمع إسلامه، في قيمه الثابتة، ومبادئه الخالدة، مثلما كان يعيشه سلفنا الصالح؛ ويعيش في الوقت ذاته، واقع عصره، في صوره المتبدّلة والمتغيّرة، بفضل تقدّم العلوم والتكنولوجيا؛ وأن يخطّط المجتمع لحاضره ومستقبله،كأدقّ ما تخطط الأمم المتقدّمة لحاضرها ومستقبلها. وبتعبير آخر: أن يفصل المجتمع بوعي، بين الثوابت والمتغيّرات، في تطوير حياته؛ فيظلّ متمسّكا بالمبادئ والأصول، يعضّ عليها بالنواجذ، متشدّدًا في الثوابت الخالدة خلود العقيدة التي أثمرتها؛ ويكون في الوقت ذاته مرنًا في التعامل مع المتغيّرات، باعتبارها مجرّد أساليب وكيفيات ووسائل يجب أن يكتسبها كلّ جيل ليعبّر بها عن عصره وزمانه. أما العولمة فهي واقع فرض نفسه على العالم؛ ولا مناص من اعتبار منطق هذا الواقع الذي تشتدّ ضغوطه وتتعاظم مخاطره، يوما بعد يوم، ولكنّ ذلك ينبغي أن لا يثنينا عن السعي لتحقيق التفاعل الإيجابي مع الغير، والتفتّح السليم عليه، والاستفادة الحكيمة مما لديه، والإصرار على إظهار ما عندنا مما هو حقّ لا يمكن التغاضي عنه ولا المساومة فيه. س6. نحن نعيش واقعا متأزّما، في ظلّ انحسار القيم، وغياب المعايير الأخلاقية والضوابط الشرعية ونعيش ثقافة الاستهلاك.كما عرف مجتمعنا ظاهرة الغلو في الدين. فلمن يعزى ذلك؟ وهل للتربية أثر في هذا الواقع؟ ج. لا شكّ أنّ الأخلاق قد تدهورت، والقيم في نفوس الكثيرين انحسرت. والأسباب كثيرة، منها ما يتّصل بخلل في التربية وعقم التوجيه؛ ومنها ما يتّصل بالوضع الاقتصادي والاجتماعي. ولكنّ أقوى الأسباب في نظرنا هو الخلل في التربية، وضعف الوازع الديني. فالوازع الإيماني هو الذي يوجد في النفس الضمير الحي. يوجد فيها المراقبة والمحاسبة، والخشية والحياء. مقتل الشيخ البوطي جريمة نكراء، تقشعرّ من وقعها النفوس، وترتاع القلوب. لقد فقدت الأمة الإسلامية فيه علمًا من أبرز أعلامها، وصفوة علمائها الربّانيين في هذا العصر.. إننا هنا نقول؛ وما فتئنا نردّد القول: إذا أردنا للفرد صلاحًا، وللمجتمع خيرًا وإصلاحًا؛ فعلينا أن نعتني بالتربية المتكاملة، التربية التي تحصّن النفوس وتعصمها من الزلل، وتحمي الأجيال من عوامل الانحراف العقدي والفكري والخلقي. إننا نعيش الآثار السيّئة لسوء التربية. نعيش الآثار السيئة للفراغ الروحيّ، والاغتراب الثقافيّ، وطغيان الحياة الماديّة، وانحسار القيم والأخلاق الإسلاميّة؛ فضلا عن الغلوّ في الدين، وسوء الفهم للإسلام ومقاصد شريعته السمحة؛ حيث فقد المجتمع الرؤية الصحيحة. وعرفت طائفة من شباب الأمّة ظاهرة التطرّف وتجاوز الاعتدال؛ وأصيبت أخرى بآفة الانغلاق الفكريّ المفضي إلى الجمود؛ واتبّع البعض منهجا لم يصدّر فكره للأمة سوى جفاف الأرواح، واختلاف القلوب، فضلا عن تزهيد طائفة من المسلمين في قدوتهم، وحجبهم عن مصادر النور، كيلا ينفذ إلى قلوبهم. س7. هل هو تخلّي مؤسّسات الدولة والمجتمع عن واجباتها؛ أم إنّ مؤسساتنا أصابها الوهن؟ أم هي العولمة وآثارها السيّئة وثورة الإعلام وطغيانه؟ ج. قد تكون هذه وغيرها مجتمعة. وأنا أرى أننا بحاجة إلى خطّة للإصلاح منسجمة متكاملة. نحن بحاجة إلى منهج تربوي يهدف إلى إصلاح الفرد المسلم، وبناء شخصيته السوية المتوازنة، وتحصينه بدروع التقوى وسلاح الإيمان، وأخذه بجدّ إلى العلم النافع، وهدايته إلى العمل الصالح. نحن بحاجة إلى منهج تكون التربية والتعليم فيه متلازمين. فممّا لا ريب فيه أنّ التعليم بلا تربية لا فائدة منه، والتربية من غير علم لا تحقّق ثمرتها على الوجه المطلوب. فلا خير في علم لا يكتسي بالأخلاق، ولا جدوى من تربية لا تثمر استقامة وعملا صالحا. ولاشكّ أنّ من المظاهر السيئة للعولمة ما نشهده من مشاريع التغريب، في مجالات الثقافة والفنون والإعلام، وفي مجال المؤسسة الأسرية المستهدفة من المخططات الرامية إلى تفكيك المجتمع المسلم وطمس خصائصه المميزة. وفي مواجهة هذه الخطط المشبوهة، ينبغي للأمة أن تكون على يقظة وحذر من مخاطرها، وأن لا تنخدع بشعاراتها أو تستجيب لمغرياتها. س8. وماذا عن الإعلام الإسلامي والعربي، ولاسيما القنوات الفضائية المتكاثرة. وكيف ينبغي تسخير هذه الإمكانات لصالح المجتمعات المسلمة؟ إننا في عصر طغى فيه سلطان الإعلام، بوسائله المتطورة؛ ومنها قنوات فضائية وشبكات معلوماتية، اتخذت من برامجها ومنتجاتها وسيلة كسب وتأثير، وجذب للجماهير، تخصّص بعضها في بثّ برامج إباحية، تدمّر الأخلاق، وتنشر ثقافة الاستلاب، وتخصّصت أخرى في نشر الفكر المتحجّر وثقافة الشعوذة والتدجيل، مما يوهم الناس أنها من الدين، في حين أنه منها براء. والله تعالى حذرنا من هذا في قوله سبحانه: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة/42. القنوات الفضائية الإسلامية تؤدّي رسالة دعوية وإعلامية جليلة. وهي تقوم بها على الوجه المستطاع، ولكنها تحتاج إلى ترقية أدائها وترشيد برامجها. وينبغي أن تراعي في أداء رسالتها سنة الاختلاف ونظرة الإسلام إليه. أما الفضائيات العربية فتحتاج جميعا إلى تطهير وتسديد. فأكثرها يسهم في إشاعة الإباحية والفساد، ويهدم ما تبنيه التربية المدرسية والتربية الأسرية. فلا يخفى دور الإعلام في سلامة تصوّرات الناس أو إفسادها؛ وهو دور لا يمكن تحديد مداه. فقد رأينا كيف أصبح سلطان الكلمة أنفذ ما يكون في النفوس، وزخمه يضغط على المجتمعات، ليجعلها على صورة القالب الذي صيغت عليه الكلمة المسوّقة لها. فكان لزاما علينا حماية المجتمع المسلم من الكلمة المضللة التي يكسوها أصحابها ثيابا جميلة، باسم الإبداع الفني وحرية التعبير، وهي في الواقع تشوّه صورة الإسلام، وتزيّن الفاحشة والرذيلة، وتقلب سلّم القيم. والمراد من ذلك تحطيم منظومة القيم الأخلاقية، وإحلال قيم هابطة محلّها، لتمييع شباب الأمة، وإسقاطه في أوحال الرذيلة والفساد. وهكذا رأينا كيف كان لهذه الوسائل أثرها الواضح فيما تشهده المجتمعات المسلمة من استلاب فكريّ واغتراب ثقافيّ. ولذلك ما فتئنا ندعو إلى إصلاح المنظومة الإعلامية والثقافية في البلدان الإسلامية، وتوجيه الإعلام إلى القيام بدوره الإيجابي في ترقية حياة أمتنا المادية والمعنوية. ولا يتسنى ذلك إلاّ إذا كان الإعلام منسجما مع قيمنا ومبادئنا، معبرا بصدق عن ضمير أمتنا وتطلّعات شعوبنا إلى نهوض حضاريّ يعيد الأمة إلى مكانتها المستحقة، التي تبوّأتها يوم تمثّلت قيم الإسلام واستقامت على نهجه القويم. س9. في خضمّ الوجع العربي والألم الإسلاميّ، مازالت شعوبنا مندفعة نحو المجهول، تتفرّج ولا تتفعّل، تُعنى بالشكل والمظهر، أكثر مما تعنى بالمحتوى والجوهر. تطغى عليها المادة، وتهمل الروح، تلك القوّة المبدعة الخلاّقة التي تنشئ الحياة. مجتمعات لا تنشد التغيير بوعي العقلاء. يعيش الصالحون فيها بين قناديل الصمت، ويذوب الطيبون في محارب الحنين. ونحن نعلم أنّ للزاوية القاسمية صديقا فاضلا، هو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، رحمه الله، هذا العالم الفذّ من علماء الإسلام، الذي امتدّت إليه يد الغدر. فما رأيكم في هذا الحدث الأليم. وهل التقيته قبل حادث استشهاده؟ ج. حقا إنها يد الغدر، أردته شهيدا، وهو يتصدّر حلقة علم، في بيت من بيوت الله، في مشهد محزن روّع النفوس وأدمى القلوب. مقتل الشيخ البوطي جريمة نكراء، تقشعرّ من وقعها النفوس، وترتاع القلوب. لقد فقدت الأمة الإسلامية فيه علمًا من أبرز أعلامها، وصفوة علمائها الربّانيين في هذا العصر. الشيخ البوطي، رحمه الله، عرفته منذ منتصف السبعينيات، من القرن الماضي، وتعزّزت علاقتنا في لقاءاتنا المتكرّرة، بمناسبة انعقاد الملتقيات السنوية للفكر الإسلاميّ، ثم في ندوات الاقتصاد الإسلامي، في اسطنبول ودمشق وجدّة والبحرين. وكان آخر لقاء جمعني به في البحرين، قبل ثلاث سنوات، في المؤتمر السنوي للهيئات الشرعية للمؤسّسات المالية الإسلامية. كانت ساعات من أسعد الأوقات جمعتني به في مجلس علميّ، ثم في مجلس موعظة وذكر، استمرّ حتى منتصف الليل. ودّعته بعدها في الفندق؛ وافترقنا على موعد اللقاء قريبا بإذن الله؛ حيث أجاب الدعوة التي وجهتها إليه لزيارة الجزائر. وبعد عودتي إلى الوطن، أعددت لهذه الزيارة برنامجا لمدة أسبوع؛ تضمّن محاضرات بالزاوية، وإقامة بها ثلاثة أيام، ومحاضرة في مقرّ المجلس الإسلامي الأعلى، وأخرى بدار الإمام، وندوة في مقر جريدة الشروق، مفتوحة للصحفيين والمثقفين. كما كان مبرمجا أن تتخلّل الزيارة استقبالات للشيخ من كبار المسؤولين في الدولة. لكنّ موعد الزيارة تأجّل مرتين، بطلب منه. ثمّ فاجأتنا الأحداث المتسارعة في سوريا، إلى أن كان الموعد مع القدر والأجل المحتوم. وانتقل الشيخ إلى جوار ربّه شهيد المحراب والمنبر، راضيا مرضيا، إن شاء الله.