إن محمد البشير الإبراهيمي عالم من علماء الجزائر الأفذاذ، ذاق مرارة ظلم الاحتلال فحاربه و انتصر عليه، و لسان من ألسنة العرب كان أينما حلّ في الشرق أو في الغرب إلاّ وجلب إليه المسامع و أبهر به الفطاحل، ومفكر حباه الله بالفراسة فكلما تقرأ ما كتبه من عشرات السنين إلا و كأنه يقصد به الآن، ومن بين أكثر قضايا تفكيره قضية فلسطين التي أعصرت قلبه وأذرفت دمعه و أرّقت نومه و شحنت هممه و أسخت يده و حرّكت فكره، فكتب فيها ونشر و كان من أبلغ ما نشره ما جاء في جريدة البصائر سنة 1948 1949 من رؤيا للقضية الفلسطينية و من آفاق رأى بأنه لا تحلّ القضية إلاّ بها وهو فيها كأنه رأى عشرات السنين القادمة فتكلم و كأنه يعيش بيننا، و آثرت أن أضع بين القراء في مثل هذه الأيام الحالكات رغم بصيص النور اللّواح الذي سيعم حتما بعد امتحان الله للأرواح. رؤية البشير الإبراهيمي لفلسطين وقضيتها يا فلسطين إن في قلب كل مسلم من قضيتك جروحا دامية، وفي جفن كل مسلم من محنتك عبرات هامية، وفي عنق كل مسلم لكي يا فلسطين حق واجب الأداء ، وذمام متأكدة الرعاية . يا فلسطين إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء و التراب، فإن هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، و أن فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، و إنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك الرحلة الواصلة بين السماء و الأرض صعودا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطا، و إليك إليك ترامت همم الفاتحين، وترامت الأينق الذلل بالفاتحين، تحمل الهدى و السلام، و شرائع الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد إلى منابت الوحي القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام، ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويما من الإسلام عليك، و كانت الثالثة ورّدا، و كانت النتيجة أن الإسلام طهّرك من رجس الرومان، كما طهّر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان. يا فلسطين ما بال هذه الطائفة تدّعي ما ليس لها بحق، وتطوي عشرات القرون لتصل بسفاهتها وعد موسى بوعد بلفور و أن بينهما لمدا وجزرا من الأحداث، وجذبا ودفعا من الفاتحين . ما بالها تدّعي إرثا لم يدفع عنه أسلافها غارة بابل، و لا غزو الرومان، و لا عادية الصليبيين، و إنما يستحق التراث من دافع عنه وحامى دونه، و ما دافع بابل إلاّ انحسار الموجة البابلية بعد أن بلغت مداها، وما دافع الرومان إلاّ عمر و العرب و أبطال اليرموك و أجنادين، و ما دافع الصليبيين إلاّ صلاح الدين وفوارس حطّين . ما أشبه الصهيونيين بأولهم في الاحتياط للحياة، أولئك لم يقنعوا بوعد الله فقالوا : ما قاله الله عنهم : ( يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا ) ، وهؤلاء لم يثقوا بوعد بلفور حتى ضمنت لهم بريطانيا أن يكونوا في ظل حرابها، وتحت حماية مدافعها و قوانينها. أما و الله يا فلسطين، لكأنّ أعداء العرب امتحنوا بك رجولتنا و إباءنا و مبلغ التضحية بالعزيز الغالي فينا، ولكأنّهم جسوا بك مواقع الكرامة و الشرف منّا، و كأنّ كل صوت من أصواتهم ينادينا : أين أنتم ؟ فلا زلت مباركة على العرب يا فلسطين . فهل كنتم يا عرب تعتقدون أن مجلس أمم كما يزعم ؟ كأّن تلك الأمم وحّد بينها الانتصار على الألمان النازي، و اليابان الغازي، فجعلت من شكر الله على تلك النعمة أن تنظم أمم العالم في عقد من السلام و الحرية تستوي فيه الكبيرة و الصغيرة، و دوله في المجلس تستوي فيه القوية و الضعيفة، ليقيم العدل و ينصف المظلوم، و كأنّكم ما علمتم أن ذلك المجتمع يمشي على أربع، ثلاث موبوءة، و الرابعة موثوءة. علم الصهيونيون أن وعد بلفور لا يعدوا كونه وعدا، و أن نصّه الطري اللين هو : ( أن أنكلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين ) فأعدّوا لتحقيقه المال، و أعدّوا الرجال و الأعمال، واتخذوا من الوقت سلاحا فلم يضيعوا منه دقيقة، و استعانوا بنا علينا .. فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، و من تخاذلنا قوة، ومن غفلتنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، و أصبحت هذه القوات كلها ظهيرا لهم علينا. و علمنا نحن أن ذلك الوعد وعد انجليزي وعد بلفور به اليهود عند حاجته إلى ذهبهم، كما وعد الشريف حسينا بخلافة شاملة ووحدة كاملة عند حاجته إلى تخذيل الأتراك، و أن الوعود الأنجليزية شيء عرفناه بزعمنا بعضه من بعض، يخلف مع اليهود كما أخلف مع الشريف حسين، و تعامينا عن الفوارق العظيمة بيننا و بين اليهود، وبين وعود الأنجليز لنا ووعودهم علينا. كان الواجب أن نعمل من يوم الوعد لما ينقض الوعد، فنجمع الشمل المشتت، و الهوى المتفرق، ونحارب الواعد و الموعود بالسلاح الذي يحاربوننا به، و نعلم أن اليهود لا يكاثروننا بالرجال فرجالنا أكثر، و لا يكاثروننا بالشجاعة فشجاعتنا أوفر، و إنما يكاثروننا بالمال و العلم و الصناعة، فلو كنا ممن يفكر ويقدر و يأخذ بالأحوط الأحزم، لبدأنا من أول يوم بالإعداد و الاستعداد، فأعددنا المال و أعددنا العلم، و استعددنا بالصناعة، و إن في ثلاثين سنة ما يكفي لأنّ نستعدّ كما استعدّوا، و أكثر مما استعدوا، لا بالأقوال و الاحتجاجات التي هي سلاح الضعفاء، ولكن بمصانع العقول و هي مدارس العلم، و بمعامل الأسلحة و العتاد، وبمصايد المال و هي الشركات التجارية، و لو فعلنا لانجحر صهيون في وجاره، و انكمش من يؤازره اليوم من أنصاره، و لو فعلنا لما كانت مماطلة الأمس وتقسيم ودعم اليوم. أما و إننا لم نفعل فلنعتبر أن صدمة فلسطين هي تأديب إلهي ينقي من هممنا الوهن و الزعل، وينفي من صفوفنا الكل و الوكل، و إن الأمم التي تصاب بمثل تأخرنا و تخاذلنا و غفلتنا لمحتاجة إلى أحداث ترجّها رجّا، وتزجها في المضايق زجّا لتنفض عنها أطمار الخمول و الضعة، وتطهرها من أدران الخور و الفسولة. لقد وزنوا بيننا وبين اليهود و درسوا و قارنوا و استخدموا الجمع و الطرح، فأنتجت لهم المقدمات هذه الحقائق، وهي أننا لا نملك مصنعا للسلاح، و لا معملا للكيمياء، و لا رجالا فنيين كالذي يملكه اليهود من كل ذلك، فقالوا نربح اليهود لأن لنا فيهم فائدة معجلة، ولا نخشى العرب لأنه ليس فيهم مضرة مُؤجلة. ولكن فات أولئك البانين لكل شيء على المادّيات أن هناك سلاحا أمضى من جميع الأسلحة المادية، و أنه الشرط الأول في نفعها و غنائها، وهو سلاح الروحانيات، من إيمان بالحق، واعتداد بالنفس و حفاظ على الكرامة، وتقديس للشرف و إباء للضيم و مغالاة بالتضحية و الفداء، واستخفاف بالظلم و الظالمين، وفاتهم أن العرب و إن نزر حظهم من القوى المادية التي لا يستهين بها إلاّ جاهل، فإن حظهم موفور من القوى الروحية التي لا يستهين بها إلاّ مغرور، وستتقابل القوتان في فلسطين، قوة الروح ومعها الحق، وقوة المادة و معها الظلم الباطل، وسيرى العالم أيتها تحطم و أيتهما تتحطّم؟ و كأن الله جلّت قدرته أراد أن تجري التجربة الثانية للسلاح الروحاني امتحانا لقدرته على المقاومة في أرض فلسطين منبع الروحانيات على يد وارثيها بالفرض من إسماعيل و إبراهيم، و سيصارف العرب اليهود مادة بمادة حتى إذا بطلت خاصية المادة فضلوهم بتلك الذخائر الروحانية التي اختصّوا بها، وستكون العاقبة للروح و عجائبه، لا للمادة و غرائبها . ويْح الأقوياء ... أكانوا يتخيلون يوم استهواهم البريق فرجحوا كفة صهيون أن العرب يستسلمون للضعة، ويخضعون للهون و الدون وصفقة المغبون، أو يرضون بحكومة أصوات معروضة للإعارة و الإجارة، هي عندهم من قبيل صوت الناعي ينعي من غير تأثر، و النادبة تندب من غير شجي، فإن لم يكن لأولئك الأقوياء بتلك المخيلة فهل بلغ بهم الاستخفاف بدماء البشر أن يسببوا لإراقتها الأسباب، ويفتحوا لهدرها الأبواب؟ ألم تكفهم المجازر الكبرى حتى يخلقوا لها بنيات، ويفتحوا إلى أمثالها مطالع و ثنيات ؟ كذبتكم المخيلة أيها الأقوياء .. إن العرب إذا سيموا الحيف حكّموا السيف، و إنهم سيأخذون حقهم بالدم الأحمر في حين أراد اليهود إستلابه منهم بالذهب الأصفر، و إن الزمان سيأخذكم بهذه الدماء المراقة، أخذ الأرض لِفَرس سُراقة، و إن التاريخ سيعصب بكم عارها وشنارها، وسيئاتها و أوزارها . و ويْح لليهود و من معهم من الأقوياء، إن غرس صهيون في فلسطين لا يَنبت، و إذا نَبت فإنه لا يثبت ، فانتظروا إنا معكم من المنتظرين. أيها العرب!، ايها المسلمون! إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، و أمانة عمر في ذمتنا، و عهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منّا ونحن عصبة إنّا إذن لخاسرون ...، و إنكم إذا لم تعاجلوا هذه الجرثومة الصهيونية الخبيثة بالاستئصال، فإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد كبير، .. و إنكم لا تردون كيدهم بجامعة الدول العربية، حتى تسندوها بجامعة الشعوب العربية، فحركوا في وجوههم تلك الكتلة متراصة يرهبوا ثم يذهبوا . و اعلموا أن الصهيونية و أنصارها مصمّمون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن منه . وكونوا حائطا لا صدع فيه *** وصفّا لا يرقع بالكسالى نص مبادرة الشيخ البشير الإبراهيمي لحل القضية الفلسطينية تعالوا يا أصحاب الضمائر المنفصلة ... إلى كلمة سواء بيننا وبين اليهود، تعالوا نقامركم مقامرة لا يقترحها إلاّ عربي، و لا يقدم عليها إلاّ حرّ أبي، و لكنها مقامرة تفضّ النزاع الذي أعياكم أمره، وراع العالم شرّه، دعونا من التقسيم فالرقعة ضيقة بأهلها، و من الوطن القومي فالكلمة ضائقة بمعناها، وهلم بنا إلى الحل الناجز، و الفصل الحاجز. أحشدوا إلى فلسطين جيشا من الصهيونيين مِنْ نَبْت الشرق أو غَرْس الغرب، ولا نشترط إلا أنْ يكونوا صهيونيين، ونَكِلُ إليكم عدده، ونَحشد نَحن بإزائه جيشاً من العرب، ولكم علينا أنْ يكون أقلَّ من جيش اليهود عدداً إلى الثلثين، على شريطة واحدة، وهي أن يكون سلاح الفريقين متكافئا في أنواعه و أصنافه و ألوانه، ثم اضمنوا لنا أن البحر لا يقذف بمدد، ونضمن لكم أن الصحراء لا يتسرب منها أحد، ولتبقوا أنتم و يهود العالم و عرب العالم نظارة متفرجين لا إعانة و لا إمداد، و لا هجرة و لا جهاد، ثم نفوض على الجيشين حلّ المشكلة بالموت في ميقات يوم معلوم، فإن غلب الصهيونيون سلّمنا في فلسطين، و آمنا بالوطن القومي و زدنا على ذلك تحية و سلاما و تهنئتا و إكراما، و إن غلب العرب كان الجُعل متواضعا يزينه الرجوع إلى الطبيعة وبقاء فلسطين عربية تُظِلُّ اليهود الأصلاء بالرعاية و الحماية، وتُجلي اليهود الدخلاء الذين نجموا مع قرن الصهيونية و دخلوا فلسطين باسمها و على صوتها و دعوتها. إنها كما ترون مقامرة تنطوي على مغامرة، و إن فيها لكثيرا من المحاباة لليهود، ومع ذلك فقد رضينا ورضي العرب ... أقولها و أنا مسلم، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وعربي و العرب هم الذين وضعوا "" كلمة الشرف "" للعالم و أفهموه معناها، فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا فاعلموا أن أشنع ما يسجله التاريخ تألب أمم على أمة و انتصار أقوياء لباطل، وإنَّ أقبح ما تقع عليه العيون جانٍ يتجنَّى وظالمٌ يتظلّم. (*) استاذ التاريخ بجامعة زيان عاشور الجلفة - الجزائر