مُقدمة يذكّرنا الاحتفال بالذكرى الستون لاندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، بمعاني كبيرة ودلالات هامة لمفهوم "الوطنية"؛ أحوج ما نكون إليه الآن قبل أي وقت مضى، في ظل عدم الاستقرار الأمني لدول المنطقة عموما ودول الجوار بصفة خاصة، وقبالة التهديدات الخارجية لمفهوم "الدولة الوطنية" التي تستهدف استقرار وأمن المنطقة العربية برمتها، ضمن مخطط ما يعرف ب "شرق أوسط جديد". فالوطنية التي صنعها جيل نوفمبر، ومن سبقهم من رجال المقاومة في مختلف أشكالها، والتي تعني تقديم الولاء التام للوطن، والانضباط المطلق تحت لواءه وإمرته، وبذل التضحيات الجسام لضمان استقراره واستمراره، تبدو غريبة بعض الشيء عن واقع ما نراه ونسمعه مؤخراً على وقع ما يسمى "الربيع العربي"، خاصة من طرف بعض من يحملون صفة "الإسلامية" ويتبنونها منهجاً.. فالذي يجري مثلاً في سوريا ومصر وليبيا، أو الذي يدبّر في السعودية والإمارات وقطر وتركيا، يوحي بأنه يمكن استخدام سلاح "الإسلامية" ذي الحدين في خدمة أو خذلان معاني "الوطنية" لتلك الأوطان، بل ولجيرانها.. أين تؤثر تجاذبات السياسة وصراع المواقع وخطط النفوذ على المواقف التي يفترض أن تخدم "الأوطان"، فتغوّلت بعض التيارات الإسلامية على أولويات الوطن – عند أوّل فرصة تتاح لهم – وآثرت مصلحة "تنظيماتها" على المصالح الوطنية العليا تحت مبررات مختلفة، وتحالفت تيارات إسلامية ضد أخرى أو معها في نفس الوقت، مثلما حدث في مصر وسوريا واليمن، في إشارة واضحة إلى تخبط من يدّعون "الإسلامية" وعلاقتهم بالأوضاع "المحلية" في بلدانهم.. وعلى هذا الأساس؛ وفي هذا الظرف الحساس، الذي يستدعي هبّة وطنية حازمة، ومراجعة شاملة وصريحة وصادقة لاسقاطات مدلول "الوطنية" على أرض الواقع، نحاول تخصيص هذا الحيّز لقراءة ما يدور حولنا وبلورة تصوّر عن المواقف المطلوبة منا - في هذا الظرف بالذات - بتقييم العلاقة بين المتغيرات وتحديد الثابت منها، لمناقشة تداعيات المستقبل، مستعينين في ذلك بكرونولوجية الأحداث السابقة، وببعض المراجع النادرة حول الموضوع، لتسليط الضوء على التيارات ذات المرجعية الدينية في الجزائر عموما، وعلى من يحمل صفة "الإسلامية" بصفة خاصة، وعلاقتهم بمدلول "الوطنية"، ضمن ثلاث (03) حلقات، نخصص أولاها للاتجاه "الصوفي" أو من يعرفون ب "الطرقية"، ثم التيار "الوهابي" أو من يعرفون ب "السلفية"، بينما نخصّص الثانية لجماعة الإخوان أو من يوصفون بأتباع "التنظيم العالمي"، في حين نتناول في الحلقة الأخيرة الحركة الإصلاحية الوطنية، التي تمتد جذورها انطلاقاً من جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ووصولاً إلى ما يعرف حالياً ب"المحليين" أو من يطلق عليهم صفة "الجزأرة"... 4- الإتجاه المحلي بعدما حلّلنا تقلبات أوضاع بعض "الإسلاميين" وعلاقاتهم المهتزة ب "الوطنية" حينا، والمتسلقة بها حيناً آخر، نركّز في هذه الحلقة على صنف آخر يوصف أيضاً ب"الإسلاميين" الذين لم يختاروا لأنفسهم تسميةً تُميّزهم، فهم يعتبرون أنفسهم جزءًا من نسيج المجتمع الجزائري، وعمقاً متجذراً داخل فئاته الاجتماعية المختلفة، يشاركونهم الشعور ك"مسلمين"، ويتقاسمون معهم التاريخ والجغرافيا، ويتنفّسون معهم هواء الوطن، يؤمنون إيماناً جازماً بوحدة المصير. بينما يصفهم غرماؤهم ب "المحليون" أو "البن باديسيت" أو "البن نبيست" أو بعبارة "الجزأرة".. "المحلّيون" في مقابل "العالميون"، و"البن باديسيون" نسبة إلى مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي تشاء الأقدار أن يحاول بعض أنصار "التنظيم العالمي" اختراقها في شكلها الجديد، والتغلغل في هياكلها المحلية، رغم كفرانهم بمبادئها واستهزائهم بخيارها المحلي، الخيار الذي برّره بن باديس بالقول: «أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليّ تلك الروابط أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة.. وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال.. نعم إنّ لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا هي دائما منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لا بد أن نكون قد خدمناها، وأوصلنا إليها النفع والخير عن طريق خدمتنا لوطننا.. ولن نستطيع أن نؤدي خدمة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر.. وما مثلنا في وطننا الخاص - وكل ذي وطن خاص - إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيّع بيته فهو لما سواها أضيع. وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط. فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للأضرار بسواها - معاذ الله - ولكن لنفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان الأقرب فالأقرب..هذا – أيها الإخوان – هو مرادي بقولي: أنني أعيش للجزائر». وبالرغم أنّ للجمعية ورجالاتها العظام صلات عميقة برجال وخبرات حركة النهضة في العالم الإسلامي فإنها لم تتورط في عملية استنساخ هذه التجارب، بل اكتفت بهضم وإعادة تمثيل ما كان ضروريا منها لإغناء خبرتها وتجربتها في الدعوة والبناء والمواجهة، فكانت بذلك نموذجاً ناجحاً في الانفتاح والاحتكاك والتثاقف الذاتي للأمة. أمّا "بن نابيست" فنسبة إلى المفكر الفذ مالك بن نبي - رحمه الله - الذي تُدرّس نظرياته في كبريات الجامعات "العالمية" ويُعزى تطوّر بعض النمور الأسيوية إلى أفكاره. ورغم ذلك فإن بن نبي لم يؤسس تنظيما حركيا بل ولا حتى تنظيما فكريا، كما أنه لم يشارك أو ينخرط في أي تنظيم فكري في الجزائر، وإنما كان له الفضل الكبير في توفير بعض الأجواء الروحية والنفسية، بتأسيسه أول مسجد في الجامعة الجزائرية سنة 1968 وبعض الشروط الفكرية والمنهجية لبعض النخبة الوطنية الجامعية لكي تنقل الأفكار من مجالها النظري الشعوري الفردي إلى مجالها التطبيقي المنهجي الاجتماعي، وذلك بإقامة ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي الذي أصبح يعرف فيما بعد بملتقى الفكر الإسلامي قبلة العديد من مفكري العالم الإسلامي.. ولهذا كان العمل المحلي خيارا هاما من الخيارات العديدة التي تمخضت عنها جهود الرجل الفكرية التربوية المركزة. وبحكم الاحتكاك المباشر وغير المباشر لبعض نخبة العمل المحلي به وبأفكاره، واقتناعهم بأهمية وحيوية وجدية وأصالة وفعالية ما يطرحه من رؤية في تحليل وتفسير حركة التاريخ، وما أبدعه من منهجية في تربية الحس النقدي، وتفجير الذكاء السياسي والاجتماعي، وتنمية الوعي الاستراتيجي، وما يقدمه من نموذج متوازن للمثقف الوطني الرسالي المعتز بهويته وذاتيته الحضارية، والموصول بعمق وجوهر رشد الخبرة الإنسانية في الحضارة المعاصرة والحضارات البشرية عامة.. ورغم أنّ تلك النخبة تعتز بصلتها الفكرية التربوية الوثيقة بهذا الرسالي العبقري الكبير، فإنها لا تحتكره، ولا تتعصب له، ولا تستغله في سوق المزايدة الفكرية والحركية، وبورصات البوليتيك ! ولا تقف عنده، أو تعتبره نهاية الخبرة والعبقرية في الحركة والمجتمع والأمة، ولكنها تمضي في طريق "الاستقلالية"، "النوعية" و"التكاملية" التي تستفيد من كل مدارس وخبرات المجتمع والأمة. وتعتبر بن نبي كأي مفكر وعالم ومرجعي في الأمة، ملك للمجتمع ومن حق كل فرد أو جماعة أو تيار في المجتمع أن يستفيد من فكره وتراثه، وأن ينقله إلى الأجيال المعاصرة، بشرط أن يكون ذلك التبني مخلصا وعن قناعة وإعجاب، وليس من أجل المتاجرة "البوليتيكية" التي كان رحمه الله من أشد خصومها، كما يجب أن يكون التبني أصيلا لا يخرج خبرة الرجل ومشروعه الفكري من سياقهما الحضاري، أو يفرغهما من محتواهما الروحي والأخلاقي والشرعي، بصبهما في قوالب ذاتية أو فكرية وأيديولوجية بعيدة عن الإسلامية المستبصرة. أمّا وصف "الجزأرة" التي يكررها البعض عن "حسن نية" هي مبررة من الناحية اللغوية بالوعي بمعادلة الواقع وظروف المجتمع، مثلما تبنت ذلك كثير من السياسات العامة للدولة، كجزأرة التعليم وجزأرة التأطير وجزأرة البرامج، بينما يروّج لها آخرون عن "سوء نية" في سياق التشويش على البعد الوطني الأصالي التكاملي الذي أشرنا إليه في الحلقتين السابقتين، لأنّ الجهد الوطني المبني على "الاستقلالية"، "النوعية" و"التكاملية" والذي أثبتت الأيام أصالته وفعاليته على جميع المستويات، هو ما تحسست منه بعض مكونات - ما يسمّى - الساحة الدعوية فيما بعد، وحاولت محاصرته والتشويش عليه، فأطلقت هذه التسمية في إطار سلسلة قنابل دخانية كثيرة كانت ترمي بها هنا وهناك لتضبيب الرؤية على الشباب الملتف حول الجهود الوطنية الجادة.. فالجهد الذي يبذله هذا الإتجاه وغيره من الجهود الوطنية المخلصة، يدخل ضمن رأس مال وطني غني موجود ويقوى ويتجدد باستمرار، ليعطي الإضافة الإيجابية إلى مخزون "الوطنية" التي تحترم الخصوصية وتقدم أولويات الوطن فوق كل اعتبار، وتضع بصمة "الجزائرية" فوق كل إنجاز، مثلما عبّر عن ذلك الشيخ البشير الإبراهيمي - رحمه الله - حينما قدّم نفسه أمام الحشود المصرية والعربية أثناء محاضرة ألقاها بالقاهرة بالقول: " لا أقول لكم أنا علاَّمة الجزائر ولكن أنا علاَمة الجزائر وأشار إلى قشَّابيته الجزائرية !! .." فقد علّمتنا الخبرة بأنه " ما يبقى في الواد غير احجاروا ؟!." ذلك أنّ الأفكار والمشاريع والمنهجيات الصحيحة.. هي حجارة وادي الحياة المندفع في اتجاه منطق: البقاء للأصلح.. ورغم ذلك، فإنّ أفراداً من كوادر هذا الاتجاه اختار الانخراط في العمل السياسي، على غرار الكثير من أفراد الإتجاهات الأخرى، التي انصهرت ضمن بوتقة "الفيس" وتحملوا بصفاتهم الفردية تبعات خيارهم، التي لم تكن في معزل عن مصير رفقائهم في الحزب.. وبالموازاة مع ذلك، بادر الشيخ "أحمد سحنون" رحمه الله أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى تأسيس رابطة الدعوة الإسلامية سنة 1989، والتي ضمت مختلف أطياف التيارات الإسلامية، وهذا بهدف إصلاح العقيدة و الدعوة إلى الأخلاق الإسلامية، و كذا الدعوة لتحسين الاقتصاد المنهار، والتركيز على النضال الفكري، المبادرة التي لم تصمد كثيراً أمام انجذاب بعض أعضائها إلى تنظيماتهم العالمية وولاءاتهم الخارجية على حساب مصلحة الوحدة الوطنية... وفي الأخير؛ وبعدما استعرضنا مواقف أهم الاتجاهات التي يتم تصنيفها في الجزائر على أنها "إسلامية" من القضية المحورية "الوطنية"، ومهما كان النهج الذي تبناه الإسلاميون، أو الثوب الذي ارتدوا فإنّ الالتباس القاتل الذي جنى على كثير من حركات التغيير والإصلاح والتجديد في تاريخ الأمة، وما يزال وسيظل يفتك بها إلى أن يرتفع من حياتها تماما، وهو أن " الإسلامية " أو " الإسلامي " ليست نسبة اسمية أو شكلية يضيفها من يشاء إلى نفسه كيف ما شاء، ومتى شاء، ليكتسب صفة الإسلامي، ويُكسب عمله صفة الإسلامية، أو ليدرج نفسه في عداد الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، ويضفي على جهده صفة المشروعية الشرعية والاجتماعية.. إنّ كثيرين يخطئون خطئا فادحا في حق الإسلام والمجتمع والأمة، عندما يعتقدون أن كونهم مسلمين أو "إسلاميين" يعني آلياً أنهم على حق أو صواب، أو منصورون، أو ناجون، أو شهداء على غيرهم، أو قيِّمون عليهم.. ولا يجتهدون في مراجعة أنفسهم وتجديد وعيهم بالإسلام، وبتاريخه الثقافي والاجتماعي والسياسي والحضاري، وبطبيعة العصر وروحه وتحدياته وحاجاته، وبحاجات المجتمع والأمة وبالتحديات التي تواجههما، وبالأولويات المرحلية والاستراتيجية التي تشرط عملية نهوضهما الحضاري، وبالإمكانات التسخيرية المتاحة والتي يمكن إتاحتها على المدى المتوسط والبعيد، وبالمناهج الفنية للإنجاز الاجتماعي الفعال.. إن "الإسلامية" وإن كانت في ذاتها تعني الحق والصواب والأصالة والفعالية والتحضر والتقدم.. فإنها لا تعني ذلك بالنسبة ل"الإسلامي" بشكل استصحابي آلي، لأن الإسلام الإسمي، أو الجغرافي، أو التاريخي، أو الوراثي كما يسميه الإمام بن باديس، أو التجزيئي، أو الحرفي، أو الانتقائي التلفيقي، أو التنافري.. لا يعطي أي امتياز لصاحبه، بل سيكون نقمة عليه وعلى المجتمع، وفقا لسنة الله في الجزاء المثلي.. فالوعي بمنطق الاستقلالية الفكرية والتنظيمية يوفر لكل فرد ولكل مؤسسة ولكل تجربة في المجتمع والدولة والأمة، الشعور بالحرية والأمان والاستقرار والمسئولية، وهي القيم الأساسية الكبرى التي ترتكز عليها كل نهضة حضارية حقيقية في التاريخ البشري. فمتى أحسّ كل طرف في معادلة التغيير والإصلاح والتجديد بذاتيته الفردية والاجتماعية، عظُم إحساسه بالمسئولية، وقويَ لديه روح الاندفاع نحو النجاح وإثبات الوجود، وحرص على الإمساك بالشروط الموضوعية لمعادلة المنافسة الاجتماعية النزيهة. وعليه، وفي خضم الظروف التي نمر بها والتي سبق التفصيل فيها، فإنّ ملاذنا الوحيد لسلامة وطننا واستقراره، هو الاحتكام إلى ضميرنا "الوطني" الحي، وتقدير واحترام أولوياته وخصوصياته، وتفويت الفرصة على كل من يتربص بأمننا وسلامتنا ومستقبل أجيالنا، بتقديم لغة القيام بالواجب على لغة المطالبة بالحقوق مثلما عبّر عن ذلك بن نبي رحمه الله. الوطنية.. وإسلاميو الجزائر / الجزء الأوّل : الصوفية و السلفية الوطنية.. وإسلاميو الجزائر / الجزء الثاني : جماعة الإخوان المسلمين