بمناسبة الإحتفال بالإستقلال إنه واحد من عشاق الوطن، عاش أهوال حربها وعانى من اغتصاب أرضها، أحد رجالات الجلفة القدماء، أسهم في البحث عن عمق تراثها، وكان مشوار حياته جزءا من تاريخها، نادى دائما بضرورة الاهتمام بتراث المنطقة التي كان يختزنها داخل عقله وقلبه وهي في مضمونها أضواء وعلامات خضراء تنير الطريق لأجيال الحاضر والمستقبل، امتاز رحمه الله بالرقة والحساسية وكان يأنس بشدة للإنسان الصادق، فإذا تحدث عن الماضي يُضْمن حديثه المعلومات والأرقام والصور التي تثري معلوماته، وأحلى ساعات عمره تلك التي يردد فيها ذكرياته داخل بلدته وخارجها، أحبّ السياحة وعشقها وكانت له عدّة رحلات وسط دروبها.. وكان ناسكا في محراب التاريخ الذي أعطاه عمره فكانت جائزته منه أنه عرف الكثير من ماضيه. ابن الخيمة النايلية .. ولد بلعباس سنة 1918 بمنطقة مرقب بن حفاف (حوالي 11 كلم غرب مدينة الجلفة)، ترعرع في كنف والديه "البشير بن محمد" والحاجة "زينب"، عاش في البادية بين أسرة تقطن الخيام وترتحل شتاءا وصيفا بحثا عن المعيشة، كانت معروفة بحسن الضيافة والجود والكرم، وعلى عادات أهل الجلفة تربى وكبر ، وبعد أن توفيت والدته ربّته زوجة أبيه والدة أخويه محمد وعلي، "الأم لروية" التي كانت تكن له محبة خاصة، ومن شدة تعلقها به لم تتركه يكمل دراسته في المدرسة القرآنية بالزاوية القاسمية بالهامل، وفي سنة 1942 توفي والده، لتنتقل بعده بسنتين أمه الثانية إلى جوار ربها، تاركين وراءهما أخت وثلاثة إخوة هو رابعهم. تزوج من اثني عشرة زوجة ورغم أنه لم يحظى بالأبناء إلا أنّ ابن أخيه "محمد" المدعو "بلخير" الذي أحسن تربيته وتعليمه تزوّج وأنجب له البنات والبنين. جهاد داخل الوطن وآخر خارجها أول ما تعلمه "بلعباس" في منطقته حروف الكتابة والقراءة، ثم أخذه والده ليتعلم مبادئ الأخلاق ويحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ " سيدي مصطفى"، غير أنه لم يحظى بختم القرآن، وليواصل تعليمه توجه إلى المدينةالمنورة ليؤدي مناسك الحج وفي نفس الوقت درس بمدرسة العلوم الشرعية الحرة بالمدينةالمنورة، وأخذ من مشايخها ما تيسر من مختلف العلوم، ولم يكتف بذلك فحسب بل انخرط في صفوف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وشارك في النشاطات السياسية مع ابرز أعضائها الذين لم يكن يتجاوز عددهم الستة ومن بينهم "الحافظ بن الشيخ سيدي عبد المالك" شيخ الزاوية التيجانية، و "أبو بكر جابر الجزائري" الذي كان معلما بمدرسة أولاد جلال ببسكرة، وفي سنة 1955 أرادت المدرسة بالتنسيق مع جمعية العلماء إرسال الحاج "بلعباس" إلى الأزهر الشريف بمصر رفقة زملائه الناشطين إلا أنّ المظاهرات التي وقعت بين الفرنسيين وطلبة الأزهر حالت دون ذلك، وبعد مدة قضاها بالمدينةالمنورة دامت أربع سنوات عاد الحاج إلى أرض الوطن أواخر عام 1955. والثورة في انتظار العودة .. كان الشقيق الأكبر للحاج بلعباس المدعو "محمد" يعمل كوكيل عن مزرعة بمنطقة الشارف، وفي أحد الأيام طلب الضابط "عبد السلام الحسين بن عبد الباقي" المدعو ( بولحية) من نائبه " قدور" أن يبحث له عن شخص من المنطقة يكون محل ثقة، فأخبرهم عن الحاج "دلولة" وكتب له رسالة استلمها بتاريخ 1955 من جبل امساعد التي جاء في مضمونها أمر بتكوين مجالس بالولاية السادسة، وتلبية لنداء الواجب حصل على شرف الانخراط في صفوف الجيش الوطني، وبتاريخ 1956 وتحت أوامر الشهيدين " عمر ادريس وزيان عاشور" وبصفته مكلفا بتكوين المجالس والتموين قام بجمع السلاح والاشتراكات وكل ما يحتاجه الثوار من مستلزمات، وفي شهر جوان من نفس العام ذهب رفقة " الطاهر قيبش" لأخذ السلاح لجبل بوكحيل أين يتواجد " زيان عاشور"، وفي سبتمبر ألقي عليه القبض وسجن بمركز التعذيب – موقع المتحف البلدي حاليا- مدة 50 يوما مقيدا بالسلاسل ، وفي عام 1957 نقل إلى الأغواط ثم إلى البليدة وبعد ما يقارب ال18 شهرا من الاعتقال والتعذيب والتنكيل به تمّ الإفراج عنه يوم 11 مارس 1958. واستأنف المجاهد "دلولة بلعباس" نشاطه الثوري بعد خروجه من السجن ولكونه متابعا من قبل "بلونيس" - تلك النبتة الخبيثة التي نمت وترعرعت في الشمال واجتثت جذورها وقبرت في الصحراء - تمّ إخراجه من الوطن شهر أوت من طرف جبهة التحرير كلاجئ إلى فرنسا وبلجيكا أين كان رفقة كل من "لخضر جرادة" و "رحمون سعد" وبقي هناك إلى أواخر سنة 1959 . وبعودته واصل الحاج بلعباس عمله ونشاطه الثوري بالمنظمة المدنية حيث عمل كمنسق بين الولاية السادسة والولاية الرابعة (المنطقة الثالثة) حيث كوّن مجموعة من الضباط والمجاهدين المدنيين المثقفين بمنطقة "حسين داي" لدراسة قضية المظاهرات التي انطلقت يوم 11 ديسمبر 1960 من حي بلكور بالعاصمة وكان الحاج من ضمن المتظاهرين الحاملين للأعلام الوطنية الهاتفين باستقلال الجزائر، هذه المظاهرات التي لاقت نجاحا كبيراَ رغم اعتراضات المستدمر الفرنسي. مظاهرات نوفمبر 1961 بالجلفة .. فكرة وليدة تجربة وانطلاقا من تجربته في المشاركة بالمظاهرات وبصفة عمله كمنسق بين المدني و العسكري المتمركز بجبل "قعيقع" كانت فكرة إقامة مظاهرات بالجلفة تراوده حيث اقترحها على المجاهدين الذين رفضوا ذلك، ولكن بإصرار و عزم على تحقيق فكرته قام بتكوين 8 خلايا بأحياء المدينة بكل من حي المستشفى، مئة دار، وسط المدينة، قناني، القرية، الضاية وعين الشيح...وكانت كل خلية تتشكل من خمسة أعضاء وكل عضو مكلف بمسؤولية جمع الاشتراكات من الشعب لتأمين مستلزمات الحرب من سلاح ولباس ومؤونة...وتم البدأ في التحضير للمظاهرات، وقام المجاهدون في جبل "قعيقع" بتسجيل رقم البلدية واسم المشترك وما يملكه إضافة إلى قيمة الاشتراكات المقدرة ب 200 فرنك في كل بلدية... في حين قامت اللجان بوضع إحصاء للأوربيين المقيمين بالجلفة نتج عنه تواجد حوالي 209 أوروبي آنذاك. وعشية الفاتح نوفمبر 1961 عمل "الحاج بلعباس" على اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتنظيم المظاهرات رفقة مجالس المدينة، وذهب إلى المجاهد "مرجاني احميدة " قبل انطلاق المظاهرات بساعتين للتأكد من أنّ كل شيء على ما يرام ومهيأ لتفجير ثورة الشعب السلمية التي مُنع هو من المشاركة فيها ولا حتى المجاهدين، وانطلق المتظاهرون من حي 100 دار واستمرت المظاهرات ولقيت نجاحا غير متوقع رغم ما أسفرت عنه من شهداء و جرحى و اعتقالات... لم يرضوا عن النصر بديلا... وبعد نشاط ثوري متواصل في المنطقة كبّد العدو خسائر مادية وبشرية اشتدّت معها التحريات والمتابعات حتى ألقي القبض على فدائيين بحوزتهما قنبلتين من النوع العادي و أخريتين هجوميتين ومسدسين كان قد أمنهما الحاج بلعباس لهما بصفته المسؤول عن توفير السلاح للفدائيين، وبعد بحث متواصل تمّ القبض عليه مرة أخرى يوم 4 جانفي 1962 أين أُطلق عليه اسم " المجرم القاتل"... وفي اليوم الموالي تعرض لأشدّ أنواع التعذيب على يد مسؤول الثكنة العسكرية المرتزق "غولدشتاين" المعروف ب"بولحية"، ليحال على المحكمة العسكرية بالمدية وحكم عليه بالإعدام بتاريخ 19 فيفري 1962، وبعد المفاوضات مع هيئة المحلفين استدرك الحكم إلى السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة، ومكث المجاهد "بلعباس دلولة" في سجن البرواقية إلى غاية أفريل 1962. وعند خروجه من السجن و مجيئه للجلفة استقبله الشعب هو ومن معه استقبال الأبطال وكانت الفرحة عارمة بالنصر المبين الذي تظافرت من أجله جهود الخيّرين من أبناء الجزائر. مسؤوليات شيخ البلدية .. جانب آخر من الجهاد بأمر من العقيد "محمد شعباني" تمّ تنصيب الحاج بلعباس شيخا لبلدية الجلفة في جوان 1962 من طرف جيش التحرير وكلفته جبهة التحرير بالتحضير للاحتفال الرسمي بالنصر الذي أقيم في 4 جوان 1962 بالشارف، ثم الاحتفال الأكبر الذي أعقبه في الخامس من جويلية بميدان الفروسية بالجلفة حضرته فرق من جيش الولاية السادسة تحت قيادة العقيد "محمد شعباني". وفي عام 1964 كُلف "الحاج بلعباس" بتسيير قسمة المجاهدين وقسمة جبهة التحرير الوطنية معا، وفي إطار مهامه عمل رفقة أعوانه بجمع رفات الشهداء من أماكن متعددة ووضعت في صناديق محترمة ليتمّ حفظها بمكتب القسمة إلى حين إعادة دفنها وإقامة شواهد عليها. و خلال إصابة "الحاج بلعباس" بوعكة صحية، قام عدد من أعضاء البلدية وبدون علمه بنقل رفات الشهداء ودفنها في مقبرة بالمدخل الشرقي للمدينة ( طريق بوسعادة)، الأمر الذي أزعج الحاج كثيرا لكون أنّ القبر حُبس على صاحبه لا ينبش ولا يخبش ولا يجلس عليه، وأنّ القانون ينص على دفن الشهداء داخل المدن لا خارجها، هذا ما دفعه إلى تقديم استقالته والتي تأخر قبولها ثلاث سنوات، وفي عام 1969 تم تعيينه رئيسا للديوان المحلي للسياحة بالجلفة... وحفاظا على التاريخ ساهم الحاج دلولة عام 1970 رفقة آخرين في إنشاء المتحف البلدي، وبفضل المساعدات المقدمة من طرف بعض المسؤولين بدأ رفقة الطاقم العامل معه في المتحف بالبحث عن الآثار المنتشرة بالمنطقة وإحصائها وتصنيفها، أين تمّ اكتشاف الرسوم الجدارية الممتد تاريخها من 3000 الى 10000 ق.م والتي وصل عدد محطاتها 137 محطة، و قد ذكر الحاج أنّ الفضل في ذلك يعود إلى المبشّر الأب " فرونسوا ديفلاري" المدعو "المُرابو عبد الرحمان" الذي عاش بالمتحف البلدي وكانت تربطه علاقة جد وطيدة به، وهو الذي ساهم أيضا في ترجمة ما هو موجود في أجنحة المتحف للفرنسية لتوصيلها للسياح الأجانب وكان خير سفير للسياحة بالولاية. موت لا رحيل .. مات " بلعباس دلولة" وترك بصمة بارزة في تاريخ المنطقة والجزائر كافة، توفي وخلّف وراءه إرثا قيّما ما يزال المتحف البلدي عليه شاهداَ، غاب عنّا ولم يبقى لنا سوى أن نقول أنه من بين الأيادي السخية التي تُعطي وتُكافح ولا تُفكر بأن تأخذ... أكتوبر2006/ مقتطفات من لقاء ل"الجلفة إنفو" مع المجاهد الحاج دلولة بلعباس (رحمه الله) بمنزله أكتوبر 2006/ بمنزل "دلولة الحاج بلعباس" بحي الظل الجميل -تصوير الجلفة إنفو- رفقة الأب المبشّر "فرونسوا ديفيلاري" صور الشارف جوان 1962/ احتفالات الإستقلال بقيادة العقيد "محمد شعباني" أعضاء مجلس قيادة الولاية السادسة /من اليمبن إلى اليسار عمر صخري، محمد شعباني، حسين ساسي، سليماني سليمان لكحل، محمد شريف خير الدين "دلولة بلعباس، رقم 6 " رفقة مؤسس الكشافة الإسلامية بالجلفة "محمد بوسعيد، رقم 1" صورة لتجمع بمناسبة 5 جويلية 1962 الجالسون من اليمين الى اليسار: المجاهدين بركات، فضة عبد القادر المدعو بوعسرية، المجاهد أحمد بن ابراهيم (مسؤول المنطقة)، الواقف أمام الميكروفون المجاهد دلولة الحاج بلعباس (أول رئيس لبلدية الجلفة بعد الإستقلال) ، و الواقف وراءه المجاهد حساني السعيد المدعو بوشيبة.