إن ما يشاع عن نهاية زمن القصة واندثارها وموتها، إنما هو من قبيل الأحكام المتعجلة، والآراء التي لا تستند إلى بصيرة صحيحة، حجتهم في ذلك أننا نعيش زمن سيادة الرواية، وكأني بالساحة الأدبية عاجزة عن احتواء عدة أجناس وأشكال تعبيرية في آن. واننا لا ننفي تراجع القصة في الآونة الأخيرة، وشحوب إنتاجها وتأخره مقارنة بما تحققه الرواية من غزارة في التأليف وتطوير في الامكانات الابداعية عبر نشاط التجريب، إضافة لما تلاقيه من إقبال على مستوى القراءة والنقد، والاعلام والجوائز، الأمر الغائب في القصة. والحقيقة أن "... كل الأنواع والأجناس معرضة للتغير والتحول والتقدم والتراجع، ولكن قلّما تصل الأنواع الأساسية إلى حالة (الموت)، أما حالة القصة القصيرة فمختلفة تماما... الظروف التي أنتجت هذا النوع لم تزل مستمرة، ولم تجر تحولات كبرى تؤدي إلى اختفائه أو موته، وعالم اليوم عالم قصصي بامتياز، فهو عالم الحالات والتمزقات والتّكسّرات، عالم (الاستيحاش) وعزلة الفرد وتمزق الجماعات والهويات، وكلها من الأمور الأساسية رؤيويا في نوع القصة" ينضاف إلى ذلك طبيعة الحياة السريعة التي ميزت عصرنا، والتي صارت تستلزم نصوصا مكثفة المعاني مقتصدة الألفاظ، ولا نستبعد صفة العصر؛ التقنية وانتشار المجلات الالكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعتبر أرضا خصبة لتطوير القصة وانتشارها وتداولها. أما من يذهب بحجته لكون القصة حكاية مغلقة ولا تتناسب مع أفق العالم المفتوح اليوم، فإنه أيضا على خطأ، كون القصة الحديثة تمثل الأفق المغلق/ المفتوح، المحدود بلا حدود المعاني والتأويلات والقراءات... ان القصة بوصفها فن السرد المكثف؛ لغة وحدثا وشخوصا، يحاصرها الزمن في ثنايا الفضاء الضيق/ الرحب، إنها بذلك أصعب فنون القول... كما يصفها رشاد رشدي بأنها جنس أدبي محكم البناء، مترابط الشكل، مكثف ومركز، الحدث فيه أو الموقف أو الشخصية ومقتطع من الواقع، إنها بهذه الخصائص مطلب ملحّ، يحتاج مزيدا من الالتفات والاهتمام إن على مستوى الابداع أو النقد. جحيم تحت الثياب بين المقول والمسكوت عنه: جحيم تحت الثياب عتبة دهشة، تستثير رغبة القراءة والتأويل، هي عنوان المجموعة القصصية الجديدة لصاحبها خالد ساحلي، الصادرة عن دار ميم للنشر، يشدك عنوان المجموعة بما يبثه من إشعاعات دلالية تضمر الألم والعذاب، وتوحي بالإظهار والكشف والتعرية، فضح الخفي والمتستر، جدلية الظاهر والباطن/ المقول والمسكوت عنه، إنها خاصية في الفن ذاته، ذلك "... إن القصة القصيرة لا تقول أبدا ما تريد أن تقوله، وكأنها فن لا يقول إلا من خلال مساحة الصمت والاخفاء..." ، النصوص القصصية للمجموعة إنما تقول من خلال الصمت، وتعري وتكشف الواقع المعكوس عبر تكثيف لغوي إيحائي. ويمثل العنوان عتبة الولوج لعالم المجموعة، وإننا في هذه العجالة لن نوفي المجموعة حقها، لذلك كان اكتفاؤنا بالوقوف عند العنوان (جحيم تحت الثياب) وذلك اعتبارا لما تشكله العتبات من أهمية في فكّ شفرات النصوص فقد "بينت الدراسات الحديثة أهمية هذه العتبات في بناء النص، فهي تشغل وظائف نصيَّة وتركيبية، تفسّر أبعاداً مركزية من استراتيجية الكتابة والتخييل"، فهي بذلك تخدم النص مبنى ومعنى، وتعتبر مدخلا للتأويل. والعتبات كذلك" قاعدة تواصلية تمكّن النص من الانفتاح على أبعاد دلالية تعني التركيب العام للحكاية وأشكال كتابتها". لما كانت العناوين هي مفاتيح النصوص، فإن عنوان المجموعة يعتبر العتبة الرئيسية التي اختارها الكاتب لقصصه "جحيم تحت الثياب" وهو عنوان إحدى قصص المجموعة، لكنه يلخص ما يمكن ان نسميه النص الجمعي أو الصوت المشترك الذي تنطق به بقية النصوص، وتكمن جمالية هذا العنوان وشعريته في دهشة الصورة التي يقدّمها، والإحساس الصّادم الذي يبثه إلى القارئ بكل ما تحمله عبارة الجحيم بما هو رمز للعذاب الأبدي، والألم منقطع النظير، والمدى المتسع البعيد عن التصور المتفلت حتى عن الخيال، العصيّ على التحديد، كيف استطاعت اللغة أن تحصر كل هذه الأهوال وتحدها في ثنايا الثياب/ الستر، والاخفاء/ الجمال... فللجحيم دلالة العذاب والألم كما ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي مواضع عدة نذكر منها: "إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ" "فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ". "وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ". "ثُمَّ إِنَّهُمْ لصالوا الْجَحِيمِ". في المقابل تحيل الثياب إلى معاني الستر والراحة والنعيم في الغالب، وذلك وفق ما وردت عليه في القرآن الكريم في أكثر من موضع، نذكر منها: معنى الستر؛ " يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا". " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا". " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا". "أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ". ومعنى المتعة والجمال والرفاهية والفلاح: "يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ". " وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ". "وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ". "عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً". إن هذا الجمع المخترق لحدود اللغة يفجّر الدلالات ويخلق مساحات جديدة من المعاني والتصورات ويكشف بعض شفرات النصوص التي سوف تأتي تباعا، من خلال القصص. فقد حقق العنوان عبر هذه المجاورة الصادمة لصفة الجنة بالجحيم، حقق دهشة الاختراق، والتجاوز، ورفع مستويات الدلالة إلى أقصاها في الاحالة إلى معاني التناقض والتقابل الذي ستحمله قصص المجموعة، فضلا عن معنى الاظهار والكشف للبؤس والمعاناة التي تتخفى وراء مظاهر الحياة اليومية في بساطتها وألفتها... إنه يهيء لكشف الأنساق المضمرة بين ثنايا المسرود في القصص. ولما كان الفن هو إظهار الجمال الكامن في الأشياء حولنا، والقصة فن أدبي لغوي، والجمال هو غاية من الغايات التي تحملها على عاتقها، وان تعددت سبله، فالنصوص التي بين أيدينا من مجموعة جحيم تحت الثياب، يتشكل الجمال فيها ويتمظهر في صور عديدة؛ تشكيل جمالي لغوي تجسده على وجه الخصوص العتبات (عناوين النصوص)، العبارات والصور التي اعتنى الكاتب باختيارها ورسمها ، وتشكل جمالي مضاد رسمته الأحداث والمواقف داخل النصوص؛ فعبر تصوير الحزن تبرز قيمة الفرح، ومن الألم تنبع متعة الصحة واللذة، ويُجلي الظّلم ضياء الحق والعدل، فالأشياء تعرف بأضدادها. إننا وفور ركوبنا غمار القراءة لقصص المجموعة نجد أنفسنا أمام أنفسنا، إنه نص الانسان، نص العادي البسيط، الواقع الذي حملته اللغة في هذا النص/ المجموعة التي يوحدها صوت الواقعي اليومي، الذي رغم بساطته لا يخلو من دهشة، تؤثث أركانه عبر الصور الشعرية التي اختار الكاتب أن يفتتح بها نصوصه؛ لوحاته، مشاهده المقتطعة من الواقع العميق؛ ( جحيمٌ تحت الثّياب، الأسرار الموّقعة، التحديق الساهي في الفراغ، القمرُ الذي هَبَطَ وتَرَكَ ظِلَّه في السماء، الأراجِيف...). وانطلاقا من "... إن الأديب الجيد ليس طارق الموضوعات الجيدة والحسنة، - وإن كانت معايير الجودة والحسن نسبية وليست قارة في الزمان أو في المكان- بل هو ذاك المتمكن من الأدوات الفنية وتقنيات الصياغة الأدبية المعتمدة أكثر من غيرها في عصره، مع التمكن من لغة الكتابة بطبيعة الحال، لأن الأدب الجميل لا تحمله أو تعبر عنه إلا اللغة الجميلة الأنيقة..." يسافر بنا الكاتب غير بعيد عنا.. عن حياتنا وذواتنا، يستنطق الصامت منا، ويعري الجرح المخدّر بالتجاهل تارة، والاهمال تارة أخرى، يقول بصوت الضعفاء قولا قويا يهزّ به أركان الركود... يعلمنا خالد ساحلي في نصه/ مجموعته هذه أن شعرية القص ليست في ولوج عالم الخوارق والمستحيل.. ليست في نحت اللغة من بريق البلاغة وخرق المألوف... الشعرية في هذا النص يصنعها البسيط العادي، قصص المجموعة يوحدها نبض واحد؛ الانسان بكل همومه الاجتماعية والنفسية، وضغوطات الواقع المتردي الذي يزيد من معاناة الافراد. إنها دهشة اكتشاف القريب الذي حسبناه من كثرة التعود غير ذا أثر، إعادة النظر فيما نعتقد أننا نعرفه، بعين لماحة ناقدة بإيحاء ذكي؛ إنه يجعلنا ننصت لأغوار النفوس البسيطة في ألمها وتوجعها، في ضياعها وتيهها، صوت الفقر والمرض، صوت المغلوب على أمره، صوت الطيب البسيط الذي يعطي دون مقابل، المجموعة/ نص تعرية، وكشف الحجب، إنه نص يروم إلى كشف المستور، المتخفي، وما أيقونة الثياب إلا رمز على الظاهر رؤيا العين، وما الجحيم تحته إلا حقيقة الواقع التي تتخفى ونأبى الاعتراف بلسعات نيرانها. القصص مبنية على الوصف الجميل في غير تكلّف ولا ابتذال، لكن اللغة لا تخلو من سحر الجمال وحسن التصوير، وعمق التعبير، إنه السهل الممتنع؛ " كانت زوجته تفوقه طولا، عليها سحْنَةُ جمال برّاقة الثنايا كزرافة تمشي بغنج، رشيقة بيضاء البشرة، زرقاء العينين، شعرها الأشقر إلى الكتفين، ظريفة مع جميع الناس كبيرهم وصغيرهم إلا معه!" يعايش الكاتب أحداث قصصه بكل تفاصيلها، ويتشارك شخوصه مشاعرهم الحزينة المتألمة والحيرى في أغلبها، فتنتقل للقارئ تلك الاحاسيس ويجد نفسه تسري به تيارت التعاطف حينا والحزن حينا والغضب أحيانا أخرى، سيما وهو يشعر بقرب الشخصية منه ومعرفته لها في كثير من قصص المجموعة... المشاهد قطع من فسيفساء الحياة اليومية، بل من أعماق الحياة بأماكنها أزمنتها، وأحداثها، وتناقضاتها الكثيرة، النص على تعدد (القصص) هو وحدة يجمعها الموضوع؛ (الحدث، الغاية)، فالمجموعة عقد منظوم بخمس وعشرين حلقة متداخلة وإن بدت مستقلة بعتباتها (عناوينها)، فإنها في النهاية صوت الصمت منّا وقد ضجّت منه النفوس فأنطقته الحروف. غير أن هذه الواقعية التي صبغت قصص المجموعة لم تقلل من شعرية اللغة وإيحاءاتها، ذلك أن اللغة كما يراها فوكو تستثير ضربين من الشكوك؛ أولا، شك أن اللغة لا تقول بالضبط ما تقول فالمعنى الذي ندركه والذي يتبدى بشكل مباشر لعله في الحقيقة ليس غير معنى اصغر يحمي ويحصر ورغم كل شيء ينقل معنى آخر... من جهة ثانية تثير اللغة هذا الشك الآخر؛ كونها تتعدى صيغتها اللفظية حصرا وكون ثمة في العالم اشياء اخرى تتكلم مع انها ليست لغة، وخاصية اللغة في هذه المجموعة أنها تبدي البساطة، وتحيل إلى الأعماق الخفية وراء حجب الظاهر. لم تغيّب هذه الواقعية عمق الفكر والتدبر في هذه النصوص، فالقارئ لا يكاد يخرج من قصة إلا وقد وقف طويلا أمام ومضات فكرية شديدة التجريد متقدّة الايحاء، ضاربة في عمق الوجود والكينونة تخرج النص البسيط بشخوصه وأمكنته وأزمنته إلى رحابة الفكر والتدبّر؛" فرقهما المكان، فتفرق كُلُّه، وفَرّ بعضه، ووحْدَه المكان مكّنه من معرفة أحاسيسه، ووحده من منحه الاختلاف والحقائق بلا كيفية، قد تكون الأمكنة متشابهة، كل الحكايا متشابهة، كل غايات الحياة قد تكون متشابهة، ما يفرقها عن بعضها البعض كون هذا التشابه يقع خارج نطاق بعضه البعض. إحساساته الموجودة هنا تفتقدها هي هناك، وإحساساتها هناك يفتقدها هنا، المكان فرّقهما، وهو يحمل أشياءهما الجميلة، لكنها مفقودة في الوقت نفسه، أشياؤهما في المكان الحضور الغياب، تنفيها الحواس وتشهد بالغياب"... (*) عن جريدة إيلاف الإلكترونية. الخميس 1 ماي.