بعد الصدى الواسع لخبر نشر ترجمة قصة "مقبرة الجلفة" للكاتب المكسيكي-الإسباني "ماكس أوب"، تنقل "الجلفة إنفو" لقرائها هذه الترجمة للمترجم "عبد القادر عيساوي" والمنشورة بالعدد 98 (ديسمبر 2015) من مجلة "الدوحة" التي تصدر بدولة قطر وهذا نزولا عند رغبة الكثيرين ممّن راسلونا. المُترجم "عبد القادر عيساوي": مترجم وتُرجُمان من مدينة حاسي بحبح، خرّيج قسم اللغة الإسبانية من جامعة "عبد الحميد بن باديس" بمستغانم. مهتم بالترجمة والأدب اللاتيني خصوصا الأدب الذي صاحب فترة "الحرب الأهلية الإسبانية". يعمل حاليا تُرجُمانا بمستشفى "الصداقة الجزائرية-الكوبية" المتخصص في طب العيون بمدينة الجلفة (الجلفة إنفو) صاحب النص الأصلي "ماكس أوب، MAX AUB": روائي، شاعر، كاتب مسرحي، وناقد إسباني، وُلِد في باريس، سنة 1903، وتوفِّي في المكسيك، سنة 1972، من أم فرنسية وأب ألماني، عاش في إسبانيا منذ 1914. بدأ رحلته الأدبية بالنشر في بعض الجرائد والمجلّات كمجلّة «الغرب»، كان مناصراً للجمهوريين طوال الحرب الأهلية الإسبانية، اعتُقل في فرنسا، ثم قيد إلى معسكر الاعتقال في الجزائر (الجلفة) بين عامي 1941 و1942. من أشهر أعماله «المتاهة السحرية» (سداسية روائية)، و«يوميات الجلفة» (ديوان شعري)، و«مقبرة الجلفة، ELCEMENTERIO DE DJELFA». هذا النصّ مأخوذ من كتاب بعنوان «ENERO SIN NOMBRE، يناير بلا اسم»، الصادر عن دار ألبا، في نوفمبر/تشرين الثاني، 2000. «باردينياس» هو الاسم الذي اختاره "أوب" لنفسه، وفضّل أن يجعله في قالب رسائلي موجّه إلى أحد الرفقاء القدامى في معتقل الجلفة (الجزائر)، مخاطباً ذاكرته، لعلّها تسترجع بعض المعاناة. نص تنوّعت فيه أحاسيس الكاتب، من سخط إلى رضا، وكثرت فيه التساؤلات، في رحلة بحث عن الحرّيّة. الترجمة: لن تتذكّر باردينياس، أو- ربّما- ستفعل، لأني أظن ذلك صعباً. إن لم أخطئ فقد كان آخر لقاء جمعنا سنة 1945، حين خرجتم، وكنتم- تقريباً- آخر من خرج من الجزائر العاصمة، ثم راسلتني من الدار البيضاء ومن فيراكروز، بعد مرور سنة، ثم لم يحدث شيء، حتى إني سأقول لك إن هذا كان- بالنسبة إليّ- أمراً عاديّاً. كيف كان لك أن تتوقّع أني سأبقى في الجلفة؟ نعم، هنا بقيت، وسط الكثير من الأشياء، لأني لم أعد أملك مبرِّراً للرحيل. تُرى، ما الذي جعلني تائهاً في بقايا هذا العالم، غير راغب في العودة إلى إسبانيا؟ يمكنك القول إني لم أعد أملك عائلة بعد الآن، أو إن ما تبقّى منها لم يعد راغباً في رؤيتي، وأنا كذلك. لا تعتقد أني لم أفكِّر يوماً في العودة إلى قرطبة، رغم أن العمل في النجارة استهواني أكثر من صناعة الآجرّ، وبدا لي أنهم لن يعيدوني إلى عملي معلِّماً. كم لبنة صنعتُ خلال أشهري الأولى في الجلفة، قبل أن أدخل ورشة مصطفى، كما كانت تُسَمّى؟ ومنذ أن مضيت قُدماً في العمل كنت على وفاق معه ومع أبنائه، وكذا مع تلك الفتاة «كاتا». الأمر الجميل الذي كان يميِّز العرب أنهم إذا تقبّلوك تقبّلوا كلّ ما فيك، سواء أذهبت إلى المسجد أم لم تذهب. لم نكن لنتخاصم أو نختلف، دون أن أصف كم كانت «مكة» تستحوذ على تفكيرهم، لن تصدق أن الجميع هنا محمّديّون، يطبِّقون تعاليم دينهم، قد يكون هذا بالنسبة إلينا كثيراً (وأشياء أخرى تبدو كذلك). الإيمان بالله! أتذكَّر كيف قالها إيريرا؟ - إنه الجبن والوهن، ما يجب فعله هو خلق عالم يمكن للناس أن تستمتع فيه قدر المستطاع. ثم يضيف: في إشبيلية يطلبون الرحمة وتأخير الساعة المعلِنة عن إعدام أحدهم، عشر دقائق. وكان ذلك صحيحاً، حتى إنه دُوِّن في الكتب، أمّا أنا فقد مرّت عليّ كلعنة قبل أن أخرج من قرطبة، وبالنسبة إلينا، كان تقديم الساعة أفضل. إيريرا كان شخصاً غريباً، كم وددت أن أعرف ماهيّته! أتذكُر ذلك الفرنسي؟ أو، مهما كان، ذلك الذي كان يقول إن إسبانيا ليست بلداً ودوداً؟ «كاتا» جعلتني غير مبالٍ بكلامه حين أخبرتني، في أحد الأيام، أنها لم تَر، قطّ، رجلاً ألطف مني، وهي تطلب أن أحمل عنها حزمة الحطب. وهل تذكر ذلك المجنون الآخر، كانييثارس، الذي كان ينظم الشعر، أو اعتقد نفسه يفعل ذلك؟: من الصحراء آتٍ لأخدم فرنسا دون أن أخدمها خدَمَت نفسها بنفسها الناس يقولون: «اقتلوه»، لكن الناس تُقتَل، و يقولون: «اعمل»، لكنهم هم من يعملون في النهاية، ثم يقومون بصنع نعشه.. أَتذكُر ذلك اليهودي الذي لم يكن يرغب في العمل أيام السبت؟ وكان يُرسَل إلى المعتقل التأديبي، في وقته وفي غير وقته؟ هو الآخر بقي هنا، بعد معتقلات عديدة مَرّ بها، كان يقول إنه عمل تحت تلويح السوط في أكثر من سبت، وإنه اضطرّ إلى هذا، رفقةَ محمد بن «قارة» الصائغ. «غريبوي» أو كما كان يسمّى، قد حُكِم عليه بستّ سنوات سجن، ذلك الرقيب الذي كان يجلد بكرباجه أيّ أحد، سواء حين تختلط عليه الأسماء أو حين يردّ أحدهم بكلمة «حاضر»، قبل النداء باسمه أو عند التأخُّر في الردّ، أو لمن أعطى نقوداً لأحد الفارّين (دون أن نعلم، كان باربينا من يتحمّل العواقب). أتذكُر؟ هو نفسه من عَلَّقَ الملقي (نسبة إلى ملقة) من رجليه. بمثل هذه العقوبات لن يتأتّى للعالم أن يتقدّم، وسيبدو كلّ شيء كاذباً، رغم كلّ ما توصَّل إليه الإنسان. هل هناك ما يؤلم أحدهم أكثر من اقتلاع أظافره؟ وهذا قديم قِدَم العالم. هل تذكر برناردو برنال دي بارويكوس «الباءات الثلاثة»، كما كنّا نناديه، على سبيل المزاح؟ كان يعمل مراقباً للحسابات في أحد بنوك إسبانيا. الذين لم يكونوا على معرفة به، دائماً، ينادونه «عجوز ربطة العنق»؛ لأنه لم يتخلَّ عنها يوماً، حتى في الأيام التي لم يرتدِ فيها قميصاً. ألا تذكر؟ فارع الطول وشديد النحافة (حسناً، الكل صار نحيفاً)، يشرب الحليب كلّ صباح، ترى كيف كان يحصل عليه؟ - لا أريد الموت، لا أريد أن أموت هنا. لطالما ردَّد هذا. في صباح أحد الأيام لم يردّ، دخل «مقراني أحمد بن علي» الخيمة، كان السيد «برناردو» ساكناً دون حراك، كأنه ميّت، المغربي أعطى الأمر بحمله إلى المستودع في المدينة. أبدأتَ تتذكَّر؟ حملوه على نقّالة، وفي منتصف الطريق استفاق، نادوا على الرقيب، نعم، لعلك ستتذكَّر كيف كان ردّه: «اتركوه في السجن حتى يموت، سيترك مكاناً لغيره، لقد تمّ حذف اسمه من القائمة». الكره وحَّدَ كلّ ما فرَّقه السلام، وها أنا أبدأ الحديث عن الدافع الذي جعلني أكتب هذه الرسالة، والتي قصدت إطالتها، لأني لن أكتب لك مرّةً ثانية، مازال أمامي الكثير من الساعات حتى تشرق الشمس، كفانا صراخاً: «مات إكس، ليغمر الحزن ألدّ الأعداء، أليست هناك طريقة ما لإيجاد كُره معاكس، كره يكون إيجابياً؟ الاتّحاد الوحيد الذي كان بيننا نحن- الإسبان، والآن، بين العرب والبربر، هو هذا الكره: لا صداقة و لا ازدهار، على الإطلاق، مستقبل هذه الحرب وحربنا كان دائماً مرتبطاً بضمان قتل بعضنا للبعض الآخر بعد تحقيق النصر، ومازال كذلك. - دموع دون كلمات! أتذكر أولئك الذين كانوا يبكون لأنهم لم يجيدوا الغناء؟ أنا رأيت دموع أحدهم لأنه كان عاجزاً عن الكلام. أنت لا تعلم من أين سأخرج، لا تشغل بالك، اقرأ وسترى، أتذكُر الجلفة، المعتقل، الشجرات الخمس، والشجرة المورقة الوحيدةّ، تلك التي قال عنها «التشيكي» إنها المنظر كلّه؟ براعم شديدة الاخضرار أو شيء من هذا القبيل، لا أذكر! الأكيد أنه لم يكن هنا -تقريباً- أي اخضرار لطيف، منذ بداية الليل حتى الصباح. أتذكُر بغلة الناعورة، والعُصابة الحمراء الموضوعة على عينيها؟ وما كانوا يسألونه لأيّ شخص يصل إلى المعتقل: أيّ ديانة تعتنق؟ أتعرف القراءة؟ نعم. إذاً، اقرأ النظام. وطوابير النِحافِ، كما كان يقول عنها مارسيل: « إنها طوابير من أفقده الجوع وعيه»، وكيف كان جواب المقدَّم العجوز: «إذا كنت ستموت، لماذا تريد الحرّيّة؟ لم يتِّخذوا أي شيء تجاه العجوز، ربّما، لأنهم أدركوا أن ما ناله- بخسارته الحرب- يكفيه. كنا نفكّر في الحرّيّة إذاً، لكن، ليست حرّيّتنا نحن، أتعلَم؟ ما زلت أفكِّر- من حين إلى آخر- في الأمر نفسه، الحبّ موجود (لديّ ثلاثة أبناء)، لكن التعطُّش للعدالة والتوق الشديد للتخلُّص من الشخص الذي لم يكن ينبغي أن أكونه، كلّ هذا لا يمتّ إلى زوجتي بأيّة صلة، لكنها حوايا الإنسان العميقة، تصرخ داخله: «الحرّيّة، الحرّيّة». عرفنا الكثير من السنوات العويصة المليئة بالمصائب: أولاً: كانت حربنا، ثم أضحت حرب الجميع (التي كانت الأقصر زمناً والأقلّ أهمّيّة) والآن، ومنذ سنوات، حربنا هنا، سأكذب إن قلت إني لم أكن منحازاً. يحدث مع المصيبة ما يحدث للحديد مع النار، يصلد فيزداد قسوةً. وأيضاً حرب ما بين 36 و 61، تمعّنْ قليلاً، واحسب، تقريباً، لم يبقَ لي سوى أن أقول: إن من يخسر أكثر يربح أكثر، وأقول (تقريباً) لأن هذا ليس صحيحاً. من جانب آخر، الحَرّ والبرد تجاوزا كلّ الحدود، دائماً، بالقسوة نفسها وبالشدّة نفسها، حتى منحدر التلّة. من يُغيّره؟ الرجال مختلفون كثيراً، أو- دعنا نقل- يُقتَلون في النهاية، بطرق مختلفة. أكتب لك بتمهُّل، لأرى إن كنت ستتذكَّر، تاركاً لمخيِّلتك فضاءً تحلِّق فيه. إن وصفي للأشياء كما هي سيجعلها تبدو قليلة، يجب البحث عن معالم وحبل يجعلها مرتبطة، بعضها بالآخر. كم هي ضئيلة كلماتنا أمام عَظَمة أحاسيسنا! وكم هي كثيرة الخدع التي يجب أن نلجأ إليها لندرك نور الحقيقة! كما يحدث في السينما، لا بدّ من وضع صورٍ ثم قلبها، ثم وضع شاشات، وجعل التصوير أسرع أو أبطأ من الواقع. إذا وضعت الكاميرا أمام الممثِّلين، وأعطتك الشمس إنارة جيّدة، ثم أعلنت أنك بصدد التصوير، فلن تجد من يحتمل هذا. الإنسان لا يعيش على الخبز وحده، لديه- أيضاً- مظاهر يُعنى بها. وصل سيّدي العيّاشي....... سأتابع فيما بعد. الصالح فينا يتعلّم قبل غيره، بالنسبة إلى السيّئين، ليس لهم من يعلِّمهم. فقط، هو الألم من يعلِّمنا ويقتلنا، تخدعنا السعادة كلّما حاولنا فهمها، ثم تمرّ وتخلِّفنا، لكننا- في الحقيقة- لا نتذكّر الأشياء، لجمالها أو لقبحها، بل لعمقها. كلّنا كنّا مستعمَرات، وتخلَّينا عن كوننا كذلك، آسيا الصغرى أفضل مثال، وأمريكا اليوم وغداً.. الاضطراب وحده ما جعل الإنسان يتقدَّم. في الحقيقة، قبل وصول الفرنسيين، لم يكن هناك حصن ولا حتى دار بلدية. بالنسبة إلى أيّ بلد، الجيش المهزوم أكثر خطورةً من المنتصر، ماذا يفعل؟ ماذا سيفعل؟ سينقلب ضدّ نفسه من غيظ الهزيمة، وسيكون هناك- دائماً- مدنيّون مذنبون ليُقتلوا، إن لم يكن عاجلاً فسيكون آجلاً، ومع أنها حركة بطيئة فهي أكيدة، لأن الجيش لا يحتمل أن يظهر ذليلاً أمام الشعب. الثأر ليس عقاباً. إن ما عاشته إسبانيا سنة 1923 لم يكن إلا نتيجة لما حدث فيها سنة 1898، أما في ألمانيا فكانت سنة 1918 السبب في 1932. انظر ما الذي كانت تخبِّئه هزيمة فرنسا، سنة 1940. أتذكَّر «غرافيلا» الأدرد، صاحب الرأس المخروطي الكبير، والقبّعة المطرَّزة والشعر المتفرِّق، والسترة المرقَّعة وحذاء الخيّالة؟ لم يكن الكرباج يفارق يده، والمعطف الأرقط الذي يحمل إشارات تدلّ على رتبته، وقرنان كأنهما برجان. كان من المفترض أن يكونا حقيقيَّيْن. حُكِم عليه بعشرين سنة، أمضى الأربعة الأولى منها هنا، لكنه، الآن، في «وهران» كأحد ركائز OAS، لم أكن لأستغرب عودته إلى الظهور هنا، في يوم ما: سواء أكان جثّة أم كان رئيساً لمعتقل آخر. طوال السنوات الأربعة الأولى من الحرب لم يحدث أمر يستحقّ الذكر، هنا، في الجلفة، كنا ندفع مساهماتنا لFLN، مثلما غادر بعض الشبان، ولا شيء آخر. منذ سنتين تغيَّرت الأشياء: الحَرْكية صاروا يركضون ويسارعون بالقدوم إلى هنا، الجنود الفرنسيون بدأوا بالتمشيط واعتقال الناس، وآخرون توافدوا. أنت تعرف العشائر: بعضهم لجأ إلى ظلال «كافارولي»، وآخرون اختفوا، كان هناك العديد من الاعتداءات، ومكامن وطرق ومعابر ملغَّمة، ازداد العمل في النجارة لأننا صرنا في حاجة إلى توابيت أكثر. والآن، سأقصّ عليك، بصدق وببساطة، ما دفعني إلى كتابة هذه الأسطر، لأنك- الآن- يجب أن تتذكّرني. باردينياس، يا رجل! أنا صاحب الشفة المقسومة الذي كان يشاركك الخيمة في المعتقل، الرجل الذي كان معلم مدرسة إبّان الجمهورية. ستتذكّر- أيضاً- المقبرة، أنت ترى منحدر التلّة المشتّت، الخيمة المنصوبة، كأنها نصف كرة فوق دلو مطلي، وفي الجانب الآخر من الوادي ظلام القلعة الدامس، والقرية الصغيرة نائية ومغبّرة. لم يتغيّر شيء منذ كنت تعمل في «مجال الرياضة»، من أجل مجد المقدَّم، ومن أجل أعماله، ولم تتغيَّر المقبرة. في اليوم الآخر، كان هناك لقاء، معركة حقيقية، تشبه- في شراستها- حربنا، مدافع هاون ورشاشات، الطائرات وصلت متأخِّرة قليلاً مع بعض الأضرار، لم يتبقَّ أحد، كان هناك الكثير من الموتى، أكثر من مئة فلاف، وما يقارب العشرين أوروبياً (لا أقول فرنسياً). اللقاء كان في مكان ما، قريب من المقبرة، أو- بالأصحّ- حولها. هكذا كانت النتيجة: عشرون تابوتاً، كان علينا صنعها في وقت وجيز، كنّا قد جهّزنا أربعة منها، ولم تكن سيِّئة، أحد القادة لم يناسبه أي تابوت، لأنه لم يحمل شريطاً أو دلالة على أنه صُنِع لقائد، فجعلناه لآخر، والبقية ... المشكلة كانت في السكّان الأصليّين، الثوار والفلافة. الذهاب لدفنهم في مقبرة العرب كان مجازفة، تلك التلال كانت قد اكتُسحت بالنيران، لم تكن هناك ضرورة لتنظيف الضواحي، لا في تلك الليلة ولا في اليوم الموالي. أتذكَّر المقبرة، في جانب منها يُدفَن الأغنياء رفقةَ ملائكتهم، وتوضع الحجارة على قبورهم، وفي الجانب الآخر.... صففنا- بلباقة- الجنود الفرنسيين، بألواحهم الصغيرة المرقَّمة وبصلبانهم. سأل الكابيتان: من في هذه الزاوية؟ - الإسبانيون. أتعلم من هم الذين ماتوا هنا، في المعتقل، منذ عشرين سنة؟ نعم، عشرون سنة مرّت، إن كنت تتذكَّر- أيضاً- حين جعلنا لكلّ منهم لوحاً صغيراً عليه اسمه. - إنهم متعفِّنون بما فيه الكفاية، من سيتذكَّرهم؟ كَدَّسوهم تحت الجدار، وألقوا بكلابهم في الحفرة. قال مخاطباً سكّان المدينة الأصليّين. هذا ما وددت أن أقصّه عليك. العرب الذين كانوا يعملون هنا حفروا، ودفنوا العظام القليلة المتبقّية من أجساد الموتى. هي بعض الأسماء، فقط، تلك التي مازالت راسخة في ذهني، وستخبرك بشيء ما: المادريلس، الهزيل الذي انتهى به المطاف مجنوناً، وجوليان العجوز المترهِّل، ومانويل باثكيث الإسباني، وكان أسوء متحدِّث عرفناه، ورامون غونثاليس، إسباني- أيضاً- من أورنسي، الذي كان يكره باثكيث لأنه كان من بونتيفيدرا، وخوسي مورخيا القصير القذر الذي مات بعد أن التهمه البقّ، وغوستافو كاتالا الذي كان يدّعي الذكاء، ولم يكن سوى متملِّق، وروخيليو ماركيث، الكبير بصمته وبلاهته،ودومينغو لوبيث، الأناركي صعب المراس الذي كان يمضي كلّ الوقت يتكلّم بسوء حول هذا وذاك، وخوان موراليس الكاناري الحزين، من سكان جزر كناريا، وأنريكي هرناندس الذي كان يزعم أنه بطل الشطرنج في أرغانسويلا ، ولويس غارُّوتي، مساعد مياخا، وسيباستيان موراليس، السائق الذي حاول الفرار فنال جزاءه سبع جلدات من غرافيلا، ولويس بوينو الذي رُبِط، أكثر من مَرّة، إلى أحد الأعمدة، في ثلوج شتاء 1942، حين كانت آمالنا لا تزال خضراء، وبرناردو بوينو الطبيب ... حين تأكدوا أن المكان كافٍ، كدّسوا الفلافة هناك، كان لا بدّ أن نخلِّف شيئاً منا هناك. كان القائد محقّاً: من سيتذكُّرهم؟ من سيشكرهم لأنهم ماتوا هنا، في حدود الأطلس الصحراوي، دفاعاً عن الحرّيّة الإسبانية؟ لا أحد، بالتأكيد. وطبعاً، قد مات أكثر منهم في ألمانيا، صحيح أنني لم أرهم، لكني رأيت هؤلاء. أنا أقصّ عليك الأمر كما حدث، لترويه- بدورك- لشخص ما، لم أستطع النوم هذه الليلة، ووجدتني أملك عنوانك، على الأقلّ، ذلك الذي ألفيته على رسالتك من فيراكروز، ربّما ستصلك رسالتي، فالناس لا يرتحلون كثيراً، ما إن يصبح بوسع أحدهم البقاء حتى يفعل ذلك، الحقيقة: هؤلاء يربّون الديدان لأكثر من عشرين سنة، لم يتغيَّر شيء، حتى الأشجار، الأرض تواصل فرارها نحو الغرب معجّلة بحلول الليل، لكن الحقيقة كانت أمراً مختلفاً: - احفروا هنا. قال قائد الضباط. - إنه مليء بالعظام. - ارموهم حيث كنت أودّ رميهم، احفروا، وادفنوا هؤلاء اللقطاء. بالتأكيد، أحرجني أن أكتب هذا؛ لم يكن بالأمر الهيِّن، فالرجال،دائماً، ميّالون إلى التلميح. آه! للتوّ، فرغت من قراءة رسالة باردينياس (الذي اعتدنا مناداته «الأرنب البري»)،يقول فيها: نسيت إخبارك، (أو ربّما لم يودّ، لاأعلم) أنهم سيعدمونني غداً رمياً بالرصاص، أي غد؟ اليوم سيعدمونني، يقولون إن يديَّ تفوح منهما رائحة البارود، ونسوا أننا وُلدنا هكذا ** نقلا عن مجلة "الدوحة"، العدد 98، ديسمبر 2015