تفاجئنا أحيانا أقلام أدبية مبتدئة بكتابات تحمل من التميز والإبداع ما يفوق بعض كتابات من يسمون بآباء الإبداع الأدبي المحلي، ومن تلك الكتابات المتميزة التي ظهرت مؤخرا مجموعة الكاتبة الجزائرية الناشئة فاتحة ليلى بيران المعنونة ب (معادلة الحياة). هي قصص كالروايات أو قصص كان يمكن أن تكون روايات، بعضها حلّق في أجواء أزمنة بعيدة كادت تنسى، وبعضها نبع من زحمة الحياة. قصص تقدّم نفسها بنفسها دونما حاجة إلى وسيط حتى ولو كان هذا الوسيط كلاما من جنسها، إلى حكايات أخرى تتوسل لدى القارئ بأطر وفواتح ومقدّمات. من الحكي بأسلوب السخرية، إلى الحكي بالتزام الحياد، إلى الحكي بإظهار الجدّ والصرامة إلى حد القسوة أحيانا. من تقنيات القصّ الكلاسيكية المتعارف عليها، إلى خدع السينما المتحركة، إلى مسرحة السّرد والحوارات، إلى تقنيات تجريب أخرى هي لفاتحة مخصوصة لا نكاد نجدها عند غيرها من الكتّاب الجزائريين الشباب. من متعة اللغة إلى متعة الطرافة إلى متعة الشخصيات إلى متعة الزمن المختلف، مع غوص في مسار التجربة الخاصة، تجربة الطفولة وتجربة الأسرة إلى تجربة العشق العذري الشفاف، إلى سحر الأمكنة إلى إمتاع فني شامل متحقّق عبر النصوص في تفاصيلها وفي شموليتها، وفي حبكتها السهلة الولوج لعقل وقلب القارئ العادي. لعل الإمتاع الذي نجده في طيات مجموعة « معادلة الحياة » كامن في أن الأقصوصات الحائزة على قدر من مقوّمات الرواية وعلى رأسها القصة الأم التي حملت المجموعة عنوانها (معادلة الحياة) والقصة الأخيرة (صاحبة الحجر) قد نأت عن النمطية وعن تكرار نفسها وتكرار القصص الأخرى وعن الدوران في أماكن متماثلة وبين جدران زمن واحد... متعتها تكمن في هذا التنويع الذي مسّ اللغة فجعلها تعدد مصادرها وتبحث عن التجدّد وعن الخصوصية مع الحفاظ على السهولة والبساطة، بنفس روائي يشبع ذائقة من يعشقون فن القصة ولعله تجريب وتنويع يميز كتابات فاتحة. حرصت فاتحة على إبراز وجوه نقية وقوية تصل إلى حد المثالية، وغالبًا ما تكون وجوهًا نسوية ، تنتصر للمرأة بالشرط الاجتماعي والديني ، بعيدا عن القيم المستوردة أو المفروضة من المركزية الثقافية الغربية. إن الكاتبة تثير بكتابتها هذا اللون من القصص المختلفة الطول والقصر، متناقضات الزمن الموحش، كما تكشف عن قيمة وأهمية الدفء العائلي وتقشير المكتوب على صفحات المجتمع، بحثا عمّا يضيء العتمة من توتر الذّات، فهي تناور مجتمعها في غير تصادم، فيما هي ماضية في مواجهة الجحود والنّكران والتّخلي عن القيم الأصيلة بالورود من الكلمات، وبإضاءة الشموع في نهاية النفق. كما تحمل معظم قصص المجموعة شحنة قيمية أخلاقية مباشرة تتميز بإثراء معرفي نفسي واجتماعي كما هو الحال في قصة (لن أتخر بعد اليوم) وقصة (صاحبة الحجر)، كان يمكن أن تكون أكثر إبهارا وجمالا لو اتخذت بعض الرمزية في السرد. وفي الأخير نحن أمام كاتبة واعدة تعرف كيف تشكّل معجمها القصصي فتمزج بين روح الشعر، وجمال السرد ودقته، وتحكم معاني قصصها ومبانيها، وترصف للحب طريقاً، وللسعادة منزلاً، وللحياة عصفوراً يزقزق بالأمل، ليزيل عنا الألم والظلم والهموم. ذلك ما قدمه لنا قلم أنثوي شاب، بمداد سحري خطته أنامل فاتحة الاسم الأدبي لليلى بيران في مجموعتها “معادلة الحياة” الصادرة عن دار الفارابي ببيروت في 2012، والتي تمثل تجربتها الأولى في هذا الفن الأدبي، وتحمل في ثناياها تسع قصص قصيرة تتمتع بمؤثرات محلّية، ولغة جميلة بسيطة تتجنب الغرائبية وبهلوانية التعبير والتصوير، في أجواء إنسانية مفعمة بالحياة والمرارة والأحلام، يغلفها جميعا ثوب من الظلال العذبة والثّرية في عفويتها وصخبها ودفئها.