يظهر من ملاحظة الواقع اللغوي في الجزائر أن الخريطة اللّسانية تتوزع على النحو التالي: 1- عربيّة فصحى اٌقترنت بالقرآن الكريم وأصبحت أثناء الاحتلال آلية دفاعية ضدّ الأجنبي ومن معالم الهويّة العربيّة الإسلامية التي تميّز الجزائريين عن المستوطنين الأجانب، وقد تعرضت خلال تلك الحقبة المظلمة إلى الاضطهاد والإقصاء، وكان معقلها الأخير حتى عشرينيات القرن الماضي الزوايا والكتاتيب، ثم المدارس الحرة التي أنشأتها الحركة الوطنية بفصيليها الأكثر حضورا على الساحتين السياسية (حزب الشعب) والثقافية (جمعية العلماء المسلمين) وهذه محنة لم يتعرض لها أي بلد في الجوار المغاربي والبلدان الأخرى في المشرق التي كانت تحت نظام الحماية البريطانية أو الفرنسية، ولذلك فإن للعربية في الجزائر من الناحية التاريخية بعدا نضاليا وضعها في صميم الوطنية الجزائرية والذاكرة الجمعية التي لا تنسى جروح قرن وثلث من الاستبداد والتفرقة العنصرية، كانت الفرنسية من خناجرها المسمومة. 2- في العربيّة الفصحى عاميات منطوقة بفروق بسيطة في اللّهجات في مختلف مناطق الجزائر يمكن إرجاعها إلى مصدرها الأصلي وهو الفصحى العربيّة مع وجود هجين من المفردات والتعابير الفرنسيّة، وخاصّة فيما يتعلّق بألفاظ الحضارة الحديثة، ومن الملاحظ أن اللغة التركية (العصمانلية) لم تترك أي أثر يذكر في الخطاب الشفوي والمكتوب بالعربية بعد حوالي ثلاثمائة سنة من الحضور العثماني، باستثناء بعض الكلمات المتعلقة بأصناف المأكولات واللباس والألقاب فقد كانت العربية هي لغة الإدارة العامة خارج ديوان الدايات والبايات. 3- لغة أمازيغيّة بعدّة لهجات فيها الكثير من المفردات العربيّة وانضافت إليها مثل العامية العربيّة مفردات من الفرنسيّة، وهناك اليوم جدل حول الحرف الذي تكتب به هل هو الحرف العربي أم اللاتيني أم التيفيناغ؟ وعلى الرغم من أننا لسنا طرفا في هذا الجدل، فإنّ الاتّفاق على كيفيّة كتابة الأمازيغيّة يتطلّب أولا توحيد لهجاتها بناء على جذعها المشترك وكتابتها بالحرف العربي، وفيه أغلب تراثها حتى القرن التاسع عشر، ولأنّ التلاميذ يتلقون التعليم في كل مراحل نظام التربية والتكوين باللغة العربيّة، فقد يكون ذلك عاملا مساعدا على إثراء الأمازيغيّة كما كان الحال بالنسبة للعبرية التي استمدّت من العربيّة نحوها وصرفها والكثير من معجمها المعاصر. 4- لغة فرنسيّة مستعملة على نطاق واسع ومستويات مختلفة بين فئات من النخبة الثقافية والاقتصادية والإداريّة ومقابلها الاجتماعي، وفي هذه الفئات متعلمون بالعربيّة من جيل الثمانينيات، غير أن التقنوقراط أكثر اٌستخداما للفرنسيّة في مجال العمل وفي الحياة اليوميّة. 5 صنف أكثر استعمالا للعربية في أسلاك التربية وبعض المعاهد الجامعيّة والموظفين في بعض مرافق البلديّة والشؤون الدينيّة بوجه عام ووسائط الإعلام الثلاثة المكتوبة والمسموعة والمرئية، ومنهم العديد ممن يتقن الفرنسيّة أو لغة أجنبيّة أخرى.
اللغة الجامعة من دعائم الوحدة الوطنية إن العربية هي اللغة الموحّدة والجامعة لكل الجزائريين وخاصة بالنسبة للنخبة كما هو الحال في البلدان التي تحرص على التجانس والانسجام الثقافي والاجتماعي، فلم تتوحد المقاطعات الثلاث في ألمانيا حتى توحيد اللغة الألمانية على يد الأخوين ''غريم'' وذلك سنة 1871 اللذين وضعا اللغة الألمانية الفصيحة المشتركة ولم يتهم أحد ألمانيا باليعقوبية (Jacobine)، فالوحدة اللسانية لا تنفي تعدد اللهجات والتعايش المفيد مع الأمازيغية والعناية باللغات الأجنبية وخاصة اللغة الإنكليزية ولغات القوس اللاتيني (l'arc latin) مثل الفرنسية والإسبانية والإيطالية ولغات العالم الإسلامي مثل التركية والفارسية والاهتمام بتدريس لغة عملاق نهاية العقد القادم، اللغة الصينية وجارتها اليابان في عالم يتجه بسرعة نحو العولمة الثقافية والمعرفية، وفرنسا ومدرسة جول فيري مثال على ذلك التوجه ونقتبس في هذا السياق من أطروحة ليفي شتراوس (L.straus) في دراسة بعنوان (الانتروبولوجيا البنيوية) (anthropologie structurale 1958) المقولات التالية: إن هناك علاقة وطيدة ومعقّدة جدا بين اللغة والثقافة. يمكن النظر للّغة باعتبارها منتوجا ثقافيا. إن اللغة هي الشرط الأول لنشأة الثقافة. لكل ثقافة بنية مماثلة تماما للّغة، ويتبين من هذه النتيجة التي استخلصها ''شترواس'' المصاعب التي يعانيها المترجمون الذين ينقلون أدبيات الإبداع نثرا وشعرا من لغة إلى أخرى، مهما كان تمكنهم من اللغة التي ينقلون إليها. ويذهب ك.ر.بوبر (K.R.Popper) الباحث في فلسفة العلوم وتاريخها في دراسته بعنوان: المعرفة الموضوعية (Objective knowledge 1972) إلى أن اللّغة من أهمّ مكوّنات عالم الإنسان، لذلك ينبغي أن تتحاشى فلسفة اللغة الدوران في متاهات الألفاظ بل تقتصر على تفسير الوظائف الأربعة الأساسية للّغة وهي: - التعبير - الإشارة - الوصف - الحوار ولكي تكون فعلا لغة ينبغي أن تثير استجابة فردية أو جماعية وهذه خاصية لغة البشر دون الكائنات الحية الأخرى التي تشترك مع الإنسان في المستويين الأولين بينما يتفرد الإنسان بالوظيفتين الوصفيّة والحوارية. أيا كانت تلك الجهود المبذولة على المستوى القطري وعلى مستوى مردودها داخل المنطقة وخارجها في المدى المنظور، فإن المنطلق والرهان الحقيقي لتمكين اللغة العربية في الألسنة والعقول، يتمثل في رأينا في المرحلة الابتدائية والإعدادية من التعليم التي ينبغي أن تحظى بالأولوية في كل مشروع للإصلاح في المضامين والمناهج التربوية وذلك بالعمل على تحيينها والإعداد الجيد للمعلمين والرفع المستمر من كفاءاتهم البيداغوجية، وتحبيبهم في مهنتهم عن طريق الحوافز الماديّة والتقدير المعنوي من طرف مؤسسات الدولة والمجتمع. ومن المهم كذلك دعم التلاميذ والمربين بالشرائط السمعية البصرية والوثائقيات المدروسة والأقراص المدمجة وأدب الأطفال وخاصة منها كتب الخيال العلمي واستخدام تكنولوجيا المعلومات بعد إتقان العربية وامتلاك رصيدها الوظيفي في المرحلة الأساسية. نحو علمية العربية إنّ الشكوى من ضعف تعليم اللّغات الأجنبيّة في المدارس يطرح أحيانا في صورة حقّ لا يراد به الحقّ وحده، فإتقان العربيّة أولوية لا تلغي تعلّم الألسنة الأخرى، فهناك مناهج لتعلّم أساسيات أيّة لغة في أقلّ من سنة تعرف بالحمام اللّغوي، فمن المفيد بعد إتقان اللّغة الجامعة أن يتعلّم التلاميذ ما يختارونه من اللغات الأخرى، وقد أثبتت دراسات علم النفس اللّغوي أنّه من النادر أن يتقن الشخص لغتين أو أكثر بنفس الدرجة من الفصاحة والاٌلمام بخباياها البلاغية د. حنفي بن عيسى محاضرات في علم النفس اللغوي 1976 . لقد أولينا عناية كبيرة للجوانب العلمية والتكنولوجية، وساهمنا في إطار مؤسسة المجلس في عدد من الندوات الوطنية والدولية لتكنولوجيا المعلومات والعربية في الإدارة الإلكترونية وعملنا مع فرق من الخبراء على إعداد دليل مفصل للمعلوماتية ثلاثي اللغة (عربية إنكليزية فرنسية) موجّه للباحثين والمتكونين في هذا الميدان، وهناك دليل آخر للمصطلحات والمفاهيم الخاصة بعلوم الطبيعة والفيزياء والكيمياء بهدف توحيد المصطلحات والمفاهيم في نظامنا التربوي في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي وذلك بالتعاون مع وزارة التربية الوطنية وبالرجوع إلى ما اٌتفقت عليه المجامع المختصّة ومكتب تنسيق التعريب في الرباط، وسوف يكون جاهزا قبل الدخول المدرسي 2010-,2011 يضاف كل ذلك إلى سلسلة الأدلّة المتعلّقة بمصطلحات الإعلام والاتصال والإدارة والماليّة والمحاسبة والمحادثة الطبيّة والوسائل العامّة إلخ... أصدرت مؤسسة المجلس بالإضافة إلى عملها الميداني 110 مدونة وثّقت مختلف نشاطاتها ويستعد في شهر أبريل القادم للاحتفاء بتوزيع جائزة اللغة العربية التي تنظم كل سنتين في عدة مجالات من بينها الطب والصيدلة وعلوم العربية والاقتصاد والتاريخ، كما أن للمجلس مجلة نصف شهريّة محكمة بعنوان ''العربية'' وصلت إلى 24 عددا، وصدر في بداية أبريل 2010 العدد الثاني من مجلته ''معالم'' المتخصصة في ترجمة مستجدات الفكر والعلوم والإبداع من مختلف اللغات العالمية، وستتضمن أعدادها القادمة ملفات من بينها الاستشراق ومابعد الكولونيالية .Post colonial العربية هي لغتنا الجامعة داخل كل قطر ومن آخر الجوامع بين البلدان العربية بغض النظر على التباين في السياسات والاديولوجيات والخصوصيات الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي يمكن التعبير عنها بالفصحى الجامعة، إذ لا توجد في العالم مجموعة من 22 بلدا يمكنها التواصل والتبليغ بلغة واحدة وموحّدة، والاتحاد الأروبي مثال على ذلك فأعضاؤه الحاليون يحتاجون إلى جيش من التراجمة للتخاطب والحوار، ووثائقه تصدر بلغات أعضائه السبعة والعشرين، وتطغى عليها الإنكليزية التي نقلها العم سام من العولمة إلى الكوكبية (Globalisme). إن تطوير استعمال العربية في المدرسة ومرافق الدولة والمجتمع بوجه عام علامة لا تخطئ على نهضة بلدان المنطقة، ويقع على كاهل النخبة القيادية في كل المواقع، مسؤولية كبيرة في المحافظة على هذا الكنز ورصيده الذهبي، ولن يتحقق ذلك بدون استراتيجية بعيدة المدى تستكمل تحرير الأرض بتحرير الاٌنسان من الانبهار بثقافة الآخر والدوران حول مائدته واستهلاك ما يتناثر منها من فتات، وتحريره كذلك من الانسحاب إلى تراث السلف والاقتصار على اجترار مقولاته، فاللغة ومضامينها العلمية والإبداعيّة من أسس القوّة الذاتية للأمة وقوام أمنها ومكانتها بين دول العالم. ليت الإعلام الوطني والعربي يشيع الثقافة العلميّة ويخصّص حيّزا لقضايا اللغة والتقانة والبحث العلمي النظري والتطبيقي في بلادنا وفي محيطنا القريب والبعيد ويطلع رأينا العام على ما يستجدّ من أفكار واجتهادات نظريّة واكتشافات واختراعات علميّة، يشار إليها أحيانا في باب المتفرقات، من الظلم أن تعتبر العربية لغة الشعر فقط وننسى أن ذخيرتها في الرياضيات والهندسة والطب والفيزياء، تصدرت مكتبات الجامعات الأروبية حتى القرن الخامس عشر.
خلاصة من المهم أن يتدارس السّاسة والمختصون من أهل الفكر والذكر والمعنيون بالتدبير والتسيير في ما يشبه حالة طوارئ، للنظر في خلاصات ما تحقق من نقل وتوطين للعلوم والتقانات وتقييم حصيلة نصف القرن الأخير بميزان العقل والنقد ونقد النقد وبحث واقع البحث العلمي،و الانطلاق نحو إرساء قواعد لمنظومة قطرية ومشتركة لبناء مجتمع واقتصاد وسياسة تكون الفلاحة والصناعة والرفع من مستوى التكوين والتأهيل من أولوياتها الدائمة، سياسة تقوم على حب الأوطان وحب المعرفة فذلك هو السبيل للتخلّص من التهليل المُضّلل والتأييس المحبط. إنّ البلد الذي يتقدّم هو الذي يعدّ شبابه لمستقبل يبدأ من اليوم، وينمي الخبرة والتأهيل من داخل مقومات هويته، ويرى في شبابه أهمّ صندوق للتوفير والادّخار لبناء ثروته البشريّة القائمة على الذّكاء والطموح وهما الوقود الحيوي المتجدّد للتطوّرو الازدهارو والأمن والاستقرار. خلاصة القول إنّ العربيّة يمكن أن تتحرّر من التسييس والأدلجة وتستغني عن المرافعات المؤيّدة وعرائض الاتهام المعارضة إذا كانت لغة الدين والدنيا والدّولة، ونقصد بالدّنيا الحياة الثقافيّة والاقتصاديّة والعمليّة والخبرة والتّأهيل بين مثلّث حرف ''الدال: دين - دنيا - دولة'' يتأرجح مصير العربيّة في بلادنا وفي كلّ أوطانها.